محمد سلماوي.. يومًا أو بعض يوم (1)

بقلم: محمد عبدالعزيز

| 15 يونيو, 2024

بقلم: محمد عبدالعزيز

| 15 يونيو, 2024

محمد سلماوي.. يومًا أو بعض يوم (1)

لفت نظري جمال عنوان سيرة الصحفي محمد سلماوي “يومًا أو بعض يوم”، المقتبس من القرآن الكريم في قوله تعالى: {قال قائلٌ منهم كم لبثتم قالوا لبثنا يومًا أو بعض يومٍ ۚ قالوا ربُّكم أعلم بما لبثتم}، وفي الجزء الثاني من المذكرات أطلق عليها “العصف والريحان”، اقتباسًا من {والحَبُّ ذو العصف والرَّيحان}.

والصراحة، قرأت السيرة وأنا متشكّك، فأنا أختلف مع الكاتب محمد سلماوي في كثير من آرائه السياسية والفكرية، لكني قلت أجرّب، فهو صحفي مُهم عاش عدة عصور سياسية.. ومع بدء القراءة اندمجت في عالم محمد سلماوي، فهي سيرة مختلفة، فقد وُلد في أسرة مصرية ميسورة في أواخر الحقبة الملكية، وقد تعوّدت قراءة كثير من سِيَر هذه الحقبة، لكنها كانت بقلم الأفندية والمثقفين من أبناء الطبقة الوسطى والطبقة الكادحة الفقيرة، مثل إبراهيم الورداني في سيرته “فلاح في بلاط صاحبة الجلالة”، وسيرة سليمان فياض الشيّقة “أيام مجاور”؛ أمَّا المختلف في سيرة محمد سلماوي فأنّ أسرته عاشت الغِنى والقرب من الطبقة الحاكمة في الحقبة الملكية، وهذا يمدنا بمنظور مختلف لحياة هذه الطبقة.

في مذكرات محمد سلماوي نرى حكاية واحد من أبناء الطبقة الغنية قبل ثورة يوليو، ثم تحوله إلى الناصرية، وفي هذه السيرة تتعرَّف الجوَّ الثقافي في مصر، وتتعرَّف محمد حسنين هيكل، وهي سيرة ممتعة ولا تشعر معها بالملل، وتركز على سنوات الستينيات من القرن العشرين، وعن سجنه في انتفاضة الخبز التي سمَّاها السادات “ثورة الحرامية”.

عائلة ثرية في العهد الملكي

في عهد السلطان حسين كامل، الابن الثاني للخديو إسماعيل، حصل محمد السلماوي، جد الكاتب، على لقب “البيكوية”، كما كانت تُكتب في ذلك الوقت، وتزوَّج من بهية هانم رضوان، من جزيرة الذهب بالجيزة، وأنجب منها والد الكاتب، عام 1915م.

في المذكرات يحكي سلماوي عن بيت عائلته، الذي احتوى عددًا من العبيد، مع أن الخديو إسماعيل ألغى تجارة العبيد قبل ذلك بسنوات، بعد أن فرض عليها سعيد باشا حظرًا رسميًّا، لكنها لم تنتهِ عمليًّا إلا مع التوقيع على اتفاقية إلغاء الرق والعبودية في جنيف عام 1926م، لكن يبدو أن العائلة كانت تُحسن معاملة عبيدها، فقد عمل بعضهم بعد ذلك في مصلحة النقل العام، وذات مرة كان والد محمد سلماوي يقود سيارته ورآه إمام، وهو واحد من الرقيق الذين كانوا في أسرته، فترك على الفور الأتوبيس بركابه وسط الشارع، ونزل ليسلم على والد محمد سلماوي.

ولو نظرنا في مذكرات شخصيات شهدت نهاية تجارة الرقيق، لرأينا ذكريات عن هؤلاء الرقيق، مثل ما حكاه عبد الحميد جودة السحار عن الرقيق في منزلهم، وحيرتهم إلى أين يذهبون بعد قرار إلغاء العبودية، ولو جُمعت ذكريات الرقيق من بطون الكتب لرأينا صفحة من تاريخ الناس في مصر.

نرى في المذكرات حكايات سلماوي عن جدته، التي يتسم الماء في منزلها برائحة زكية، وهي رائحة ماء الزهر، ولما سألها وهو طفل: “أليس عندكم ماء سادة؟”، فقالت له في تعجُّب: “ليه هو إنت هاتغسل بيها إيديك يا ولد؟ مية الغسيل فقط هي اللي من غير ماء زهر”! ومع الوقت أحبَّ سلماوي تلك الرائحة الفوَّاحة، التي كلما شمَّها في الماء تذكَّر جدته رحمها الله.

تُوفيت جدة سلماوي عام 1976م، وكانت تقول له في أيامها الأخيرة: “أكتر اثنين كرهتهم في حياتي هما جدك وعبد الناصر”، وبالطبع كرهت عبد الناصر بسبب قوانين الإصلاح الزراعي، التي حرمت العائلة من مساحات شاسعة من أراضٍ خصبة كانوا يملكونها، وهذا يذكرني بغضب عبد الرحمن بدوي في مذكراته من حكم ثورة يوليو، لأنها سلبت أملاك عائلته أيضًا بسبب تلك القوانين، لكن سلماوي فشل في معرفة سر كراهية جدته لجده.

جد أرستقراطي

في المذكرات حكايات سلماوي عن جده، محمد شتا بك، وهي حكايات شيقة، ففي عام 1960م، وفي سياق احتفال “أخبار اليوم” بالذكرى السادسة عشرة لتأسيسها، كتب مصطفى أمين عمّن دعموا الجريدة، ومنهم أحمد عبود باشا وأمين يحيى باشا والوجيه محمد شتا بك، الذي عرض أن يقرض المؤسسة 50 ألف جنيه دون فوائد، لكن المؤسسة رفضت بحجة أنها تعرّض الأموال للضياع، ليرد هو عليهم: “ما رأيكم أن أهديكم خزانتي الحديدية؟ هذه الخزانة تجلب الحظ”، وقد جلبها خالية، ومن حينها جلبت الخزانة الحظ للمؤسسة العريقة.

وفى مقال مصطفى أمين نفسه، روى قصة طريفة كان بطلها محمد شتا بك أيضًا، إذ كان الجيش الإنجليزي قد عرض مليون فردة حذاء للبيع بعشرين جنيهًا فقط، لأنها كانت كلها “فِرَد شمال”، فاشتراها شتا بك على الفور، وعندما سأل عن “الفِرَد اليمين”، قالوا له إن المركب الذي يحمل “الفِرَد اليمين” غرق في البحر، لكنه لم يقتنع بذلك، وبحسِّه التجاري ظل يبحث عن “الفِرَد اليمين” الضائعة، حتى وجد الجيش البريطاني يعرض مليون فردة حذاء بمئة جنيه، “فِرَد يمين”، فظل يتفاوض حتى يخفض المبلغ إلى 60 جنيهًا، واشتراها، ووضعها مع “الشمال” وربح ملايين.

نرى في صور الكتاب، التي وضعها سلماوي، صورًا لمحمد شتا بك مع المندوب السامي مايلز لامبسون، وصورة لجده مع الحاج أمين الحسيني في فلسطين، وصورة من خبر صحفي من إهداء جده هدية منشة من سن الفيل إلى مونتغمري، قائد قوات الحلفاء في الحرب العالمية الثانية، فضلًا عن إظهار صداقة ممتدة بين شتا بك وطلعت باشا حرب، وأحمد حسنين باشا، مدير الديوان الملكي في عهد الملك فاروق، ويُظهر هذا الفصل الطبقة التي أتى منها محمد سلماوي وتحولاتها مع ثورة يوليو عام 1952م.

 ولادة في زمن الحرب العالمية الثانية

وُلد محمد سلماوي يوم الجمعة في عام 1945م، ولم تصدر جريدة الأهرام يومها، تلك التي سيُمضي أكثر سنوات عمره في العمل بها، وسبب عدم صدور الجريدة أن العاملين اعتادوا أن يأخذوا يوم الجمعة عطلة، لذلك لم تكن الأهرام في تلك السنوات تصدر أيام السبت.. فكّرتُ هنا في هذا الزمن البطيء، وهو زمن نهاية الحرب العالمية الثانية، الذي يمكن أن تأخذ فيه جريدة بحجم الأهرام عطلة من أخبار العالم، وزمننا الذي تتدفق فيه الأخبار لحظة بلحظة من كل بقعة، وهي أخبار حزينة في الغالب، تفوق قدرة الإنسان على تحمل كل بشاعة الجنس البشري، وأخص بالذكر العدوان الإسرائيلي وجرائمه، كيف تُتعب هذه الأخبار الإنسان، وكيف لا يجرؤ على الهرب منها، لأنه يريد أن يشعر بأنه يحس ويتألم لمصاب أهله في غزة.

لم يكن والد محمد سلماوي يميل كثيرًا إلى الزراعة مع أنه كان مهندسًا زراعيًّا؛ فقد اتجه إلى التجارة، وصار رجل أعمال تستهويه المغامرة، التي كان يجدها مع كل صفقة جدية ينجح في تحقيقها، وحقق من خلالها إنجازات كثيرة، وقد خضعت شركته للتأميم عام 1962م، ولم ينقذه من الإفلاس إلا تلك الأرض التي لم تلقَ منه اهتمامًا سابقًا.

كان والد سلماوي كثير الأسفار بسبب عمله مع الخارج، كانت أسفار العائلة كثيرة، وكان أطولها هي تلك التي أمضت فيها عائلته ستة أشهر كاملة في الولايات المتحدة عام 1950م، إذ كان والده يتم بعض الاتفاقيات الخاصة بعمله التجاري، وفي نيويورك التحق والد سلماوي ووالدته بمعهد ديل كارنيغي للتنمية الذاتية، ونشأت بينهما وبين مستر ديل كارنيغي وزوجته صداقة، وقد أهداهما كارنيغي بتوقيعه بعض أشهر كتبه: “كيف تكسب الأصدقاء وتؤثر في الناس؟”، وكتابه “كيف تدع القلق وتبدأ الحياة؟”.

عندما قرأتُ هذه العناوين تذكرت أنها كانت من أوائل الكتب التي عرفتها في حياتي القرائية، وقد تعلمت كثيرًا من كارنيغي، خصوصًا في كتابه “كيف تكسب الأصدقاء؟”، في فترة المراهقة، واستفدت من نصائحه بشأن معالجة القلق الذي أعيش معه في حياتي، لكن مع الوقت والزمن استوعبت مشكلات في فِكَر كارنيغي، وسياق ظهورها في المجتمع الأمريكي الرأسمالي، لكني لا أنكر أني استفدت منها في مرحلة ما.

يحكي سلماوي عن والده أنه في إحدى المرات استدعاه الوزير مصطفى نصرت بك، وعنفه بشدة على تأخره المستمر، مذكرًا إيّاه بأن “الوزارة دي مش عزبة أبوك!”، وهو ما أغضب والد سلماوي فرد عليه فورًا: ولا هي عزبة “أبو معاليك”!.

على أن والد سلماوي توسع في أعماله، واتجه إلى العمل مع أوروبا وأمريكا، فحصل على توكيل بعض أكبر الشركات العالمية، وحصل والده على التوكيل الحصري لسيارات “بي إم دبليو”، وسيارات “فولكس فاجن”، التي أدخلها لأول مرة إلى مصر، وكان ثمنها آنذاك أقل من 5000 جنيه، لكن الإقبال عليها لم يكن كبيرًا في البداية، وكان من يأتون لشرائها يشكون من أن شكلها “مكبّب”.

كما أدخل والده استخدام الطائرات في رش المبيدات، حتى إنه رش مزارع الملك فاروق، وكافأه الملك بلقائه في يوم 4 يونيو 1952م في قصر عابدين، ولم يستغرق الملك أكثر من ربع ساعة في اللقاء.. قال له الملك وهو يودعه: “شكرًا يا سلماوي باشا”. وهكذا حصل والده على لقب الباشوية قبل ثورة يوليو بأشهر قليلة، وتوضح المذكرات علاقات والده التجارية مع الولايات المتحدة وثراء العائلة.

 مراهقة محمد سلماوي

ينقل سلماوي قول عالم النفس “فرويد” إن سنوات التكوين في عمر الإنسان هي السنوات السبع الأولى في حياته؛ لكنه يجد أن سنوات التكوين الحقيقية في حياته هو، تلك التي شكلت وجدانه ومشاعره الأساسية في الحياة، هي سنوات المراهقة، التي اصطدم فيها بشكل مباشر بحقائق الحياة، وقد كان في مأمن منها طوال السنوات السبع الأولى، التي يتحدث عنها (فرويد) ‫ في سنوات المراهقة؛ فقد تحدَّى سلماوي كل شيء، ووصل به التمرد إلى منتهاه حين اختار أن يكون مُلحدًا ولا ينصاع إلى عقيدة لم تُقنع عقله المتمرد، لكن تلك القصة لم تدُم طويلًا، إذ سرعان ما اكتشف أن قلبه مؤمن: “وإذا كان عقلي قاصرًا عن فهم الله، فذلك لأنه من المحال إخضاع ماهية الذات الإلهية للعقل البشري الذي خُلق لتدبر أمور الدنيا”.

في مراهقة سلماوي، اتخذ من صيحة الفيلسوف الألماني “نيتشه” الشهيرة شعارًا له: “إني هكذا، وسأظل هكذا، ولتذهبوا جميعًا وتشنقوا أنفسكم”، ويحكي سلماوي عن بدايات تعرفه – في المراهقة- الجنس والعلاقات، وقد اعترف في مذكراته بعلاقاته تلك.

قراءات المراهقة

كانت قراءات سلماوي في ذلك الوقت في معظمها باللغة الإنجليزية، وبعضها باللغة الفرنسية، وقليل فقط كان باللغة العربية، ومن بين أدباء اللغة العربية لم يكن إحسان عبد القدوس كاتبه المفضل، كان يفضل عليه يوسف إدريس وتوفيق الحكيم ويحيى حقي، لكن سلماوي كان يَعجَب كيف يستطيع إحسان أن يكتب كل أسبوع قصة جديدة، وقد ظلت تلك الحيرة تلازم سلماوي إلى أن قابل إحسان بعد ذلك بنحو عشر سنوات، وقد أصبح رئيسًا لتحرير الأهرام، التي انتقل سلماوي إلى العمل بها، فسأله سلماوي كيف كان في الستينيات يكتب كل أسبوع قصة جديدة في مجلة “صباح الخير”، وهل كان لديه مخزون من القصص، يبعث بإحداها إلى المطبعة كل أسبوع!

أكد له إحسان أن كل القصص التي نشرها في “صباح الخير” كُتبت في الأسبوع الذي نُشرت فيه، ثم قال له ما زاد حيرة سلماوي، حين أوضح له أن السر وراء غزارة إنتاجه من تلك القصص، أنه حين كان ينتهي من كتابة القصة، كان يحرص على ألا يعيد قراءتها خشية أن يظل يغير ويعدل فيها، وهو ما لا تسمح به ظروف الطباعة في مهنة الصحافة، ثم قال له ما هو أعجب، وهو أن ذلك أصبح عادة عنده حتى بالنسبة إلى الأعمال الأخرى، التي لم تكن تنتظرها مطابع الصحافة، فلم يكن يعيد قراءة أي من أعماله بعد أن ينتهي من كتابتها، وبالنظر إلى المستوى الأدبي لأعماله، فلا بد أن إحسان عبد القدوس كان يمتلك عبقرية خاصة – كما يقول سلماوي- سمحت له بهذا التدفق الكتابي.

1 تعليق

  1. عيسى

    مقال جميل يا استاذ
    لا يمكن صياغة هذا التعريف باحسن من ذلك “وإذا كان عقلي قاصرًا عن فهم الله، فذلك لأنه من المحال إخضاع ماهية الذات الإلهية للعقل البشري الذي خُلق لتدبر أمور الدنيا”.

    الرد

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

واشنطن تسعى لمزيد من الشفافية من إسرائيل بشأن خططها للرد على إيران

واشنطن تسعى لمزيد من الشفافية من إسرائيل بشأن خططها للرد على إيران

تتزايد حالة القلق في الإدارة الأمريكية إزاء عدم إطلاعها على تفاصيل العمليات العسكرية الإسرائيلية، خاصة فيما يتعلق بالرد المحتمل على إيران. وتأمل واشنطن في تجنب مفاجآت مماثلة لتلك التي واجهتها خلال العمليات الأخيرة في غزة ولبنان. كان من المقرر أن يجتمع وزير الدفاع...

قراءة المزيد
الحالة العامّة للأسرة والمرأة في الجاهليّة قبيل ولادة النبيّ صلى الله عليه وسلم

الحالة العامّة للأسرة والمرأة في الجاهليّة قبيل ولادة النبيّ صلى الله عليه وسلم

عند الإطلالة على حالة عموم النساء في المجتمع الجاهليّ، وما اكتنف الأسرة آنذاك، فيمكننا وصف وتقييم الحالة بعبارة واحدة، وهي: انتكاس الفطرة، وتشوّه معنى الرجولة، وغيبوبة الأخلاق. كان الزواج يتمّ على أنواع عدة، كلّها إلا واحدًا يظهر مدى الانحدار القيمي والظلام الأخلاقي،...

قراءة المزيد
ما بعد الاستعمار.. وفتح الجراح القديمة

ما بعد الاستعمار.. وفتح الجراح القديمة

من الملاحظ أنه في عصرنا، عصر العولمة، نجد أن الثقافات والهويات العربية أصبحت تتعرض لضغوط غير مسبوقة، لكي تكون مغمورة ومنسية ومجهولة، نتيجة الانفتاح الكبير على العالم، وتأثير الثقافة الغربية وغزوها للعقول العربية، لا سيما فئة الشباب؛ فتأثيرات العولمة عميقة ومعقدة...

قراءة المزيد
Loading...