الأمية التي لا تمحوها مدارسنا

بواسطة | مايو 10, 2023

بواسطة | مايو 10, 2023

الأمية التي لا تمحوها مدارسنا

أقِر وأعترف بأنني لا أتمتع بمهارات يدوية، وبالتالي لا أستطيع إصلاح أي عطل يلحق بأي جهاز في البيت، ولا ذنب لي في ذلك، لأن معظم الأشياء التي تحتاج إلى إصلاح وصيانة لم تكن موجودة أيام صباي وطفولتي!. فعندما كنا صغارا لم تكن هناك أنابيب ماء وحنفيات، ولم تكن هناك أدوات كهربائية.. دعك من كل هذا، فأنا والله لم أتعامل مع البطانية إلا بعد دخول المدرسة المتوسطة، وقبلها كانت أغطية البرد في بيتنا، وكذلك في كافة البيوت من حولنا، تصنع من جلود الماعز بعد دبغها؛ وبالتالي كان من المألوف أن يستيقظ الواحد منا، وفمه مليء بشعر الغنم المتساقط من “الفروة”!.. وفي المدرسة المتوسطة وفرت لنا الحكومة السكن الداخلي، وأعطتنا بطانيات، وكانت تلك طفرة حضارية كبرى في مسيرة حياتي.

ال “دي تي” هما الحرفان الأولان من ديزاين “آند” تكنولوجي، أي التصميم والتكنولوجيا.

ملايين العرب مثلي يحملون شهادات ذات أسماء طنانة، ولكنهم لا يحسنون استبدال أسطوانة الغاز الممتلئة بتلك الفارغة. ففي النظام التعليمي العربي يحفظ الطالب جدول الضرب، وأن الفاعل يكون مرفوعا، وبضع سور من القرآن الكريم.. وطراطيش كلام عن ثاني أوكسيد الكربون ونترات البوتاسيوم، ومعركة عين جالوت، وأن مناخ البحر الأبيض حار جاف صيفا، ودافئ ممطر شتاء؛ وبعدها يعتبر “مثقفا” وأهلا للمراكز الوظيفية “اللي هي”. أي لا مجال للمهارات اليدوية في مناهجنا، بل تكرس تلك المناهج احتقار العمل اليدوي.
في المنهج البريطاني مثلا، يتحدث التلاميذ منذ سن السابعة عن مادة يسمونها دي تي.. جيلنا لم يسمع بتلك المادة، ولكنه سمع بأخرى “قريبة” منها هي “دي دي تي”، وكانت من المبيدات الحشرية واسعة الاستخدام، وتم حظرها لأن فيها عناصر تسبب السرطان وأمراض الجهاز التنفسي. وال “دي تي” هما الحرفان الأولان من ديزاين “آند” تكنولوجي، أي التصميم والتكنولوجيا. ولا تحسب أن تلك المادة تتعلق بتصميم أشياء معقدة، بل هي فقط “تعليم” المهارات الأساسية في النجارة واللحام والحدادة وتصميم المجسمات بالورق والكرتون والأخشاب الصغيرة؛ بينما النظام التعليمي العربي يطبق حكم صلاة الجنازة على الكثير من المواد. فأنت “علمي”، وبالتالي لا يعنيك أن يكون المبتدأ مرفوعا أو “مخفوضا”؛ أو أنت “أدبي” (حتى لو كنت تعتقد أن عمر بن أبي ربيعة طبيب في مستشفى حمد العام في الدوحة)، ولا تثريب عليك إذا حسبت أن ثاني أوكسيد الكربون ضروري للقلب، وأن المهارات اليدوية شغل عيال المدرسة الصناعية.
والشاهد هو أن مدارسنا لا تمحو الأمية المهنية والحرفية، إذ تمكث في النظام التعليمي العربي 16 سنة، وتنال شهادة جامعية في الطب أو علم الاجتماع أو المحاسبة، وقد تمضي فوقها ست أو ثماني سنوات أخريات، فتتخصص وتبرع في مجال أكثر دقة، ولكنك تبقى رهينة في يد الكهربائي والميكانيكي والسباك والنجار في معظم ما يتعلق بتفاصيل حياتك اليومية.

هب أنك فوجئت بأن شخصا ما بقربك، اختنق لأن شيئا ما (طعاما مثلا) سد حلقه، ولم يعد قادرا على الكلام أو التنفس؛ هل تعرف طريقة هيملك  Heimlich maneuver لإسعاف الشخص المختنق؟.

جامي كارتر صبي إنجليزي في السادسة عشرة، يستخدم مثل أقرانه غرف الدردشة في الإنترنت، وكان قبل حين من الزمان يحادث صديقا لم يسبق له الالتقاء به، ويقيم في بلدة بعيدة، بالصوت والصورة. عندما سمع ذلك الصديق يصرخ، ويستنجد به: “أخي الأكبر ملقى على الأرض، وهناك زبد يخرج من فمه، وهو يتنفس بصعوبة.. ماذا أفعل وأنا وحدي في البيت، ورجال الإسعاف يقولون إنهم قد يصلون إلى بيتنا بعد نصف ساعة؟”. طلب كارتر من صديقه أن يتحلى بالهدوء، وطفق يملي عليه أن يفعل كذا وكذا، لإنعاش قلب أخيه عن طريق التنفس من فم الى فم، مع الضغط على القفص الصدري بطريقة ووتيرة معينة، وعندما وصل رجال الإسعاف الى منزل صديق كارتر، كان أخوه المصاب قد استعاد وعيه بدرجة معقولة، وتم نقله الى المستشفى؛ وتلقى كارتر إشادة من أطباء قسم القلب، الذين قالوا إن توجيهاته لشقيق المصاب حول طريقة الإسعاف، المعروفة باسم سي. بي. آر، هي التي حالت دون وفاته، أو تعرضه لتعقيدات صحية.
جامي كارتر هذا ليس ولدا عبقريا، وكل ما هناك هو أن مدرسته استعانت بفريق من المسعفين من الصليب الأحمر، لتعليم الطلاب الطرق المختلفة لإسعاف المرضى والمصابين، ومن بينها سي بي آر (وتعرف بقبلة الحياة)، واستذكر كارتر المهارات التي تعلمها في المدرسة وطبقها على حالة مصاب كانت تفصله عنه مئات الكيلومترات.
كنت مدرسا في إحدى مدارس الخرطوم الثانوية، عندما سمعت هرجا ومرجا ينطلق من مجموعة من الطلاب، واندفعت نحوهم ووجدت طالبا يتمرغ في التراب وهو في حالة تشنج، بينما ينهال عليه طالب آخر ضربا بلوح خشبي. انتزعت اللوح الخشبي من يد ذلك الطالب، ولكنه احتج بأن المصاب ربما يكون قد تعرض لصعقة كهربائية، ولهذا فإن الضرب بالخشب يؤدي الى “إزالة تأثير الصعق”! وكان أقرب مصدر كهربائي يبعد عن ذلك المكان نحو عشرة أمتار.
بعد ذلك جاء مدرس التربية الرياضية ووضع ملعقة في فم الطالب، معيدا لسانه الى موضعه الطبيعي، ثم حمله إلى غرفة حسنة التهوية، واستدعى الإسعاف. أدرك زميلنا ذاك أن الطالب المسكين يعاني من الصرع، ولكن جهل زملائه بطرق الإسعاف كاد أن “يصرعه” ضربا بلوح خشبي.
 لنختبر معلوماتك: هب أنك فوجئت بأن شخصا ما بقربك، اختنق لأن شيئا ما (طعاما مثلا) سد حلقه، ولم يعد قادرا على الكلام أو التنفس؛ هل تعرف طريقة هيملك  Heimlich maneuver لإسعاف الشخص المختنق؟. اسأل عنها غوغل على الإنترنت.. والعجيب أن البعض عندنا ينصحون الطلاب باجتناب الإنترنت لأنه “خارج المنهج” وفيه “مضار كثيرة”. هل الإنترنت أكثر ضررا من السيارات التي تقتل أكثر مما تقتله الطائرات، وتستخدم في الفساد الخلقي من معاكسات وتهريب للمخدرات؟ أليس كل شيء مفيد وضروري يتحول إلى شيء ضار ومدمر على أيدي البعض؟.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من...

قراءة المزيد
Loading...