أزمة خطاب ديني أم ماذا!

بواسطة | يونيو 8, 2024

بواسطة | يونيو 8, 2024

أزمة خطاب ديني أم ماذا!

إن أزمة الخطاب الديني وأزمة التدين بشكل عام هما قضيتان متلازمتان، تُنتج إحداهما الأخرى كتعبير عن عمق الأزمة الثقافية والاجتماعية والسياسية القائمة في أي مجتمع من المجتمعات، فلا يمكن مطلقاً فك الاشتباك الحاصل بين الواقع السياسي وأزماته المعقدة، وأزمة التدين والخطاب الديني التي تمر بها أجيال هذه اللحظة العربية، كانعكاس طبيعي لهذا الواقع السياسي المأزوم الذي يعيشونه.

ولهذا يُنتج هذا الواقع مشكلاته وأزماته وخطابه الديني، ويحصل عكسه في الوقت ذاته، فمنذ ما بعد ثورات الربيع العربي صار فشل جل هذه الثورات يولِّد في مجتمعاتنا ما يشبه الكفران بالخطاب الديني، وخاصة بعد أن تم توظيف جزء كبير من خطاب المؤسسات الدينية الرسمية وغير الرسمية في معركة السياسة، وإعادة إنتاج خطاب ديني يتناسب وتوجهات السلطات القائمة الانقلابية، ومموليها من أنصار الثورات المضادة، وهو خطاب ديني نقيض للخطاب الديني الذي تقف وراءه الحركات الإسلامية، عدا عن كونه نقيضًا للخطاب الإسلامي العام عموماً.

وهذا الاشتباك حاصل بين خطابين، خطاب ديني رسمي يعيد صياغة الدين وتكييفيه بطريقة تتناسب والاستخدام الحكومي الرسمي له، والخطاب الديني الذي تنتجه الحركات الإسلامية التي كان لها حضور لافت خلال ثورات الربيع العربي.. وزاد هذا الاشتباك بين الخطابين من عمق أزمة الخطاب الديني القائمة وتعقيداتها في العالمين العربي والإسلامي بشكل عام.

فمقابل الخطاب التبشيري للحركات والجماعات الإسلامية بانتصار نموذجها الإسلامي في الحياة، كان ثمة خطاب ديني رسمي، يُكفِّر ويشيطن ويفسّق أي خطاب ديني لا ينبع من القنوات الرسمية للسلطات الحاكمة، وهو الخطاب الذي ساد وفرض وجوده بالقوة والقهر، كما حصل في عديد من المجتمعات التي وصلت لقتل وسجن وسحل كل من يحمل خطاباً دينياً لا يتوافق مع الخطاب الديني الرسمي لها، وهو ما تجلى بعد ذلك بحروب وصراعات دامية لا يزال بعضها قائماً حتى اللحظة.

ومن بين ثنايا هذه الأزمة، تولدت حالة إحباط شديدة في أوساط الشباب العربي، الذي رأى أن أحلامه الدنيوية وأشواقه الروحية تنهار أمامه وتتحطم على وقع خطاب تكفيري رسمي، يرمي كل مخالفيه بالكفر والفسوق والإرهاب والتطرف، وتبعات مثل هذا الخطاب من القتل والسجن والمنافي، ما جعل شريحة من الشباب قليلي التحصيل العلمي والتكوين المعرفي والروحي، وقليلي التجربة والخبرة الحياتية أيضا، يقعون فرائس سهلة لسيل من الرسائل الإغوائية والإغرائية، التي تضج بها وسائل التواصل ومنصاتها المتعددة، مختلفة الأغراض والأهداف.

فأمام هذا الفضاء الرقمي المفتوح اليوم، وحجم المادة المتدفقة ترفيهاً وتشويقاً وإغواءً وتشكيكأً وتوجيهاً، تقف أجيال من الشباب الصغار في حيرة كبيرة وتيه لا حدود له، وتتناوشهم سيول من الأسئلة والرغبات والفِكَر والتوجهات، فيسقط كثير منهم تحت سطوة هذا التدفق المنفلت من الرسائل والسياسات المختلفة، الذي يحدث وسط انفتاح الفضاء العام وموجة من التفاهة التي يقف وراءها جيوش من الجهلة وأشباه المتعلمين، ممن لا يمتلكون من مؤهلات العلم والمعرفة والقيم والسلوك شيئا، وكل إمكانياتهم هي امتلاك جهاز ذكي، وقيمة باقة إنترنت، وفتح حساب على إحدى منصات وسائل التواصل، ليبدأ مشوار بث سيل التفاهة والتسطيح الذي يقوم به.

مثل هذه الفوضى المعرفية في كل شيء، من أزمة خطاب ديني إلى موجة من الإلحاد والعدمية، وصولاً حتى عالم من التفاهة الممتدة في كل مكان تلتفت إليه.. كل هذا يشكل الصورة العامة لعالم اليوم، الذي لن يقف عند تحديات مخرجات عالم التفاهة فحسب، بل وصل أيضا إلى أزمات كبرى عديدة في التصورات والرؤى الكونية ككل، من الاقتصاد إلى السياسة، ومن الأخلاق إلى الفلسفة، ومن الإيمان إلى الإلحاد؛ وكلها في المجمل تنبئ عن أزمة رؤى كليه للكون ككل.

ومن هنا نعود مجدداً لسؤال الدين في هذا الوجود والفضاء العام: هل لا يزال الدين وحده القادر على الإجابة عن أسئلة الإنسان اليوم، بعد أن عجز الانسان نفسه وفلسفته وتصوراته عن الإجابة عن أسئلته الكثيرة أمام حالة الفوضى والعدمية الحاكمة لإنسان اليوم؟ هل لايزال الدين وحده القادر على إعادة الهدأة والسكينة للإنسان، ونشر قيم الخير والجمال والمحبة والتسامح، بعد كل ما علق بالخطاب الديني من تشوهات وخرافات وأباطيل؟

إن أزمة الخطاب الديني اليوم – كما أؤكد دائماً- لا تنبع من عجز الدين وقصوره عن الإجابة عن تساؤلاتنا، وإنما تكمن في اختطاف الخطاب الديني، وتوظيفه خارج سياق رسالته الدينية التي جاء بها الأنبياء والمرسلون عليهم السلام. إن الخطاب الديني اليوم مختطف تماماً، وعلق به الكثير من التصورات المسيسة والموجهة، فلكل جماعة خطابها، ولكل مؤسسة خطابها، ولكل تيار أو شيخ خطابه، وهو ما جعل الخطاب الديني عرضة للتشوهات والقصور، وانعكس ذلك في نفور كبير من قبل شباب هذه اللحظة عن هذا الخطاب المشوش.. وللأسف، لا تمتلك معظم أجيال هذه اللحظة القدرة على التمييز بين الدين والتدين، وبين الدين وخطابه المختطف.

إن تداعيات أزمة الخطاب الديني اليوم كارثية وخطيرة على هذه الأجيال ضعيفة التكوين المعرفي والديني معاً؛ وهذا ما ينتج عنه خواء وعدمية قاتلة، تجعل من السهولة بمكان وقوع شرائح عديدة من هؤلاء الشباب في حبائل وإغواءات موجة ما بعد الحداثة وسيولة القيم والتوجهات فيها، وهي السيولة التي أنتجت كل هذه العبثية من الإلحاد والمثلية والإدمان والانتحار، وموجة اللامعنى التي تجتاح أجيال هذه اللحظة.

ولهذا كله، فإن الدين كرسالة خالدة، وحده لايزال قادراً على مواجهة كل هذه الفوضى والعبثية المخيفة، وإعادة المعنى للوجود والحياة كلها، ولكن شريطة أن يتم تحرير الدين أولاً من سطوة الخطاب الرسمي، وتحريره من سطوة مشائخ البلاط ووعاظ السلاطين، أو من يسمونهم بشيوخ ذيل بغلة السلطان، فالدين في العالم العربي والإسلامي مختطف من قبل السلطويات الحاكمة.

إن الخطاب الديني المحرر من سطوة التوجهات النفعية والبرجماتية المسيسة، الخطاب الديني النابع من تصورات دينية دقيقة متحررة من التشوهات والتفسيرات المتحيزة، لايزال لديه الكثير من الإجابات عن تساؤلات هذه الأجيال، لما للدين من دور مركزي وجوهري في تاريخ البشرية، وقدرة تفسيرية دقيقة للوجود والكون، عدا عما يضفيه من معنى حقيقي لهذا الوجود كله.

أما الخطاب الديني المأزوم فيظل خطاب أزمة يُنتج مزيداً من التشوهات والأزمات، ولا تقف خطورة هذا الخطاب في عدم قدرته على مواجهة موجة العدمية والإلحاد اليوم، بل خطورته أنه أحد أهم روافد إنتاج حالة الإلحاد والعدميّة القائمة هذه، لما يحمله هذا الخطاب المأزوم من تشوهات خطيرة تشوش صفاء الدين، وتعكر تصوراته وسلاسته وبساطته، وتضرب قداسته في النفوس.

إننا بحاجة ماسة اليوم لإعادة الاعتبار للدين كدين بتحريره من خاطفيه، سواء كان خاطفوه دولاً أم أحزاباً أم جماعات أم أفراداً، أم أيّاً ممن يختطف الخطاب الديني ويوظفه في تحقيق مصالحه الخاصة وأهدافه على حساب جوهر الدين ونقائه وإنسانيته وعالميته، فالدين هو حالة روحية بأشواقه وآماله ووعوده للإنسان، وبكل تصوراته التي تعطي معنىً حقيقيّاً للوجود الإنساني على سطح هذا الكوكب، وبدون الحقيقة الدينية لن يكون أمام هذه البشرية من مخرج سوى الذهاب إلى حافة الهاوية.

وختاماً، فإننا مطالبون اليوم أكثر من أي وقت مضى، بالعمل الجاد والصادق لإعادة الاعتبار للدين ودوره العالمي كقيمة روحية وأخلاقية عظمى، لا يمكن تجاوزها بحال من الأحوال.. هذه القيمة نابعة من مركزية التصور الديني للكون والوجود كله، وبدون هذا التصور الديني فلا معنى للحياة والوجود سوى العدم.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

هموم عُمَريّة في الساعات الأخيرة ومصير المتآمرين على اغتيال أمير المؤمنين

هموم عُمَريّة في الساعات الأخيرة ومصير المتآمرين على اغتيال أمير المؤمنين

بعد أن طُعن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه في المحراب في صلاة الفجر، يومَ الرابع والعشرين من شهر ذي الحجة، في السنة الثالثة والعشرين للهجرة، احتمله الناس إلى بيته وجراحُه تتدفق دما. همّ الخليفة أن يعرف قاتله كان من أوائل ما طلبه أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه أن يعرف...

قراءة المزيد
حينما يتمسح العرب بزيدان ولامين يامال وشاكيرا وأوباما !

حينما يتمسح العرب بزيدان ولامين يامال وشاكيرا وأوباما !

أواخر التسعينيات من القرن الماضي، فوجئ العرب بحدث مثير: صور تملأ وسائل إعلام الدنيا تجمع "دودي الفايد" مع.. من؟. مع أميرة الأميرات وجميلة الجميلات "ديانا"!. للتذكرة.. "دودي" (أو عماد) هو ابن الملياردير محمد الفايد، المالك السابق لمحلات هارودز الشهيرة فى لندن. نحن –...

قراءة المزيد
الغربي الآخر بين سعيد ومالك بن نبي

الغربي الآخر بين سعيد ومالك بن نبي

ظل مالك بن نبي مصراً على أن ملحمة الاستقلال العربي الإسلامي، الممتد إنسانياً بين أفريقيا وآسيا، تنطلق من معركة التحرير الفكري بشقّيها؛ كفاح الكولونيالية الفرنسية عبر روح القرآن ودلالته الإيمانية، ونهضة الفكر الذاتي الخلّاق من أمراض المسلمين، والرابط الروحي والأخلاقي...

قراءة المزيد
Loading...