أُمّنا هاجر والحجّ وزمزم.. سؤال القدرات والتحديات والأثر الحضاري

بقلم: محمد خير موسى

| 9 يونيو, 2024

مقالات مشابهة

مقالات منوعة

بقلم: محمد خير موسى

| 9 يونيو, 2024

أُمّنا هاجر والحجّ وزمزم.. سؤال القدرات والتحديات والأثر الحضاري

كلما أقبل شهر ذي الحجّة هبّت نسائم المناسك على الأرواح والقلوب والعقول، فتنسمتها الفطرة الإنسانية، وتوقفت العقول أمام جليل معانيها؛ والحجّ عبادة تطلق للعقل العنان للسباحة في فضاء الذكرى، وللانعتاق من حدود الفعل إلى سعة الفكرة.

ومن أعظم معاني الحجّ المُغفَلة أو المغفول عنها تلك التي ترتبط بالمرأة، وتشكل معاني حضارية أو رسائل بالغة القيمة، موجّهةً للعقل المسلم أولًا قبل أيّ أحد آخر.

هاجر عليها السلام نموذج المرأة المُلهِم

لا يمكن لمسلم أن يتأمّل الحجّ ومعانيه دون الوقوف على شخصيّة هاجر عليها السلام، واستحضارِها في المناسك، ولكن المشكلة تكمن في استحضار هاجر درسًا عاديًّا من دروس الحجّ، وذكرى تقليدية من ذكريات المناسك، والتركيز على دلالة الفعل دون تركيز النظر على دلالة الفاعل، وهو المرأة هاجر.

لقد رسّخت هاجر عليها السلام في قصتها مع إبراهيم عليه الصلاة والسلام معاني جمّة، هي في غاية الأهمية من البعد الفكري والحضاري المتعلق بالمرأة.

إن الدين الذي يطلب من أتباعه كلهم تتبُّع خُطا امرأة واستحضار سلوكها وتمثُّله في ركن من أهم أركانه، ويجعل تقليد فعلها في حدث معيّن عبادةً مفروضة على الجميع رجالًا ونساءً؛ هو دين يبني لأتباعه حضارتهم على أساس أن تكون المرأة مصدرًا من مصادر الإلهام الحضاري.

وعندما يجعل الإسلام المرأة ملهمًا في أعظم مؤتمر للبشرية على الإطلاق، فعلينا أن نتساءل عن سبب بقاء شريحة من العاملين في الحقل الإسلامي تستنكف عن الاستلهام من المرأة، أو إبرازها رمزًا وقدوةً وأسوة، واختزال حضورها ودعوتها للمحافل العامة في منطق الديكور الذي تفرضه ضرورات موضة الانفتاح وتكريم المرأة، أو اقتصار معاني الإلهام المتعلقة بها على الماضي ودروسه مع تحييد لها في الحاضر ورسم المستقبل.

بل علينا أن نتساءل أكثر عن تأخير المرأة المسلمة المعاصرة نفسَها عن أن تكون النموذج المُلهم الذي تستقي البشرية من أفعاله الحضارية، فتنتهج نهجها وتسير على آثار أقدامها وخطواتها في إخراج البشرية من الحفرة الحضارية التي تهوي فيها.

أمّنا هاجر وسؤال القدرات والتحديات

يضع إبراهيم عليه الصلاة والسلام هاجر في صحراء قاحلة وفي وادٍ غير ذي زرع، مع طفل صغير وليس معها من الزاد إلا اليسير الذي يكفيها لوقت قصير، ومع ذلك يتركها لمواجهة تحدي البقاء الذي يُعدّ أخطر تحدٍّ يواجه الإنسان.

استطاعت هاجر أن تواجه التحدي بمفردها، وأن تواجه رعب المستقبل المجهول في صحراء مترامية الأطراف وأن تتحمل مسؤولية طفلها الرضيع.

 زادُها في ذلك اليقين بالله تعالى والإيمان بأنه لن يضيّعها، فهي التي كانت تنادي إبراهيم عليه السلام وهو ماضٍ عنها: “يا إبراهيم لمن تتركنا في هذا الوادي الذي ليس فيه أنيس؟” وهو يمضي فلا يجيب؛ فتناديه بكل ما في قلبها من يقين: “يا إبراهيم آلله أمرك بهذا؟”، فالتفت وقال: نعم؛ فقالت: “إذن لا يضيّعنا”

 وبهذا اليقين العجيب والإيمان الراسخ أيقنت هاجر أنها قادرة على أن تواجه الصعاب بمفردها ما دامت في معيّة الله تعالى، ومرتكزها هو السعي والعمل الدؤوب، ودفن الشّعور بالعجز والقصور تحت أقدامها السّاعية على الرمال الملتهبة.

فهل وعى الساعون بين الصفا والمروة أن سعيهم هذا إنما هو على خطا امرأة واجهت التحديات الصعبة بمفردها، وحملت المسؤولية الكبيرة وحدها، ونجحت؟ نعم لقد نجحت.

وهلّا أجاب المسلمون عن سؤال القدرات والتحديات من خلال بناء المرأة إيمانيًّا وفكريًّا ومهاريًّا وسلوكيًّا بما يجعلها قادرة على مواجهة التّحديات وتجاوز الصّعاب إذا ما غاب السّندُ المفترَض الذي هو الرّجل.

وهلّا عملت المرأة المسلمة المعاصرة اليوم على بناء قدراتها الرّوحيّة والماديّة والسّلوكيّة، لتكون قادرة على مواجهة التحديات فيما لو تُركَت في صحراء الحياة الملتهبة وحدها، ليس معها إلا صغار عليها أن تسعى لتنقذهم من هجير هذه الدنيا الصعبة.

زمزم.. ورسالة الأثر الحضاري

بعد سعي هاجر عليها السلام كانت زمزم بئرًا يتدفق تحت قدمي صغيرها في قلب الصحراء القاحلة فينفخ في تلكم البيئة المقفرة روح الحياة، ويغدو الوادي غير ذي الزرع عنوانًا للحياة البشرية ماديًّا وروحيًّا أبد الدهر بعد ذلك.

زمزم كانت هدية لامرأة سعت جاهدةً لأجل البقاء، فكلما شرب المرء من زمزمَ أو تفكر فيها كان عليه أن يرى في معانيها التي تُشرب لها؛ أن المرأة بسعيها وحضورها وفاعليتها هي التي تحوّل صحارى البشرية إلى بيئات قابلة للحياة، فالبشرية التي تغيّب المرأة وتدفن سعيها وتكبت فاعليتها في الحياة وحضورها في المشهد العام هي صحارى ملحٍ لا زمزم فيها.

إن الذين يغيّبون المرأة اليوم عن محافل العمل العام وميادين العمران ودروب الاستخلاف، ويسعون لإلغاء دورها باسم الإسلام إنما أرادوا لأمّتنا أن تكون واديًا غير ذي زرع لا روح فيها ولا مستقبل لها.

وكذلك أولئك الذين يعملون جاهدين على حضورها المتمرد على الذات والقيم والمبادئ؛ يعملون على قتل روح هاجَر فيها باسم الانفتاح والحرية الموهومة، فهم يريدونها هي أن تكون واديًا مقفرًا وقاعًا صفصفًا لا زرع ولا ثمر فيه أو منه.

طوبى لأولئك الذين وعَوا رسائل الحجّ الحضاريّة، وعرفوا أن أمّنا هاجر من أهم ركائز تلكم الرسائل والنماذج الملهمة؛ فعاشوها يقينًا يصنع حاضرًا ومستقبلًا، ولم يكتفوا بجعلها ذكرى من ماضٍ غابر تمرّ دون أثر حقيقيّ.

محمد خير موسى

مختص بقضايا الفكر الإسلامي ومشكلات الشباب

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

رسالة إلى أمريكا

رسالة إلى أمريكا

وقف مراسل شبكة CNN الإخبارية بمنطقة "أيتون" شرقي مدينة لوس أنجلوس الأمريكية، مرتدياً قناعاً واقياً من الغاز، قام بإزاحته عن وجهه، بعد أن طلبت منه المذيعة في داخل الاستوديو أن يصف لها ما يحدث على الأرض. بعيون دامعة، ووجه شاحب مكفهر، تحدث بأسى عن جحيم مروع، تشهده ولاية...

قراءة المزيد
أما آن للوزيرة الألمانية أن تهمد؟!

أما آن للوزيرة الألمانية أن تهمد؟!

أخيراً تحقق لها المراد! فقد صافحت الوزيرة الألمانية أنالينا بيربوك الوزيرَ السوري أسعد الشيباني في الرياض، بعد الضجة الكبرى لعدم مصافحة أحمد الشرع لها، والاكتفاء بالترحيب بها بوضع يده مبسوطة إلى صدره! وكما كان عدم المصافحة في دمشق خبرَ الموسم في الإعلام الغربي، فقد...

قراءة المزيد
غزة وجدليَّتا النصر والهزيمة

غزة وجدليَّتا النصر والهزيمة

على مدى ما يقارب ٤٧١ يوماً، وقفت غزة وحيدةً صامدةً تواجه مصيرها، كآخر بقعة تتموضع عليها القضية الفلسطينية، بعد أن تم تدجين العالم العربي كله وصولاً إلى تدجين فلسطين نفسها بقيادة أكثر صهيونية من الصهيونية نفسها، لا هدف لها سوى أن تُنسي الفلسطينيين والعالم كله شيئاً...

قراءة المزيد
Loading...