أطروحات المستشرقين.. باقية وتتمدد

بواسطة | سبتمبر 21, 2023

بواسطة | سبتمبر 21, 2023

أطروحات المستشرقين.. باقية وتتمدد

حضرت قبل أيام المؤتمر السنوي للجمعية الأمريكية للعلوم السياسية، الذي عُقد في مدينة “لوس أنجلوس” بولاية كاليفورنيا، وهو مؤتمر أحرص على حضوره كلما تيسرت الظروف، وذلك للتعرف على الجديد في الحقل المعرفي للعلوم السياسية بمختلف فروعها، كالسياسة المقارنة والعلاقات الدولية والنظرية السياسية… إلخ، وفي نفس الوقت التشبيك واللقاء مع الباحثين المختصين في هذه الموضوعات، سواء أكانوا عربا أم أجانب.
وقد لفت نظري عدة ملاحظات في لقاء هذا العام، لعل أولها أن المؤتمر لم يكن على قدر التوقعات، سواء من حيث عدد الحضور، أو من حيث نوعية الأبحاث والمشاركات، على الأقل في تلك الفعاليات التي حضرتها. انخفاض عدد الحضور، الذي لم يتجاوز نصف المعتاد في هذا المؤتمر السنوي، وكان يتراوح سابقا ما بين 3 و4 آلاف مشارك يأتون من مختلف أنحاء العام، لربما جاء بتأثير الإضراب الذي يقيمه عمال الفنادق في مدينة لوس أنجلوس، الذين يطالبون بتحسين أوضاعهم الوظيفية وزيادة رواتبهم، والذين يصل عددهم إلى حوالي 11 ألف عامل؛ ولربما تأثر عدد المشاركين أيضا بما أحدثه فيروس “كوفيد 19” من تحولات جذرية في طرق التواصل، والمشاركة في المؤتمرات والندوات، والتي أصبح معظمها يُعقد “أونلاين” عبر الوسائط المتعددة مثل زووم وغيرها.
أما من حيث نوعية الأبحاث، فقد حضرت ست جلسات، جاء معظمها مخيبا للآمال من حيث مستوى الأفكار، والأطروحات التي جاءت متواضعة ولا ترقى إلى مستوى مؤتمر بهذا الحجم والتأثير. بل الأنكى ما حدث في إحدى الجلسات التي حضرتها، وكانت تناقش مسألة العلاقة بين الدين والتطرف والعنف، حيث سمعت من بعض الباحثين ذات الخطاب الاستشراقي المقيت حول علاقة الإسلام بالتطرف، وتكرارا للمقولات النمطية والمعلّبة حول تشجيعه للعنف، وكأن شيئا لم يتغير طيلة العقود الماضية، التي ظننّا فيها أن ثمة نضجا وعمقا وموضوعية وعدالة قد وجدت طريقها إلى العقل الغربي، فابتعد من خلالها عن الـ “كليشيهات” الجاهزة حول الإسلام والمسلمين؛ وحضرت أيضا جلسة حول الإسلاميين في الشرق الأوسط، فلم أسمع فيها أي جديد حول دراسة الحركات الإسلامية، باستثناء ورقة واحدة طرحت بعض الأسئلة الجادة حول كيفية دراسة الإسلام السياسي الشيعي، وإن لم تقدم إجابات عن الموضوع أو تطرح مقاربة مختلفة، سواء معرفيا أو منهجيا، حول الفوارق بين الإسلام السياسي السني ونظيره الشيعي. أما اللافت فقد كان في الطرح الذي قدمه أحد الباحثين حول العلاقة بين حوزتي “قم” و”النجف”، والذي جاء متواضعا ومختزلا إلى حد بعيد، وبدا الأمر وكأن الباحث يعطي محاضرة تعريفية لطلاب الصف الأول الجامعي حول الموضوع، علما بأنه ينتمي لجامعة مرموقة في أميركا.. قطعاً لست مع التعميم فيما يخص مستوى المشاركات، فلربما كانت هناك أوراق ومشاركات جيدة، ولكني أتحدث عما حضرته، وكذلك ما سمعته من مشاركين آخرين نقلوا نفس الملاحظة حول تواضع مستوى الأوراق والجلسات التي حضروها.
أما الملاحظة الثانية، فقد تمثلت في أعداد الباحثين والباحثات العرب أو من أصول عربية، الذين حضروا وشاركوا في جلسات ومناقشات المؤتمر؛ فقد التقيت العديد منهم سواء خلال ردهات المؤتمر أو في الجلسات، بعضهم أعرفه وبعضهم الآخر تعرّفت إليه للمرة الأولى، ومعظمهم من الشباب ما بين العشرين والثلاثين من أعمارهم، وهو مؤشر صحي وجيد على الحضور العربي في هذه المؤتمرات المهمة. وللحق، فإن أوراقهم وأبحاثهم التي شاركوا بها كانت لافتة ولديها فِكَر وأطروحات متميزة، ناهيك عن أن بعضهم يدرس ويعمل في عدد من الجامعات الغربية المرموقة، مثل هارفارد وبرينستون وجورج تاون وجورج واشنطن ومعهد ماسيشوستس للتكنولوجيا وغيرها. أما اللافت، والمبهج حقا، فكان حضور عدد من الباحثين والباحثات الذين يعملون في جامعات ومؤسسات بحثية عربية، ومشاركتهم الفاعلة في جلسات المؤتمر سواء عرضا أو اشتباكا مع ما يتم طرحه من فِكَر ومقولات بحثية؛ فقد التقيت باحثين وباحثات من مصر، واليمن، والكويت، والسعودية، وسوريا، وفلسطين، وغيرها؛ ومعظمهم من جيل الشباب الذين ربما لم يتجاوزوا الثلاثين من أعمارهم، وهو ما يعطينا تفاؤلا وأملا كبيرا حول مستقبل هذه الأمة، التي تدفع ثمنا باهظا بسبب إغلاق آفاق ومنافذ الحرية البحثية والأكاديمية.
والملاحظة الثالثة هي المشاركة الواضحة للباحثين الآسيويين، خاصة من الصين واليابان وكوريا الجنوبية؛ فقد رأيت العديد من هؤلاء الباحثين في قاعات العرض والنقاش، وفي ردهات مركز المؤتمرات الضخم الذي احتضن جلسات المؤتمر على مدار الأيام الأربعة؛ وقد لاحظت أن أغلب هؤلاء الباحثين يسيرون ويتناقشون معا في جماعات صغيرة، سواء بين الجلسات، أو على طاولات الأكل والشراب المنتشرة في المكان؛ ولم يسعفني الحظ لحضور جلساتهم، بسبب تعارضها في التوقيت مع جلسات أخرى كنت قد خططت مسبقا لحضورها، حيث تُعقد جلسات المؤتمر بالتوازي في أكثر من قاعة.
أما الملاحظة الأخيرة، فتتعلق بمعرض الكتاب الذي تم تنظيمه على هامش المؤتمر، وهو تقليد معروف في مثل هذه المؤتمرات العلمية والأكاديمية، حيث تقوم كبريات دور النشر العالمية، مثل دور نشر جامعات كمبردج وأوكسفورد وبرينستون وستانفورد وغيرها، بعرض أحدث ما لديها من كتب ودراسات كانت قد تمت طباعتها قبل بدء المؤتمر، وقد كان الحضور هذه المرة أيضا متواضعا كمّا وكيفا، فلم يشارك عدد كبير من دور النشر والطباعة، على غير العادة، وحتى من شاركوا لم يعرضوا كثيرا من الكتب اللافتة واللامعة في هذا الحقل المعرفي.
وإذا كان من فائدة ملموسة لحضور المؤتمر هذا العام، فلعلها تتمثل في زيارة ولاية كاليفورنيا، والتعرف إلى بعض شباب وقادة المجتمع العربي والمسلم، من المهاجرين المقيمين هناك منذ عقود، وهو موضوع قد نعود إليه لاحقا بحول الله.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من...

قراءة المزيد
Loading...