الأمريكان لا يكيلون بمكيالين

بواسطة | نوفمبر 8, 2023

بواسطة | نوفمبر 8, 2023

الأمريكان لا يكيلون بمكيالين

تسلّط هذه المقالة الضوء على الازدواجية الأمريكية في التعامل مع القضايا الدولية وتاريخها المليء بالعنف والاضطهاد.

تاريخ العنف والازدواجية في المعايير

في تقديري، فإن واحدة من أسخف العبارات التي تتكرر في الإعلام العربي، كلما هرعت الولايات المتحدة لمنع المجتمع الدولي من إصدار أي إدانة بحق إسرائيل، هي أن لديها ازدواجية في المعايير، وأنها تدين الضحية وتوفر الحماية للجاني، كما هو حادث في أيامنا هذه؛ بينما تؤكد حقائق ووقائع التاريخ، أن الولايات المتحدة لم تنصر مظلوما قط، بل كانت على الدوام هي الجلاد الذي يدمي ظهور الشعوب بسياط من لهب في كل القارات.

والولايات المتحدة بشكلها الحالي هي النموذج الذي قامت عليه إسرائيل: تدفق مئات الآلاف من الأوربيين إلى أرض فيها سكانها الأصليون، فأشبعوهم قتلا وتهجيرا وتشريدا، واستولوا على أرضهم وأقاموا فيها مستوطنات تحولت لاحقا الى مدن، ثم جيء بعبيد من أفريقيا سامهم أسيادهم سوء العذاب؛ وطوال قرنين من الزمان ظل البيض الذين وفدوا من أوروبا إلى الأراضي التي صارت تعرف بـ”الأمريكية” يقاتل بعضهم بعضا بالحديد والنار  للفوز بمناجم الذهب أو الأراضي الزراعية، بل إنه فور إعلان استقلال الولايات المتحدة انفجرت حرب أهلية بين شمال وجنوب البلاد هلك فيها عشرات الآلاف.

وهكذا قامت الولايات المتحدة على جماجم من أسموهم بالهنود الحمر، ومن ثم فالعنف الدموي أمر أصيل في الوجدان والمزاج الأمريكي، وإذا كان سودان اليوم يعاني من وحشية مقاتلين دمويين ذوي بشرة سمراء يحملون اسم الجنجويد، ففي الأراضي الأمريكية جنجويد بيض، يعود تاريخهم إلى أواخر القرن التاسع عشر؛ فرغم أن البيض هم من استورد السود بقوة المال والسلاح، ورغم أن النهضة الاقتصادية الأمريكية منذ مطلع القرن التاسع عشر كانت بعرق ودماء أولئك السود، فإن جزاء إحسانهم كان تعريضهم للإذلال وقتلهم بدم بارد، من أجل “المتعة” أحيانا.
ولعل أشهر جنجويد أمريكا هم أعضاء منظمة كوكلاكس كلان التي ولدت عام 1860، وابتدعت ما يعرف في التاريخ الأمريكي بـlynching ، وهو الإعدام خارج نطاق القانون، شنقا أو بـ”الاصطياد” بالبنادق، أو -في أحوال كثيرة- بوضع دولاب سيارة مطاطي حول الأسود المراد إعدامه، وإشعال النار فيه ليركض مولولا حتى يحترق بالكامل، وسط التصفيق والضحك الصخّاب.

 وفي الولايات المتحدة اليوم 48 مليشيا عنصرية مسلحة، قامت بتوسيع دائرة المغضوب عليهم من غير البيض لتشمل اللاتينيين (السمر)، أي الوافدين من أمريكا الوسطى وأمريكا الجنوبية، وتعمل تحت سمع وبصر السلطات الأمنية الرسمية، وتمارس التدريبات في الرماية والطوابير العسكرية علنا وفي مضامير خاصة بها، وقد شوهد بعض عناصرها وهم يمارسون النشاط الجنجويدي في مواجهة المحتجين الذين خرجوا بالملايين إلى الشوارع والساحات رفضا للفصل والاضطهاد العنصري الذي يستهدف السود، بعد مقتل جورج فلويد خنقا من قبل ضابط شرطة جثم على عنقه بركبته حتى أسلم الروح، في 25 أيار (مايو) من عام 2020، واتضح اثناء التحقيق في الحادثة، أن لذلك الضابط سجلا حافلا في استخدام العنف المفرط بحق السود المشتبه بهم في جنح بسيطة.

ورغم كل الجعجعة عن “الإنجاز الباهر” للآباء المؤسسين الذين صاغوا ما يصفه الأمريكان بالدستور الأكثر رقيا في العالم، فإن عددا من الرؤساء الأمريكان المنتخبين ديمقراطيا قُتلوا على أيدي من لم يكونوا راضين عما أسفرت عنه الانتخابات التي أكدت فوزهم؛ وهكذا اغتيل أبراهام لنكون (اللام الثانية في الاسم تُكتب ولا تُنطق) وجيمس غارفيلد، ووليام ماكينلي، وجون كيندي؛ ونجا من الموت بعد التعرض للرصاص غيلة كل ما ثيودور روزفلت، ورونالد ريغان.

وكما أن اليمين الإسرائيلي الصهيوني ممثلا في تنظيمات مثل غوش أمونيم، وعظمة يهودية، وحركتي كاخ وشاس، هو الذي يغذي خطاب الكراهية ضد الفلسطينيين والعرب عموما، فإن جماعة ما يسمى باليمين المسيحي في الولايات المتحدة، وهم حماة وسدنة الحزب الجمهوري، يديرون مؤسسات إعلامية ضخمة تبث خطاب الكراهية العنصري، وتعضد جرائم الجنجويد البيض بتوفير غطاء وتبرير ديني لها، وهذه الجماعة هي التي أوحت للرئيس الأسبق جورج بوش الابن، أنّ ترشيح نفسه لرئاسة الجمهورية أمر من السماء، وأوعزت له بغزو أفغانستان والعراق، ولعل كثيرين منا رأوا نفرا من القساوسة التبشيريين وهم “يرقون” الرئيس السابق دونالد ترامب داخل البيت الأبيض، كي يحميه الله من الكورونا ومن كيد الحزب الديمقراطي.

ما زالت شعوب فيتنام وكمبوديا ولاوس وأمريكا الجنوبية وأمريكا الوسطى والبلقان والعراق وأفغانستان تعاني من الجراح التي سببتها لهم الولايات المتحدة، التي أغارت على أراضيهم وأبادت الحرث والنسل، وداست سنابك دباباتها على القانون الدولي، وما زالت الولايات المتحدة ترفض الانضمام إلى المحكمة الجنائية الدولية، التي تنظر في جرائم الحروب و”إبادة البشر”، وكاد المريب أن يقول خذوني.
والشاهد: للولايات المتحدة مكيال واحد، تكيل به بسخاء لنفسها وصنائعها وربائبها، وتطفِّف الميزان عندما يخص الشعوب الأخرى، ومن ثم فمن يتغطى بالأمريكان عريان.. من يتغطى بهم عريان.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من...

قراءة المزيد
Loading...