عزة وهوان: النضال اللغوي في شمال أفريقيا (3)

بقلم: إبراهيم الدويري

| 24 يوليو, 2024

بقلم: إبراهيم الدويري

| 24 يوليو, 2024

عزة وهوان: النضال اللغوي في شمال أفريقيا (3)

لم يفتأ الصراع الحضاري في شمال أفريقيا يتخذ ألوانا شتى من أشكال المواجهة المحتدمة بين الإسلام والمسيحية، وبين اللغة العربية واللغات الأوروبية، لا سيما الفرنسية، فالصراع يتخذ حينا شكل المواجهة المسلحة في الغزوات المتبادلة، وتارة يتمظهر في لون صراع الهويات واللغات، وظل مصلحو شمال أفريقيا في كل الأحوال يتصدون ببسالة حضارية لكل مظاهر الغزو العسكري والفكري، يحرسون ثغور الضاد من أن ينالها ضيم، أو تلحق بلدانهم بالأندلس.

فشبح الأندلس ظل حاضرا لدى طرفي الصراع؛ فأوروبا أغرتها التجربة الأندلسية، فخططت في حملاتها الاستعمارية لإلحاق فاس وتلمسان وتونس وطرابلس، بقرطبة وغرناطة وإشبيلية وصقلية.

 والنخب الإصلاحية في دول جنوب المتوسط كانت تخشى مصير الأندلسيين ذاته، فقد احتكت بأحفاد جاليات الجلاء الأندلسي، وسمعت ما رواه الأجداد من أخبار وقصص محاكم التفتيش المروعة، ومن خلاصاتها التاريخية ما قرّره العلامة محمد الطاهر بن عاشور، وهو إصلاحي ذو أصول أندلسية، حين قال إن تاريخ الإسلام لم يعرف “حادثًا انتابَ الأمة الإسلامية منذ كيانها، ولا سهمًا أصابَها في قلب إيمانها، مثلَ الحادث الجلل الذي اعترى المسلمين بالأندلس أوائل القرن الحادي عشر من الهجرة”.

وحين ردَّ الله بأس المستعمر الأوروبي عسكريًّا وتحررت بلدان الشمال الأفريقي سياسيا في الظاهر، ظلت معضلة اللغة مهيمنة على مشهد صراع النفوذ والمصالح؛ فالمستعمرون لوعيهم بخطر اللغة أرادوا التمكين للغاتهم الأوروبية حماية للمصالح، واستمرارا في التحكم، والإصلاحيون لإدراكهم المخاطرَ نفسها أيقنوا أن التحرر يبدأ من حماية الوجدان وسلامة اللسان، فكان نضالهم عن اللغة العربية أحد ثوابت دعوتهم لإصلاح المجتمعات، وكمال الاستقلال عن المستعمرات.

فمن المبادئ والمعاني التي قامت عليها جمعية العلماء المسلمين الجزائريين “إحياء هذه اللغة، وإحياء الدين الذي ترجمت محاسنه واضطلعت بحمل أسراره”، كما يقول لسان الجمعية الفصيح وفخر الجزائر، محمد البشير الإبراهيمي، في محاضرته “العربية: فضلها على العلم والمدنية وأثرها في الأمم غير العربية”، وهي المحاضرة التي ذكَّر فيها الأوربيين بأن “كثيرًا من العلوم التي بنيت عليها الحضارة الغربية لم تصلها إلا عن طريق ‌اللغة ‌العربية بإجماع الباحثين منا ومنهم” (آثار البشير الإبراهيمي ج1، ص 377).

وفي سبيل النضال اللغوي أقامت الجمعية عشرات المعاهد ومئات الحلقات العلمية في مساجد الجزائر لتعليم الدين واللغة، باعتبار العربية “لغة الدين ومفتاحه، لا تُفهم حقائقُه وحِكَمُه إلّا بها”، ولَكَم انتفض البشير ورفاقه حين خططت الإدارة الاستعمارية لـ”قتل ‌اللغة ‌العربية بالتضييق على تعليمها، ومطاردة رجالها وإلجام صحافتها”.

ومن خطط الإدارة الاستعمارية الخطيرة اتخاذها قرارات كثيرة لمحاربة اللغة العربية والقضاء عليها، “ومن أسوأ ما في تلك القرارات شرًّا وأشده إيلامًا وجرحًا لعواطف المسلمين عامة، وللعرب خاصة، ما جاء في بعض بنود تلك القرارات من اعتبار ‌اللغة ‌العربية لغة أجنبية في بلاد عربية وهي الجزائر”.

ولم يكتف المستعمرون بذلك، بل جاء دور تنفيذ تلك القرارات “على يد صغار الإداريين فبالغوا وأسرفوا في التنكيل والمحاكمة، وسيق معلمو العربية إلى مجالس القضاء كما يساق المجرمون، وفُرضت عليهم العقوبات المالية والبدنية من سجن وتغريب، وما زالت بقاياهم في المنفى إلى الآن”.

وقد أخذت قضية اللغة العربية والمنافحة عنها كثيرا من وقت الإبراهيمي ورفاقه الإصلاحيين ومن جاء بعدهم، تعلُّما وتعليما وتخطيطا، للارتقاء بها والدفاع عن حقها في الصدارة في جزائر الإسلام والعروبة.

وفي المغرب كان العلامة عبد الله كنون ومن معه من الإصلاحيين ينافحون عن العربية، ويتصدون بأقلام باسلة للمؤامرات الفرنسية وممثليها من المغاربة، ونشر كثيرا من مقالاته النضالية في اللغة في كتاب “معارك”، وهو عنوان دالٌّ على محورية الدفاع عن هذه اللغة المحارَبة في عقر ديارها ومنابت عزها.

فمقالات كنون “معركة القرويين والتعليم الديني”، و”توحيد التعليم أو قميص عثمان” ومقالات أخرى وبحوث كثيرة، كلها تؤرخ للنضال اللغوي في المغرب، وقد حمل الراية من بعده فئام من المناضلين المرابطين على حمى الفصحى في المغرب المهدد وجوده وكيانه الثقافي والحضاري بالفرنسة والتطرف الفرنكفوني.

وفي تونس الخضراء كان أبناء الزيتونة يحملون مشاعل الدفاع عن “الذاتية التونسية” بعنصريها الأساسيين؛ الإسلام والعربية، وكادت الهجمة الفرنكفونية في تونس تلحقها بالأندلس؛ فـ”صدمة الاحتلال” وما أعقبها من توحش علماني كانا أكبر بلاء نزل بتونس، ولولا العصبة الزيتونية وبعض أحرار الجامعة التونسية، لغلبت العجمة على أبناء القيروان وتفرنست تونس.

وإلى تونس ينتمي أبرز مناضل لغوي معاصر، وهو الدكتور عبدالسلام المسدي، وهو صاحب مصطلحي “النضال اللغوي” و”الأمن اللغوي”، وقد وضع بين يدي القارئ العربي عام 2014  كتابا هو “خلاصة سنوات متتاليات من البحث والنضال دفاعا عن اللغة العربية”، أسماه “الهوية العربية والأمن اللغوي”.

رصد المسدي في كتاباته ملامح من النضال اللغوي الشعبي والرسمي، ودق أجراس الخطر الداهم على هذه اللغة التي ما انفكت الحروب تتوالى عليها، فـ”من أجلى القرائن التي تنذر بأننا على مسافة قريبة من فاجعة حضارية قاصمة، استشراء التلوث اللغوي في أثواب جديدة بحكم انتشار وسائل الاتصال المستحدثة، ونخص منها بالذكر طفرة البث الفضائي الغزير، وما تجنح إليه قنواته من منازع الترويج دون أي اعتبار لمرجعيات القيمة التعبيرية” (الهوية العربية ص 17).

ورأى- وهو محق- أن العرب لن يندموا “على شيء كما قد يندمون يوما على نداء لغتهم وهي تستجير بهم منذ عقود أن أدركوني، هتفت بهم همسا منذ أيام الاستعمار، ثم صاحت عند انقشاع غمته، وها هي لا تبرح تشكو وتستغيث”.

فمتى تستجيب الشعوب العربية والمغاربية لنداءات اللغة العربية، وتأخذ من كتابات المسدي وصنوه الدكتور مختار الغوث المدني الشنقيطي، صاحب أحد أنضج المشاريع اللغوية، والمنافح عن العربية في جزيرة العرب، مشاعل تضيء ليل العربية الحالك، ومتاريس تحمي هويتنا المستباحة؟. فالدفاع عن اللغة العربية دفاع عن الذاتية الإسلامية، وصون للاستقلال الذي دفعت فيه شعوبنا أعمارها وأبناءها، وليس ترفا فكريا بين نخب تائهة.

2 التعليقات

  1. محمد يحي

    جولة جميلة في عناوين مشاريع التمكين للغة العربية ومواجهة المستعمر ومشروعه، تميزت لتمحيص فكرة المواجهة بين المشروعين واكتفت بتجليات المواجهة في بعدها الاستعماري، دون الغوص في بعد آخر أكثر حضورا واقعيا وأقل إعلاميا وهو التعدد الفئوي أو اللساني في بعض الدول المذكورة ومواجهات حامليه مع اللغة العربية.
    كما لم يحضر بعد التبني الرسمي في الغالب للمشروع اللغوي الاستعماري ورفضه من قوى كثيرة من بينهما من تم ذكرهم، لكن تاطير جانب من الصراع في البعد السياسي موجود.
    لم يتطرق الموضوع لموريتانيا وهي حاملة لواء مزدوج بين مشروع الاستعمار ومشروع الأقليات العرقية ولغاتها، والجهود الكبيرة المبذولة منذ ما قبل الاستقلال واحتضان اللغة العربية حفظا وتاليفا وإشعاعا حتى اليوم.
    بوركت الجهود وبورك في الدكتور الدويري

    الرد
  2. أحمد الأموي

    رائع جدا!
    بارك الله فيكم وشكر لكم

    الرد

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

واشنطن تسعى لمزيد من الشفافية من إسرائيل بشأن خططها للرد على إيران

واشنطن تسعى لمزيد من الشفافية من إسرائيل بشأن خططها للرد على إيران

تتزايد حالة القلق في الإدارة الأمريكية إزاء عدم إطلاعها على تفاصيل العمليات العسكرية الإسرائيلية، خاصة فيما يتعلق بالرد المحتمل على إيران. وتأمل واشنطن في تجنب مفاجآت مماثلة لتلك التي واجهتها خلال العمليات الأخيرة في غزة ولبنان. كان من المقرر أن يجتمع وزير الدفاع...

قراءة المزيد
الحالة العامّة للأسرة والمرأة في الجاهليّة قبيل ولادة النبيّ صلى الله عليه وسلم

الحالة العامّة للأسرة والمرأة في الجاهليّة قبيل ولادة النبيّ صلى الله عليه وسلم

عند الإطلالة على حالة عموم النساء في المجتمع الجاهليّ، وما اكتنف الأسرة آنذاك، فيمكننا وصف وتقييم الحالة بعبارة واحدة، وهي: انتكاس الفطرة، وتشوّه معنى الرجولة، وغيبوبة الأخلاق. كان الزواج يتمّ على أنواع عدة، كلّها إلا واحدًا يظهر مدى الانحدار القيمي والظلام الأخلاقي،...

قراءة المزيد
ما بعد الاستعمار.. وفتح الجراح القديمة

ما بعد الاستعمار.. وفتح الجراح القديمة

من الملاحظ أنه في عصرنا، عصر العولمة، نجد أن الثقافات والهويات العربية أصبحت تتعرض لضغوط غير مسبوقة، لكي تكون مغمورة ومنسية ومجهولة، نتيجة الانفتاح الكبير على العالم، وتأثير الثقافة الغربية وغزوها للعقول العربية، لا سيما فئة الشباب؛ فتأثيرات العولمة عميقة ومعقدة...

قراءة المزيد
Loading...