سوريا وثورة نصف قرن

بقلم: نبيل البكيري

| 5 يناير, 2025

مقالات مشابهة

مقالات منوعة

بقلم: نبيل البكيري

| 5 يناير, 2025

سوريا وثورة نصف قرن

سيسجل التاريخ أن يوم ٨ ديسمبر ٢٠٢٤م يوم مفصلي وخالد في تاريخ سوريا والمنطقة كلها؛ فالحدث فيه كبير جداً، وأشبه بزلزال شديد لن تتوقف تداعياته عند حدود القطر السوري، لعمق الحدث وضخامته ودلالته، وهو الذي يمثل خلاصة نضال وكفاح الأخوة السوريين على مدى ما يقرب من نصف قرن ضد هذا النظام الأقلوي الطائفي، المتلفع بأستار القومية العربية والمقاومة.

فإسقاط حكم نظام عائلة الأسد الحاكمة لسوريا لما يقارب نصف قرن، منذ صعود الأسد الأب حافظ للسلطة في سوريا سنة ١٩٧١م، وتمكين طائفته العلوية من الحكم في دمشق، وما بذله الأسد في سبيل تحويل سوريا إلى إقطاعية خاصة به وبأسرته وطائفته، وقد تحقق له الكثير من ذلك؛ فتمكن الأسد الأب أن يحكم سوريا بالحديد والنار لما يقارب ٢٩ سنة، وأكمل ابنه بشار بعد موت أبيه لـ ٢٤ سنة.. ذلك مما جعل هذه الأسرة تحكمُ سوريا لما يقارب ٥٣ سنة، أي ما يقارب نصف قرن.

فالثورة السورية التي انطلقت في عام ٢٠١١م لم تكن هي الأولى؛ فقد سبقتها انتفاضات وثورات عدة من قِبل الشعب السوري، كان أبرزها وأهمها انتفاضة حماة ١٩٨٢م، وهي أكبر انتفاضة في وجه نظام حافظ الأسد، وقد واجهها بالحديد والنار، حيث دمر أحياء كاملة من مدينة حماة عن بكرة أبيها، وسوّى مساكنها بالأرض مع ساكنيها، في المجزرة التي يُقال إن عدد ضحاياها بلغ ما يقارب خمسين ألف شهيد، وآلاف المهجرين في المنافي والشتات، وسبعة عشر ألفاً من المخفيين قسراً والمعتقلين، الذين أطلقت هذه الثورة مؤخراً من بقى منهم على قيد الحياة .

نصف قرن من القبضة الحديدية الممزوجة بالقهر والقمع والظلم والهمجية، والوحشية التي لا مثيل لها في تاريخ العالم العربي وربما العالم كله، جعلت واحداً من أعظم شعوب العالم وأكثرها مدنية وتمدناً وحضارة يعيش حالة من الانقطاع والغيبوبة عن الحضارة خارج سياق التاريخ كله، وعاش بلا أدنى معايير الحرية والكرامة الآدمية، وهو -أي الشعب العربي السوري- مهد الحضارة والتمدن وحتى الديمقراطية الأقدم في التاريخ، كما يقول جون لوك صاحب “موجز تاريخ الديمقراطية”.

فلا يمكن الحديث اليوم عن الحضارة في التاريخ العربي قديمه وحديثه، إلا ودمشق قلب هذا الحديث وعنوانه الأبرز، دمشق عاصمة الأمويين بنسختيها الشامية والأندلسية، حيث عمد عبد الرحمن الداخل حينما تمكن من الإمساك بالأندلس وحكمها بعد سقوط دولتهم، وعاصمة خلافتهم بدمشق، أن تكون قرطبة الأندلس نسخة من دمشق روحاً وشكلاً.

كل هذا التاريخ المجيد لسوريا بمفهومها التاريخي (الشام)، ومدلولها القُطري الضيق (سوريا المنظورة)، تحول في لحظة إلى كومة من رماد، بصعود حافظ الأسد إلى سدة الحكم بانقلاب عسكري متلفع بمسمى ثورة التصحيح، التي تبناها “حزب البعث العربي الاشتراكي”، الذي وجده حافظ الأسد مظلة واقية وساترة له ولمشروعه الأقلوي الطائفي.

مارس حافظ الأسد على مدى ثلاثة عقود واحدة من أسوأ صور الظلم والانحطاط، لإخضاع الشعب السوري وسحق كرامته، وتقييد إرادته الحرة والأبية التي كانت لا تقبل الظلم أبداً، وقد تجسدت تلك الإرادة الحرة في ثورة سوريا الكبرى عام ١٩٢٥م، وما قدمته تلك الثورة من رؤى سابقة لعصرها فيما يتعلق بالشعور القومي والعربي، وإرادة الحرية والاستقلال عن الاستعمار الفرنسي.

لقد قدمت دمشق ممثلة لسوريا الكبرى واحداً من أهم الدساتير، ليس على مستوى المنطقة العربية وإنما على مستوى العالم، في رؤيته للدولة وتصوراته لها، وجن جنون الغرب من تلك الرؤى والتصورات، وسارعوا إلى الانقلاب عليه إثر إعلان الاستقلال في مارس/ آذار ١٩٢٠م، إذ أعلن البرلمان السوري بيان الاستقلال للشعوب الناطقة بالعربية في سوريا الكبرى، وهي اليوم كل من سوريا وفلسطين والأردن ولبنان.

في كتابها “كيف سرق الغرب الديمقراطية من العرب؟”، تقول الباحثة الأمريكية المتخصصة بتاريخ الشرق العربي إليزابيث تومبسون، إن الغرب لم يكن يرى في ذلك سوى تحرر مبكر، وعليه أن يقضي على هذه التجربة ويسحقها في مهدها، وهو ما تم لهم بالانقلاب عليه واحتلال دمشق، وإعلان تجميد الدستور، ووضع سوريا تحت الانتداب الفرنسي، بمبرر حماية الأقليات الطائفية، وهكذا أجهض الغرب تجربة سوريا الديمقراطية الليبرالية الحرة باكراً .

ومن نافلة القول بيان أن مبررهم كان حماية الأقليات التي رفعها الغرب كشعار لاحتلال الشام والعراق، ومن هذه النافذة تسلل حافظ الأسد، وهو الذي أُعِدّ لهذه المهمة جيداً، وظل أطول فترة على رأس الدولة السورية، جاثماً على واحدة من أهم المجتمعات العربية وعياً قومياً وإسلامياً، فسحق كل هذه المعاني، وأذاق السوريين ويلات السجون والمعتقلات والمنافي والمجازر طوال فترة حكمه لثلاثة عقود، ليكمل ولده بشار المسار منذ سنة ٢٠٠٠ وحتى ٢٠٢٤م، بنفس الطريقة والآلية الإجرامية القذرة.

إن ما أنجزه السوريون اليوم لم يعد انتصاراً لثورة ربيع ٢٠١١م، وإنما هو امتداد لمسار طويل من النضال والكفاح، ومقارعة الطغيان والاستبداد الأقلوي الطائفي المدعوم غربياً وإيرانياً. وبالتالي فإن هذا المنجز اليوم، الذي جاء من خارج كل الحسابات الدولية، هو منجز كبير وعظيم، أعاد الاعتبار لسوريا ونضالات أبنائها، وكفاحهم الطويل لنيل حقوقهم وحرياتهم وكرامتهم المستلبة في سجون آل الأسد ومعتقلاته، التي تفوق عدد أيام السنة عدداً، وسجون النازية إجراماً.

إن ما تحقق يوم ٨ ديسمبر ٢٠٢٤م هو حدث عظيم وكبير، وزلزال مدوٍّ لن تقف تداعياته هناك قطعاً، وإنما سيتمدد في كل بلدان الربيع العربي تحديداً، فقد أعاد انتصار السوريين على نظام بشار المدعوم  إيرانياً وروسياً الأمل للشعوب العربية المنكسرة في العراق ولبنان واليمن وتونس والسودان وفلسطين على وجه التحديد، ومن ثم فإن هذا الحدث الكبير يفتح بابا كبيراً مشرعاً من الأمل المنكسر عربياً.

ومن هنا، يأتي الخوف الكبير على هذا المنجز، وتنشأ وتتوالد التحديات أمام هذا الانتصار، الذي سيقف في وجهه الجميع وخاصة ممن لم يكن في حسبانهم تدحرج الكرة الثورية السورية بهذه السرعة، ووصولها إلى العاصمة دمشق من أٌقصى الشمال السوري في إدلب، مرورا بحلب وحماة وحمص، حواضر بلاد الشام ومهود التمدن والحضارات القديمة.

إن نصف قرن من النضال والكفاح المرّ ليس أمراً هيناً في حسابات الشعوب والأمم؛ فهو خلاصة نضال وكفاح جيلين على الأقل، قدّم السوريون فيه تضحيات كبيرة جداً، بلغت ملايين اللاجئين والشهداء والمخفيين والجرحى والمعتقلين.. ولا شك أن هذه تكلفة باهظة وكبيرة، ولا يوازيها ثمن، وأن نجاح مسار هذه الانتصار والحفاظ عليه لا يقل أهمية عن الكفاح ذاته؛ فالكفاح والثورة ما قبل الانتصار كان عملاً للهدم، على النقيض من نضال ما بعد الانتصار، الذي يتطلب جهداً ذهنياً ونفسياً ومعرفياً ومادياً كبيراً لإعادة بناء ما تم هدمه.

إنها ثورة نصف قرن أيها السوريون، وأهمية أي ثورة هي في ما تنجزه من أهداف، وتحققه من مطالب وطموحات وآمال وأحلام للناس، الذين خرجوا وضحوا في سبيل تحقيقها، إن عظمة أي ثورة هي في ما تتركه في واقع الناس، وفي إنصافها الضحايا ومنحهم حقوقهم، ومعاقبة المجرمين وجبر المتضررين، وتطبيب الجرحى وإطلاق السجناء، وتحرير أذهان الناس من الخوف، وفي أن تعيد للناس ثقتهم بأنفسهم وتمنحهم الأمل والأمان والاستقرار، وتكفل لهم حياة حرة كريمة، يتساوى فيها الجميع، وتُصان فيها حقوقهم وتتكافأ دماؤهم.. وأي ثورة لم تكن هذه أهدافها، ولم تحققها في واقع الناس، فلا قيمة لها.

نبيل البكيري

مهتم بالفكر السياسي الإسلامي

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

رسالة إلى أمريكا

رسالة إلى أمريكا

وقف مراسل شبكة CNN الإخبارية بمنطقة "أيتون" شرقي مدينة لوس أنجلوس الأمريكية، مرتدياً قناعاً واقياً من الغاز، قام بإزاحته عن وجهه، بعد أن طلبت منه المذيعة في داخل الاستوديو أن يصف لها ما يحدث على الأرض. بعيون دامعة، ووجه شاحب مكفهر، تحدث بأسى عن جحيم مروع، تشهده ولاية...

قراءة المزيد
أما آن للوزيرة الألمانية أن تهمد؟!

أما آن للوزيرة الألمانية أن تهمد؟!

أخيراً تحقق لها المراد! فقد صافحت الوزيرة الألمانية أنالينا بيربوك الوزيرَ السوري أسعد الشيباني في الرياض، بعد الضجة الكبرى لعدم مصافحة أحمد الشرع لها، والاكتفاء بالترحيب بها بوضع يده مبسوطة إلى صدره! وكما كان عدم المصافحة في دمشق خبرَ الموسم في الإعلام الغربي، فقد...

قراءة المزيد
غزة وجدليَّتا النصر والهزيمة

غزة وجدليَّتا النصر والهزيمة

على مدى ما يقارب ٤٧١ يوماً، وقفت غزة وحيدةً صامدةً تواجه مصيرها، كآخر بقعة تتموضع عليها القضية الفلسطينية، بعد أن تم تدجين العالم العربي كله وصولاً إلى تدجين فلسطين نفسها بقيادة أكثر صهيونية من الصهيونية نفسها، لا هدف لها سوى أن تُنسي الفلسطينيين والعالم كله شيئاً...

قراءة المزيد
Loading...