أثر تزكية النفوس في صناعة القدوات

بواسطة | ديسمبر 29, 2023

بواسطة | ديسمبر 29, 2023

أثر تزكية النفوس في صناعة القدوات

تعتبر تزكية النفوس وتطهيرها هدفًا عظيمًا في الإسلام، حيث يسعى القرآن الكريم والسنة النبوية لزرع العقيدة الصحيحة والقيم السامية في نفوس المؤمنين. يستعرض هذا المقال الأهمية البالغة لهذا الغرض ويقدم نظرة على المنهج النبوي في تحقيق تزكية النفوس، مشددًا على أهمية هذه العملية من خلال القرآن والسنة.

أهمية التزكية في القرآن

ن تزكية النفوس وتطهيرها مقصدٌ عظيم من مقاصد الإسلام، فهي منتهى غاية القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، وذلك بغرس العقيدة الصحيحة والقيم السامية والأخلاق الفاضلة في نفوس المؤمنين، وهو ما ينسجم مع مقتضيات العقل السليم ونوازع القلب السليم، ويقود صاحبه للفلاح في الدنيا والآخرة.

وليس أدلَّ على أهمية التزكية من القَسَم المطوّل الذي جاء في القرآن الكريم ليؤكد على حقيقة فوز من زكّى نفسه، وخسران من أضلها وأغواها في الدارين، قال تعالى: ﴿والشَّمس وضُحاها* والقمر إذا تلاها* والنَّهار إذا جلَّاها* واللَّيل إذا يغشاها* والسَّماء وما بناها* والأرض وما طحاها* ونفْسٍ وما سوَّاها* فألهمها فجورها وتقواها* قد أفلح من زكَّاها* وقد خاب من دسَّاها﴾ [الشمس:1 – 10]؛ فهذا القسم المغلظ يحمل في طياته التشديد على أهمية التزكية والتنبيه إلى خطورة إهمالها.

والتزكية من الغايات الأساسية التي بُعث لأجلها سيد الخلق وخاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم، وورد ذلك باللفظ الصريح في قوله تعالى: ﴿هو الَّذي بعث في الأُمِّيِّين رسولًا منهم يتلو عليهم آياته ويُزكِّيهم ويُعلِّمهمُ الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبلُ لفي ضلالٍ مبينٍ﴾ [الجمعة:2]. والحقيقة أن أي قارئ لسيرة النبي صلى الله عليه وسلم يمكن أن يلحظ أنها باختصار أعظم رحلة دعوية شهدها التاريخ البشري في تزكية النفوس وتطهيرها من نوازع الكفر والشرك والنفاق، ومن آفات المعاصي والشهوات ومفاسد الأخلاق.

منهج النبي في التزكية

وقد اتسم المنهج النبوي العظيم في تزكية النفوس بالتوازن والشمولية التي أحاطت بجميع العناصر التي تتعلق بها عملية التزكية لدى الإنسان، وهي العقل والروح والجسد، وذلك بما يتفق مع منهج القرآن الكريم في خطابه للإنسان. ويمكن تحديد جوانب تلك التزكية وأساليبها في آيات القرآني الكريم بوضوح، فالتزكية العقلية في المنهج القرآني قامت على عدة نقاط وأساليب، وأهمها:

التزكية العقلية:

  1. تجريد العقل من المسلَّمات المبنيَّة على الظن والتخمين، أو التبعية والتقليد، وإلزام العقل بالتحري والتثبُّت.
  2. دعوة العقل إلى التدبُّر والتأمُّل في نواميس الكون، وإلى التأمُّل في حكمة ما شرع الله لعباده من عبادات ومعاملات، وأخلاق وآداب، وأسلوب حياة كامل في السلم والحرب، وفي الإقامة والسفر؛ لأن ذلك يُنْضِج العقل وينمِّيه، وبتعرُّفه على تلك الحكم يعطيه أحسن الفرص ليطبق الشرع الربانيَّ في حياته، لما فيه من السَّكينة والطمأنينة والسعادة للبشرية.
  3. دعوة العقل إلى النظر إلى سنَّة الله في الناس عبر التاريخ البشريِّ؛ ليتَّعظ الناظر في تاريخ الآباء والأجداد والأسلاف، ويتأمَّل في سنن الله في الأمم والشعوب والدول.

التزكية الروحية:

واهتم الإسلام بجانب التزكية الروحية التي اعتبرها الشرط الأساسي لتزكية النفوس، فقد رَبَّى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أصحابَه على تزكية أرواحهم، وأرشدهم إلى الطريق التي تساعدهم على تحقيق ذلك المطلب مسترشداً بالقرآن الكريم الذي شملت آياته جوانب وسبل تلك التزكية وأهمها:

  1. التدبُّر في كون الله ومخلوقاته، وفي كتاب الله تعالى، حتى يشعروا بعظمة الخالق وحكمته سبحانه وتعالى؛ والتأمل في علم الله الشامل، وإحاطته الكاملة بكل ما في الكون، بل بكل ما في عالَم الغيب وعالَم الشهادة؛ لأن ذلك يملأ الروح والقلب شعوراً بعظمة الله، ويطهِّر النفس من الشكوك والأمراض.
  2. عبادة الله عزَّ وجلَّ، وهي من أعظم الوسائل لتربية الروح وأجلِّها قدراً؛ إذ العبادةُ غاية التذلُّل لله سبحانه، ولا يستحقُّها إلا الله وحده؛ والعبادات التي تسمو بالروح وتطهِّر النفس على نوعين: الأول هو العبادات المفروضة كالطهارة، والصلاة، والصيام، والزكاة، والحج وغيرها؛ والنوع الثاني هو العبادات بمعناها الواسع، حيث يشمل كل عمل يعمله الإنسان، أو يتركه، بل كل شعور يُقبِل عليه الإنسان تقرُّباً به إلى الله تعالى، وكل شعور يطرده الإنسان من نفسه تقرُّباً به إلى الله تعالى، ما دامت نيَّة المتعبِّد بهذا العمل هي إرضاء الله سبحانه وتعالى، فكلُّ الأمور مع نيَّة التقرُّب إلى الله سبحانه وتعالى عبادة يُثاب صاحبها، وتربِّي روحه تربية حسنة.
  3. تعزيز “مركزية الآخرة” في نفوس المؤمنين، وذلك بتعظيمها والترغيب فيها، وجعلها الغاية الكبرى والشاغل الأهم لعقولهم وقلوبهم؛ وفي المقابل التهوين من شأن الدنيا وتزهيد المؤمنين بقيمتها وتحقيرها.

التزكية الجسدية:

ولم يهمل الإسلام جانب التربية الجسدية، فقد حرص النبي صلى الله عليه وسلم على تربية أصحابه جسديّاً، واستمدَّ أصول تلك التربية من القرآن الكريم، بحيث يؤدِّي الجسم وظيفته التي خُلق لها، دون إسراف أو تقتير، ودون محاباة لطاقة من طاقاته على حساب طاقة أخرى. ومن أهم قواعد وضوابط التزكية الجسدية التي تضمنها المنهج القرآني والنبوي:

  1. ضَبْط حاجة الإنسان إلى الطعام والشراب والملبس والمأوى.
  2. ضبْط حاجته إلى الزواج والأسرة بإباحة النكاح، بل إيجابه في بعض الأحيان، وتحريم الزنى، والمخادنة، واللِّواط.
  3. ضبْط حاجته إلى التملُّك والسيادة، بإباحة التملُّك للمال والعقار والثروات، وتولي المناصب الدنيوية وَفْق الضوابط الشرعية التي تقضي بتحريم السرقة والظلم والعدوان والبغي وغيرها.
  4. ضبْط حاجته إلى العمل والنجاح؛ بأن جعل من اللازم أن يكون العمل مشروعاً، وغير مضرٍّ بأحد من الناس، ونادى المسلمين أن يعملوا في هذه الدنيا ما يكفل لهم القيام بعبء الدعوة والدين؛ وربَط العمل بالإيمان في كثير من آيات القرآن الكريم، واشترط في العمل أن يكون صالحاً.

الإرث الإسلامي

استطاع هذا المنهج الدعوي والتربوي العظيم في تزكية النفوس، والذي تضمنه القرآن الكريم وسار عليه النبي صلى الله عليه وسلم، أن يزكّي الأرواح، وينوّر العقول، ويحافظ على الأجساد، وهو ما نتج عنه إعداد الشخصية الإسلامية الربَّانية المتوازنة التي تجسدت بشكل واقعي وعملي في كثير من عظماء وقادة وأئمة المسلمين عبر تاريخهم، أولئك الذين جسَّدوا القدوة المثالية والمثال الأعلى الذي تقتدي به وتسير على دربه أجيال المسلمين في ماضيهم وحاضرهم؛ وقد كان من هؤلاء العظماء الخلفاء الراشدون والصحابة وفضلاء التابعين، وجيل الفاتحين الأوائل، والأئمة الأربعة، وكبار العلماء والفقهاء، والخلفاء والقادة والأمراء الذين اشتهروا بالعدل والغيرة على الدين والأمة، وجرت على أيديهم أعظم الانتصارات والفتوحات في تاريخ الإسلام.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من...

قراءة المزيد
Loading...