وقد استجاب القضاء لدعوة الرئيس.. ماذا ينتظر المستأجرون؟!

بقلم: سليم عزوز

| 17 نوفمبر, 2024

بقلم: سليم عزوز

| 17 نوفمبر, 2024

وقد استجاب القضاء لدعوة الرئيس.. ماذا ينتظر المستأجرون؟!

ذكّرني القول إن المحكمة الدستورية العليا في مصر استجابت لدعوة الرئيس في إصدار حكم، بما مضى.

فدائما تذكّرنا القدرات المتواضعة الآن بعهد الرئيس مبارك، فلا يعرف قيمة أمه إلا من يتعامل مع زوجة أبيه، وكثيرون صار شعارهم “رُبّ يوم بكيت منه، فلما مضى بكيت عليه”. ولست من هؤلاء الكثيرين على أية حال!

فقد أصدرت المحكمة الدستورية العليا حكماً بعدم دستورية ثبات أجرة الأماكن المؤجرة لأغراض السكن، وهو حكم سيرفع الحرج عن أهل الحكم، وهم يلفون ويدورون حول هذا النص القانوني.

وفي أول عهد مبارك بالرئاسة أصدر قانوناً جديداً، نُشر في الجريدة الرسمية في 30 يوليو 1981، مسّ فيه هذا النص بقدر، ثم جرت تعديلات أخرى في عهده وفي العهد الحالي، مسته مساً طفيفاً، وإن كان الاتجاه العام في هذا العهد أو غيره هو ما ذهبت إليه المحكمة الدستورية، والتي ألزمت البرلمان بتعديله، فرفعت عن السلطة التنفيذية الحرج!

دعوة الرئيس:

وهنا انبعث أشقاها، وفي مداخلة تلفزيونية، احتفت بها واحدة من صحف السلطة (الدستور)، وهو المحامي -والإعلامي في الوقت نفسه- خالد أبو بكر، حيث قدم الشكر للمحكمة الدستورية العليا، التي استجابت لدعوة الرئيس، وهو تصريح “ورطة”، ويمثل مادة خام للمعارضين، لكن كثيرين لحسن الحظ يفتقدون للوعي القانوني، فمرّ الأمر مرور الكرام!

فالأزمة ليست فقط في أن المحامي -الذي يمثل بوقاً من أبواق السلطة- شكر المحكمة، خروجاً على التقاليد؛ فالمحاكم لا تُشكر، لأن من يملك الشكر يملك النقد، وهي قاعدة أصولية مستقرة.. بل الأزمة بجانب هذا أن يُقدَّم القضاء بأنه ليس مستقلاً، وأنه يستجيب لدعوة صادرة من رئيس السلطة التنفيذية، فهل يمكن الحديث، مع هذا الإعلان، عن أن القضاء مستقل، عندما تنكِّل الأحكام القضائية بالمعارضين؟!

في أجواء طبيعية، فإن المحامي المذكور يقدَّم للمحاكمة بتهمة إهانة القضاء، لكن القانون في إجازة، وفقدان الحس السياسي لم يدفع السلطة لاستشعار الحرج، فتنفي أو تعاقب القائل، وما كان له أن يقول هذا لولا أنه يريد أن يقدم السلطة على أنها مسيطرة، وأن قوله مما يرضي غرورها، فتذكرتُ واقعة قريبة من ذلك!

في صيف سنة 2000، وعندما أصدرت المحكمة الدستورية العليا حكمها بأن تجرى الانتخابات العامة تحت الإشراف القضائي الكامل، مثّل الحكم مفاجأة للسلطة، التي ذهبت تحتال عليه، وتفسره على غير مراده، فكان الإشراف منقوصاً، وتوسعت في تفسير من هو القاضي ليكون كل أعضاء الهيئات القضائية، ومن بينهم النيابة الإدارية المرؤوسة للسلطة التنفيذية، ولا تمثل قضاء مستقلاً بالمعنى الحرفي، لكن فتحي سرور، رئيس مجلس الشعب، ألمح في مقابلة صحفية أنهم كانوا في الصورة قبل صدور الحكم!

وقد أمسكتُ في تلميحه، وكتبتُ أطلب تفسيرا له، وإن كنت أعلم أن فتحي سرور كان يميل للاستعراض، وتلميحاته يمكن أن تؤخذ على أكثر من محمل. فما للمستوى صار متواضعاً إلى حد هذا الإعلان الفج بأن المحكمة الدستورية العليا استجابت لدعوة الرئيس؟ فهل النظام يقف وراء هذا الحكم؟ وماذا بقي من استقلال القضاء، والسلطة التنفيذية تهيمن عليه على هذا النحو؟!

وللأسف، إننا أمام حالة من غياب مبدأ الفصل بين السلطات، سقطت حتى على المستوى النظري، فالمحكمة تدخلت في أعمال السلطة التشريعية، وقال حكمها “بوجوب” تدخل المشرِّع لإحداث التوازن في العلاقة الإيجارية، وحددت له موعداً للانتهاء من المهمة، فهل هذا من سلطة المحكمة؟!

لقد تابعت أحكاماً كثيرة كانت فيها المحاكم تحث المشرِّع، أو تناشده، لكن أن تقول بوجوب تدخُّله، فهذا تداخل بين السلطات، وهنا تكمن المشكلة!

فالحكم بعدم دستورية الفقرة الأولى، من المادتين الأولى والثانية من القانون 1981، كان يعني الأثر الراهن له، وعدم سريانه على أوضاع قانونية مستقرة، ولكن هذا لن يؤدي الهدف من الحكم، الذي يستهدف في المقام الأول البنايات القديمة، وهناك محاولات من البرلمان لإلغاء النص، ومع أنه يقال إنه ينصف نصف مليون شخص من ورثة المُلّاك، فإن المستأجرين هم بالملايين، فكان لا بد من أن يقال إن الحكم القضائي ملزم لنا بالتعديل، وإن كان أبو بكر المقرب من السلطة أفسد الأمر بقوله: إن المحكمة استجابت لدعوة الرئيس.. إنها دعوة الرئيس إذاً؟!

يتقاضون ملاليم:

ومنذ سنوات بعيدة وورثة المُلّاك يشتكون حالهم، وكيف أنهم يتقاضون ملاليمَ من المستأجرين، لا تسمن ولا تغني من جوع، ويحتفي الإعلام بما يقولون، فهم الأعلى صوتاً من المستأجرين الذين كانوا يستبعدون تعديل القانون، فلم يشعر بهم أحد كقوة ضاغطة، ويبدو كلام ورثة الملاك مقنعاً، فهذه الوحدة (الشرحة البرحة)، والتي تقع في حي الزمالك مثلاً، إيجارها خمسة جنيهات لا غير، وهو أمر ليس دقيقاً لكنه يجد من يصدقه ويندهش له، ومن هنا تبدو هذه الحملات الإعلامية كما لو كانت تمهد الطريق للسلطة للتعديل، لكنها تقدم وتدبر، خشية التدخل في أوضاع من شأنها الإضرار بالسلام الاجتماعي.

وإن كان مع كل حملة إعلامية، يتم استحضار مشايخ لإعلان حرمة امتداد عقد الإيجار، وثبات القيمة الإيجارية، فلم يعد هناك من يدافع عن القانون الأزمة، حتى من الناصريين، وهو قانون وُضع في عهد عبد الناصر!

قبل سنوات، حل القضاء مشكلة توريث العقد لسلالة المستأجر، ولمن يقيم معه في الوحدة السكنية، بأن جعل حكم الامتداد للدستورية العليا يصل لأول وريث، ومن تثبت إقامته في حياة المستأجر، والامتداد له فقط، ولمرة واحدة. وهو أمر لا يُرضي هؤلاء الورثة، ومعهم الحكومة وربما أغلبية البرلمان، فالقادمون من الريف لا يواجهون هذه المشكلة، والقادمون من الحضر هم أقرب لطبقة الملاك، ولهذا ففي كل المناقشات في البرلمان -وعلى مدى عقود- لم نسمع صوتاً يميل للمستأجرين!

هناك أمر آخر يدفع في اتجاه إلغاء تحديد الأجرة، وهو أن شركة تأسست قبل سنوات من أصحاب النفوذ، قامت بشراء عدد من العمارات التاريخية بوسط القاهرة، وتنتظر صدور القانون حتى تطرد المستأجرين، كاستثمار مريح!

ومن هنا فإن هذا الأخير هو ما استجد، لتجد السلطة نفسها أمام هذا الدافع في مشكلة ربما لا تقدِّرها جيداً، فأين يذهب المستأجرون؟ وقد تُحسّن شروط القيمة الإيجارية، ولن ترضي بالتالي الملاك ولا المستأجرين، والأولون يريدون وضع أيديهم على العقارات، والآخرون يريدون بقاء الحال على ما هو عليه!. وهي إشكالية أكبر من أن تعالج في برنامج تلفزيوني، أو بفتوى دينية سطحية، أو بمقال صحفي ينحاز للأعلى صوتاً، والأكثر منطقاً!

“الخلو رجل”:

إن الإلمام بالقضية بأبعادها سيدفعنا لعدم إغفال أن العقد شريعة المتعاقدين، وأن القيمة الإيجارية لم تكن ثمناً بخساً بحسابات وقت التعاقد، وهناك ما تم دفعه بعيداً عن القانون، ومن ثم لم يثبت في الأوراق الرسمية، وهو ما كان يعرف بالـ “خلو رجل”، وهو مبلغ يصل إلى قيمة بناء الوحدة نفسها، ليكون الإيجار هو أرباح تعود على المالك، فعاش المُلّاك ميسوري الحال في زمانهم، وتكمن المشكلة في الورثة، الذين يرون أنهم أحق بالعقار للتصرف فيه تصرف المالك فيما يملك!

وهناك زاوية يجهلها البعض، أو يتغافلونها، وهي أن الدولة في العهد الناصري، وعندما بدأت أزمة السكن، ساعدت بالإقبال على الاستثمار في البناء، وسياسة التأجير لا التمليك، بتيسير مواد البناء بأسعار مخفضة، ومدعومة من الدولة، من باب تشجيعهم، وهو الامتياز الذي لم يحصل عليه الذين يبنون بيوتاً لأنفسهم، أو لبيعها. ولأن الدولة هي التي تدعم المالك فقد جعلت لنفسها شرعية التدخل لتنظيم العلاقة، وتشكيل لجان لتقدير الأجرة عند الشكوى، وفي تجريم “الخلو رجل”، وإن كان تجريما للردع في كثير من الحالات، وليس للتطبيق إلا على حالات معدودة، فقد ظلت المبالغ المدفوعة كخلو رجل متعارفا عليها، فعاش الملاك أثرياء زمانهم!

لقد مهد الحكم الدستوري الطريق للنظام، لكن الطريق ليس ممهداً تماماً.

سننتظر ونرى!

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

السياسة الخارجية للرئيس ترامب تجاه الشرق الأوسط

السياسة الخارجية للرئيس ترامب تجاه الشرق الأوسط

لم تمرّ إلا ساعات فقط بعد إعلان الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب نيته تعيين حاكم أركنساس السابق "مايك هاكابي" ليكون سفيرًا للولايات المتحدة لدى إسرائيل وهو المعروف بدعمه منقطع النظير للاستيطان، خاصة في الضفة الغربية التي يعتبرها جزءاً من أرض الميعاد كما يقول،...

قراءة المزيد
“العرب العثمانيون”.. كيف جسّد الإسلام عمومية النظام السياسي لجميع الأعراق؟

“العرب العثمانيون”.. كيف جسّد الإسلام عمومية النظام السياسي لجميع الأعراق؟

خلال زيارتي لنائب مدير جامعة السلطان محمد الفاتح في إسطنبول، البروفيسور المؤرخ زكريا كورشون، كنت أتحدث معه عن آخر إصداراته، فحدثني عن كتابه "العرب العثمانيون"، ومقصد الكتاب تبيان عمومية النظام السياسي في الإسلام لجميع الأعراق والأجناس في ظل الدولة الواحدة . فالإسلام...

قراءة المزيد
إيران تتجنب مواجهة جديدة مع الولايات المتحدة مع عودة ترامب

إيران تتجنب مواجهة جديدة مع الولايات المتحدة مع عودة ترامب

آخر مرة تولى فيها دونالد ترامب رئاسة الولايات المتحدة، كانت كارثية لإيران؛ انسحب من الاتفاق النووي التاريخي، وعطّل اقتصاد البلاد بالعقوبات، وقتل قاسم سليماني، أبرز الجنرالات الإيرانيين. هذه المرة، تأتي الإشارات من معسكر ترامب متباينة.. فقد اقترح الرئيس المنتخب أنه...

قراءة المزيد
Loading...