الشرعية اليمنية والحلقة المفقودة

بقلم: نبيل البكيري

| 24 يوليو, 2024

مقالات مشابهة

مقالات منوعة

بقلم: نبيل البكيري

| 24 يوليو, 2024

الشرعية اليمنية والحلقة المفقودة

عشر سنوات مضت ومعركة الشرعية والانقلاب في اليمن قائمة، والأمور تراوح مكانها، فلا سقط الانقلاب ولا عادت الشرعية.. والمراوحة في المكان هنا لا تعني أنه ليس ثمة تحولات في المشهد السياسي المحلي والإقليمي والدولي، بل- على العكس- هناك تحولات كبيرة جرت وتجري في المستويات المحلية والإقليمية والدولية، ولكنها تمضي دون أن يستفيد منها أحد سوى جماعة الحوثي الانقلابية .

مؤخراً تفاءل كثيرون بقرارات البنك المركزي بعدن، القاضية بنقل مقرات البنوك الرئيسية في مناطق سيطرة الحوثيين إلى عدن، إضافة إلى التهديد بسحب خط السوفييت الدولي عن البنوك التي ترفض هذا القرار، ولكن ما لبث أن تم إيقاف هذه القرارات، بعد أن هدد الحوثي المملكة العربية السعودية بأنه سيقصفها بالصواريخ إن تم تطبيق هذا القرار على البنوك المتواجدة مقراتها الرئيسية في صنعاء، الخاضعة لمليشيات الحوثي.

أدرك الجميع أن حجم ردة فعل مليشيات الحوثي على هذا القرار يشير إلى أنها قرارات قاصمة اقتصادياً للمليشيات، وكان يفترض اتخاذها منذ سنوات طويلة، ربما تعود إلى بداية هذا الانقلاب، الذي كان يفترض حصاره اقتصاديا من أول لحظة.. ومع ذلك تفاءل الناس كثيرا، وأدركوا أنه لا يزال بيد الشرعية الكثير من الأوراق التي يمكنها استخدامها في معركة إسقاط الانقلاب، وشل قدرته الاقتصادية التي لا يزال يتنفس من خلالها.

ولكن رغم فرح الناس وخروجهم الكبير لتأييد تلك القرارات، سرعان ما جاء التراجع عنها، ما سبب موجة من الإحباط الكبير لدى الشارع اليمني، الذي كان يعوّل على مثل هذه القرارات في إضعاف الانقلاب وشل قدراته، وتعريته من كل ما يستر نفسه به من أوراق، مثل ورقة دعم المقاومة الفلسطينية، التي يتخذها ستاراً للبحث عن شرعية ما من خلال قضية فلسطين.

لكن التراجع الذي حصل مؤخراً عن تلك القرارات، وهو شيء متوقع، ونتاج طبيعي لتراخي الشرعية في التعاطي مع كل الملفات، وخاصة الملف الاقتصادي، أدى- كغيره من الملفات منذ البداية- إلى الكثير من الأخطاء الجسيمة، التي ساهمت في إطالة أمد الحرب والأزمة في اليمن. وساهم التراخي في تقوية جماعة الحوثي أيضا، هذا عدا عن انعكاس هذا التراخي للشرعية على أدائها في كل المجالات المهمة والاستراتيجية، سياسياً وعسكريا وأمنياً واقتصاديا أيضا.

ولهذا كان القرار الأخير للبنك المركزي اليمني بعدن بمثابة حقنة تفاؤل باستعادة الشرعية لزمام الأمور، رغم تأخر هذا القرار الذي أربك بالفعل جماعة الحوثي، وجعلها ترفع صوتها وتستشعر الخطر لأول مرة، منذ بداية هذه الحرب الانقلابية التي قامت بها هذه المليشيات، لكن الذي حدث بعد ذلك يجعلنا ندرك أن التفاؤل الذي طغى على الناس بقدرة الشرعية على تركيع المليشيات الانقلابية، وتعطيل قدراتها المالية، كمقدمة لتحقيق نجاحات أخرى في الملفات الأمنية والعسكرية والسياسية أيضا، ما لبث أن تبخر سريعاً.

فالذي حدث بعد ذلك هو العكس تماماً، وقد تمكنت مليشيات الحوثي طوال العام الماضي من الدخول في حالة هدنة هشة، لكنها مصحوبة بتواصل سياسي سري مع المسؤولين السعوديين، وكانت تجري بينهما جلسات مفاوضات برعاية عمانية، وربما قطعوا شوطاً كبيراً في رسم بعض تفاصيل ما أطلقوا عليه “خارطة الطريق”، وهي خطوات ربما لا تعلم عنها الحكومة الشرعية شيئاً، لأنها لم تكن حاضرة في هذه اللقاءات، التي حرص الحوثيون والعمانيون على أن تبقى سرية، ومقصورة على الحوثيين والسعودية فقط.

ولا شك أن مثل هذا التوجه من قبل السعودية أولاً يعكس حجم المأزق القائم، ونوعية السياسة التي تمارسها الحكومة السعودية مع حلفائها في الشرعية اليمنية، والذين لا تعيرهم المملكة ربما أي أهمية تذكر، بعد أن سلمت لها الحكومة الشرعية اليمنية والأحزاب السياسية اليمنية الداعمة لها كل أوراقهم، وبقوا ربما مجرد ضيوف ثقلاء  لديها، وربما لم يعودوا مرحباً بهم، بعد أن تمكنت المملكة من سحب كل الأوراق السياسية المهمة لدى هذه الشرعية، وخاصة بعد ما سميت بمشاورات الرياض، التي تمخضت عن تجميد شرعية الرئيس هادي ونائبه قبل عامين، لتحل محلها شرعية ما سُمي بمجلس القيادة الرئاسي، المكون من ثمانية أشخاص.

لقد كشفت أزمة البنك المركزي الراهنة، بجانب ما تُسمى بـ”خارطة السلام” غير المعروفة بين السعودية و الحوثي، إلى أي مدى أضعفت المملكة السعودية حليفتها، الحكومة اليمنية الشرعية المُنقلب عليها، وإلى أي مدى أيضا أضعفت الحكومة الشرعية اليمنية نفسها، وفرطت بقرارها السيادي والسياسي، ومن ثم فرطت بتضحيات اليمنيين الكبيرة على امتداد معركة استعادة الشرعية اليمنية، التي أسقطتها جماعة الحوثي الانقلابية في 21 سبتمبر 2014م.

والأخطر اليوم، أن أي جهد حقيقي يُبذل من قبل أي طرف جاد وصادق في الحكومة الشرعية، كما هو حال محافظ البنك المركزي اليمني مع قراراته الأخيرة، يتحول فجأة من فعل حقيقي ومؤثر وانتصار للشرعية إلى فعل ليس له أي تأثير، بل له تأثير عكسي يضرب ما تبقى للشرعية من مصداقية، ومن أدوات قوة يتم تحويلها لحظياً إلى أدوات ضعف وهزيمة لهذه الشرعية.

كل ما يجري يقودنا إلى إعادة النظر في الخلل الجوهري والمركزي، الذي سلب هذه الشرعية أي قدرة على الفعل، وعطل كل مؤسساتها وأوراق قوتها الكثيرة، وفرط بتضحيات اليمنيين، وحولها- أي الشرعية- إلى أضعف طرف في المشهد اليمني السياسي الراهن. ولا يمكن استعادة الشرعية اليمنية لفعاليتها إلا من خلال تلافي هذا الخلل الجوهري المتمثل بتفريط رجالات الشرعية البدلاء اليوم بالقرار الوطني،  واستمرارهم بهذا التفريط الذي تجاوز في حقيقة الأمر صفة التفريط، وربما وصل إلى مرحلة الخيانة الوطنية.

إن الحلقة المفقودة اليوم لا تكمن في انعدام الإمكانات، أو انعدام الخيال السياسي، أو عدم قدرة الشرعية على المبادرة، بقدر ما هي في التفريط بالقرار السيادي الوطني اليمني، ورهن هذا القرار لدى المملكة التي تمادت في العبث بالملف اليمني، في ظل مجلس قيادة مسلوب الإرادة، عينته من أجل هذه اللحظة التي تريد من خلالها الخروج من المأزق اليمني بالذهاب باليمنيين إلى مستنقع الخضوع للمليشيات، التي خرجوا ضدها وضد انقلابها، وقدموا آلاف الضحايا ما بين شهداء وجرحى ومعتقلين ومنفيين في الشتات.

إن الحلقة المفقودة اليوم ليست سوى القرار السيادي المستلب، ولا يمكن استعادة هذه الحلقة المفقودة إلا من خلال استعادة القرار السيادي الوطني، وبأسرع وقت ممكن، ولن تنعم اليمن واليمنيون بالسلام الحقيقي والأمن والاستقرار والنهوض مجددا إلا من خلال استعادة قرارهم السيادي الوطني، الذي سيوفر عليهم الكثير من التضحيات، ويختصر لهم الطريق بعد أن طالت بهم هذه المتاهة، منذ أكثر من عشر سنوات مضت، وهم يراوحون في المكان ذاته.

بل إن المدخل الحقيقي اليوم لخروج اليمن من هذه المتاهة يتمثل بتجاوز شرعية الواقع السياسي، المصطنعة على عين المملكة ومصالحها، نحو تخليق شرعية وطنية يمنية مقاتلة على الأرض، تستند إلى بعدها الوطني والقتالي والنضالي، وعمقها الشعبي الرافض لأي تسويات على حساب تضحيات اليمنيين، وتطلعاتهم الوطنية، وآمالهم الكبيرة باستعادة وطنهم المستلب داخلياً وخارجياً.. وهذه الخطوة هي الحلقة المفقودة التي لن يستعيد اليمنيون وطنهم بدونها.

نبيل البكيري

مهتم بالفكر السياسي الإسلامي

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

رسالة إلى أمريكا

رسالة إلى أمريكا

وقف مراسل شبكة CNN الإخبارية بمنطقة "أيتون" شرقي مدينة لوس أنجلوس الأمريكية، مرتدياً قناعاً واقياً من الغاز، قام بإزاحته عن وجهه، بعد أن طلبت منه المذيعة في داخل الاستوديو أن يصف لها ما يحدث على الأرض. بعيون دامعة، ووجه شاحب مكفهر، تحدث بأسى عن جحيم مروع، تشهده ولاية...

قراءة المزيد
أما آن للوزيرة الألمانية أن تهمد؟!

أما آن للوزيرة الألمانية أن تهمد؟!

أخيراً تحقق لها المراد! فقد صافحت الوزيرة الألمانية أنالينا بيربوك الوزيرَ السوري أسعد الشيباني في الرياض، بعد الضجة الكبرى لعدم مصافحة أحمد الشرع لها، والاكتفاء بالترحيب بها بوضع يده مبسوطة إلى صدره! وكما كان عدم المصافحة في دمشق خبرَ الموسم في الإعلام الغربي، فقد...

قراءة المزيد
غزة وجدليَّتا النصر والهزيمة

غزة وجدليَّتا النصر والهزيمة

على مدى ما يقارب ٤٧١ يوماً، وقفت غزة وحيدةً صامدةً تواجه مصيرها، كآخر بقعة تتموضع عليها القضية الفلسطينية، بعد أن تم تدجين العالم العربي كله وصولاً إلى تدجين فلسطين نفسها بقيادة أكثر صهيونية من الصهيونية نفسها، لا هدف لها سوى أن تُنسي الفلسطينيين والعالم كله شيئاً...

قراءة المزيد
Loading...