أمثال تفتقر إلى الحكمة

بواسطة | أغسطس 30, 2023

بواسطة | أغسطس 30, 2023

أمثال تفتقر إلى الحكمة

في جميع اللغات يكثر استخدام الأمثال بطريقة مجازية، لإبداء الآراء حول مختلف الأمور؛ والتراث العربي مليء بالأمثال المتداولة عبر القرون، ولكل منها حكاية: “الصيف ضيعت اللبن”، “قطعت جهيزة قول كل خطيب”، “وافق شن طبقة”، “كل إناء بما فيه ينضح”، “انج سعد فقد هلك سعيد” “ما حك جلدك مثل ظفرك”…
وهناك كنز ضخم من الأمثال العربية المتخمة بالحكمة وسداد الرأي، منها على سبيل المثال: “من شب على شيء شاب عليه” (فاترك سيّئ العادات والممارسات وأنت في سن مبكرة)؛ “إذا تفرقت الغنم قادتها العنز الجرباء” (وهذا قول يماثل “في الاتحاد قوة”)؛ “رب أخ لم تلده أمك”  (وفي هذا حضٌّ على الحصول على قرناء طيبين)، وتتوالى الأمثال التي تحض على الفضائل والسلوك القويم، ومنها: “لا تؤجل عمل اليوم إلى الغد”، “خير الكلام ما قل ودل”، “الحياء من الإيمان”، “الدهر يومان: يوم لك ويوم عليك”، “ما خاب من استخار ولا ندم من استشار”، “العجلة من الشيطان”، “رحم الله امرأً عرف قدر نفسه” وغير ذلك كثير.
ثم أتانا حين من الدهر، صرنا فيه نتداول أمثالا لا قيمة إيجابية لها سوى أنها كلام منظوم، فلأن الشعر هو ذاكرة العرب، فكل كلام مسجوع أو مقفى يجد الرواج والقبول، لدرجة أن كثيرين يتعاملون مع الأمثال وكأنها أحاديث قدسية أو تتضمن أحكاما قطعية!. فقد تحكي مثلا لشخص ما عن سعادتك لأن بنتك نالت الدرجة الجامعية، فيقول لك: “على رأي المثل، همّ البنات حتى الممات”، وكأنه يقول: لا تفرح بنجاح البنت؛ ويبلغ آخر أنك بصدد إقراض ابن عمك بعض المال لفك ضائقة يعاني منها، فيتبرع بتنبيهك: “الأقارب عقارب”، على ما في هذا من “نهي” عن صلة الأرحام، بل هناك مثل يحض على اجتناب فعل الخير “خيرا تفعل شرا ترى”؛ وهناك من يتعرض للعتاب لكونه بلا أصحاب، فيقول لك: ألم تسمع الشاعر يقول: احذر عدوك مرة واحذر صديقك ألف مرة؛ مع أن الشاعر منصور بن إسماعيل الفقيه، قصد أن الصديق قد يكون “أعلم بالمضرة” في مواقف معينة، ولكنه لم ينه عن مصادقة الآخرين، أو يحض على قطع حبال الود مع الآخرين.   
وتراثنا الشعبي حافل بالأمثلة الانهزامية أو التي تحض على الخنوع، وتسمع منها: “اليد اللي بتضربك بوسها، وادعي عليها بالكسر” (أي كن خانعا ذليلا عندما تتعرض للإهانة، ثم طنطن في سرك بالدعاء على من أهانك أو ضربك)، وشبيه بهذا قولهم: “إذا كان لك عند الكلب حاجة قل له يا سيدي”؛ وهناك من يردد: “مد رجلك على قدّ لحافك”، للنهي عن الطموح إلى ما هو أفضل؛ وبينما الإمام الشافعي ينصح بالسفر قائلا:
تَغَرَّب عن الأَوطان في طلب العلا .. وسـافر فـفي الأَسـفار خمـس فوائد
تَـفَــرُّج هَــمٍّ واِكـتســاب معـيـشـة .. وعــلــمٌ وآدابٌ وصــحــبَـةُ مـاجـد
 يأتيك من ينهاك عن السفر في كل الأحوال بالقول: “من فارق داره قلّ مقداره”.
ثم انظر للتعاون على الإثم والعدوان: “أنا وأخي على ابن عمي وأنا وأخي وابن عمي على الغريب”؛ وإليك بعده قول واسع التداول على ما فيه من سخف: “قطع الأعناق ولا قطع الأرزاق”، فكيف يمكن أن يكون فقد العمل أشد وطأة من فقد الحياة؟!. وعند الزواج يسمع طرفا العقد معلبات لفظية: “منك (للرجل) المال ومنها العيال”!! فلنفترض أن راتبها يعادل راتب الزوج أو يزيد عليه، فهل يعني ذلك أنها غير ملزمة بالمشاركة طوعا في ميزانية البيت لأن المثل ينص على أن العيال فقط “منها”، بينما الرجل طرف أساس في مسألة العيال، وهي لن تأتي بهم من بيت أبيها؟ ويتلو أو يرافق ذلك: “تغلبها بالمال وتغلبك بالعيال”.. أهو زواج أم دوري “كروي”؟ ودعك من أن الرجل المقبل على الزواج مطالب بالتغلب على “العروس” في مجال المال، فما هو المقصود بأن تغلبه بالعيال؟ هل ستشكل فريقا و”منتخبا” من العيال لإنزال الهزيمة بالزوج؟ ولماذا يعتبر العيال رصيدا فقط للزوجة مع أنهم إنتاج مشترك؟ وهب أن المقصود هو أن الرجل هو صاحب القوامة وعليه توفير المال، ولكن ما هو المقصود بأن تغلب العروس العريس بالعيال؟ يعني تأتي هي بطفل كلما نال الزوج علاوة أو ترقية، أو اختلس أو ورث مالا؟.
وتقول لصاحبك إنك معتل الصحة وبصدد زيارة الطبيب، فينبري لنصحك بصرف النظر عن الطبيب، وبتعاطي عقار معين سبق أن عالج علة مشابهة لشخص آخر متعللا بـ “اسأل مجرب ولا تسأل طبيب”، وكأنما التداوي من المرض ممكن بـ “القياس”؛ وتكف عن الإنفاق على الكماليات بسبب ضيق ذات اليد، فيأتيك النصح المسجوع: “اصرف ما في الجيب يأتيك ما في الغيب”، وكأنما الناصح يعلم ما يخبئه الغيب، بينما عالم الغيب يقول لك إنه ينبغي التعقل في الإنفاق والتوازن بألا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك، وألا تبسطها كل البسط.
وعموما، فالأمثال الشعبية كنز تراثي وأدبي وثقافي نفيس، لأنّها تعبير عن تجارب طويلة في الحياة، كما أنها تعكس أساليب العيش والمعتقدات والمعايير الأخلاقية في المجتمع، وكيفية التعامل مع مختلف الظروف التي عرفها الناس وعايشوها على امتداد قرون متعاقبة؛ ولكن ليست الأمثال كلها حكمة أو حكيمة، فالرأي الحكيم هو نتاج تجربة أدت إلى التمييز بين الصواب والخطأ، والحق والباطل؛ والحكمة عند المسلم في جوهرها هي العقل والتفقه وإتقان العلم والعمل، وهي وضع الأشياء في مواضعها وتنزيل الأمور منازلها، والإقدام في محل الإقدام، والإحجام في موضع الإحجام.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من...

قراءة المزيد
Loading...