الجزيرة التي صارت أرخبيلا

بواسطة | نوفمبر 1, 2023

بواسطة | نوفمبر 1, 2023

الجزيرة التي صارت أرخبيلا

تحتفل اليوم الجزيرة الفضائية بالذكرى السابعة والعشرين لانطلاقها، حيث أسهمت هذه القناة في تحديث المشهد الإعلامي العربي والعالمي. نستعرض في هذا المقال مسيرتها الرائدة وتأثيرها في تشكيل الرأي العام.

قناة الجزيرة الفضائية – رحلة طويلة من الأماني إلى الإعلام العالمي

يصادف اليوم (الأول من نوفمبر) الذكرى السابعة والعشرين لانطلاقة قناة الجزيرة الفضائية، التي جاءت حبلى بالأماني والآمال العراض، فكان أن أنجبت قنوات أخرى، ونطقت بأكثر من لغة، وصارت تتواصل مع الملايين عبر منصات رقمية، وهذا التناسل أنجب “شبكة الجزيرة الإعلامية”.
وكشخص شارك في مسيرة الجزيرة منذ ساعاتها الأولى، فقد كنت شاهدا على شهقة ميلادها، وكان مشهد كرة اللؤلؤ وهي تشق عباب الماء صاعدة كطائر الفينيق الخرافي، الذي يجدد نفسه ذاتيا المرة تلو المرة، تتويجا لأشهر من العمل الملحمي المتواصل، فقد كان الحلم بقناة عربية تكون مكرسة لخدمة الحقيقة، أقرب إلى الخرافة في أذهان معظم من عُرضت عليهم فكرة المشروع، لأن جميع قنوات التلفزة العربية كانت وقتها -ولا تزال- خاضعة لأهواء الحكومات هنا وهناك، وقامت على مجافاة قواعد العمل الإعلامي الاحترافي، ابتغاء مرضاة الحكام، كما كان هناك سوء ظن بالمشاهد العربي: هل يطيق قناة ليس فيها مسلسلات درامية أو رقص أو غناء أو مسابقات؟ وعليه كان الهاجس الصامت هو مقولة “المية تكذب الغطاس” لتثبت الجزيرة عند لحظة الحقيقة أنها جاءت لتكسر ذلك النمط المستكين، وتخرج عنه مستعصمة بالضوابط والقواعد المهنية والأخلاقية.
 كانت فترة الإعداد لانطلاقة الجزيرة من أخصب الفترات في مسيرتها، فقد تولت كوادر محدودة العدد مهامَّ جسيمةً في مناخ من الود والزمالة، وكانت فرق الصحفيين والفنيين التي تقوم بالتحضير لإطلاق القناة متفرغة تماما لمهامها، لأن طواقم الإسناد الإداري والمالي تولت توفير كافة وسائل الراحة النفسية والجسدية للعاملين، بل إن أعضاء مجلس الإدارة بقيادة رئيسه الشيخ حمد بن ثامر كانوا يرابطون داخل القناة لمعظم ساعات اليوم، وعليه كانت كل مشكلة تعترض سير العمل تجد الحل الفوري، خاصة وأن الجميع كانوا يتطوعون للعمل خارج إطار توصيفاتهم الوظيفية.
كان أمير البلاد وقتها، صاحب السمو الشيخ حمد بن خليفة، وبحكم أنه صاحب فكرة القناة، يتابع التحضيرات لانطلاقتها عن كثب، وكان الفريق المشرف على المشروع قد اقترح أن تحمل القناة اسم “الصقر” أو “الصقر الذهبي”، ولكن الشيخ حمد جاء باسم “الجزيرة” الذي نال الاستحسان؛ وقبل بدء البث في الأول من نوفمبر عام 1996 بساعات، اجتمع الشيخ حمد بقيادات الجزيرة الصحفية وقال لهم: “العالم تغير الآن بوجود الأقمار الصناعية والكمبيوتر الذي يتيح البحث عن كل شيء خلال ثانية، فلا تحجبوا الحقيقة عن الناس.. قولوا الحقيقة حتى تكسبوا ثقتهم، فيشاهدوكم”، وكان ذلك تطمينا للكوادر الصحفية بأن استقلالية وحياد الجزيرة يحظى بسند من أعلى سلطة تنفيذية ودستورية في البلاد.
كانت الجزيرة أول مبادرة إعلامية تخاطب العالم الخارجي انطلاقا من نصف الكرة الجنوبي، الذي ظل عالة على شبكات إعلامية مثل “سي إن إن” و”بي بي سي”، وخلال أيام معدودة كانت قد نجحت في تحريك المياه الراكدة في العالم العربي، وصارت صوت من لا صوت له، بالتقيد المهني الصارم بشعار “الرأي والرأي الآخر”.
وجاء عام 1998 الذي شهد ضرب الولايات المتحدة وحلفائها للعراق بذريعة تجريده من أسلحة الدمار الشامل، في ما سُمي “عملية ثعلب الصحراء”، وكان للجزيرة وقتها مكتب في قلب بغداد، يضم فرقا فنية وصحفية نقلت إلى العالم الخارجي تفاصيل العمليات الحربية لحظة بلحظة، وصارت بذلك مصدرا رئيسا للأخبار والتقارير المتعلقة بالأوضاع في العراق خلال تلك الحرب، ولعل تغطية الجزيرة لمعارك ثعلب الصحراء هي التي أقنعت العالم الغربي بأن قناة جديدة وقوية العود المهني أثبتت أهليتها وجدارتها في سوح الإعلام.
وفي مواكبتها لأحداث 11 سبتمبر 2001 عند تفجير برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك وجانب من مبنى وزارة الدفاع الأمريكية، بثت الجزيرة أدلة قطعية بالصوت والصورة، مصدرها زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن، تؤكد أن أعضاء في التنظيم نفذوا عمليات التفجير تلك؛ ورغم أن جميع الوسائط الإعلامية في العالم، وعلى رأسها تلك الغربية، كانت تستقبل بكل ترحاب وتعيد بث ما تبثه الجزيرة عن خلفيات تلك العمليات، فإن غلاة اليمين الأمريكي الذين كانوا متحكمين في مفاصل السلطة في واشنطن في عهد جورج بوش الثاني، اعتبروا الجزيرة “مارقة” على بيت الطاعة الأمريكي، وظلوا وإلى يوم الناس هذا “يستهدفونها”.
عندما بدأ الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، كان مندوبو وموفدو الجزيرة موجودين في كل مدن العراق الكبرى، من البصرة جنوبا وحتى كركوك شمالا، وبذلك كانوا الطواقم الصحفية الوحيدة التي لا تثبت وقائع الحرب من المنظور الأمريكي وحده، كما كانت تفعل وسائل الإعلام الأخرى، التي ارتضت أن ترافق طواقمها قوافل الجيش الأمريكي، وتنقل فقط ما يقوله الناطقون باسم الجيش الأمريكي، ولم يغفر الأمريكان ذلك للجزيرة؛ ففي الثامن من أبريل من ذلك العام أصابت قذيفة شديدة الذكاء مكتب الجزيرة في بغداد، ما أسفر عن استشهاد طارق أيوب، ويكمن ذكاء القذيفة الفائق في كونها أصابت الهدف المنشود بدقة جراحية، فقد كان موقع المكتب معلوما لدى وزارة الدفاع الأمريكية وقيادة العمليات العسكرية في تلك الحرب، لأن الجزيرة كانت قد زودتهم بإحداثيات دقيقة للمكتب، كي يبعدوه عن الأماكن المستهدفة (وليس لقصفه)، ثم إنه بعد ذلك وفي ظرف نحو عام سرعان ما لحق المصور العراقي رشيد والي بالشهيد طارق أيوب.. وقبل ذلك، وفي العاصمة الأفغانية كابل، كان مكتب الجزيرة قد تعرض في نوفمبر من عام 2001 لسيل من القنابل الأمريكية.
وبتفجر ثورات الربيع العربي في وجه الأنظمة الديكتاتورية، ازداد طابور شهداء الجزيرة عددا بأن انضم إليه علي حسن الجابر ومحمد المسالمة وحسين عباس ومحمد القاسم وطارق نعيم ومهران الديري ومحمد الأصفر وزكريا إبراهيم ومبارك العبادي وإبراهيم عمر، عليهم رحمات الله، ثم وشيرين أبو عاقلة تمضي صوب جنين لتغطية أحداث فيها رماها قناص إسرائيلي برصاصة في مقتل، وسقطت ممسكة بالمايكروفون الذي ظل سلاحها على مدى ربع قرن، روت خلاله للعالم كيف يمارس الصهاينة العنف الأهوج بحق شعب أعزل.
لن تحتفل الجزيرة هذه السنة بذكرى انطلاقتها، ليس فقط لأن أحد أميز فرسان الكلمة فيها، وهو الأستاذ وائل الدحدوح، فقد رفيقة رحلة العمر وفلذات الأكباد بعد أن استهدفتهم آلة الحرب الصهيونية بقذيفة صاروخية وهم قابعون في بيتهم؛ بل لأنه لا يجوز لها ذلك، وقطاع غزة هدف لعدوان صهيوني شرس، يهدف لتدمير البشر والحجر والشجر في غزة، فالجزر التي تشكل أرخبيل الجزيرة الإعلامي، موجودة على الأرض في غزة شاهدة على شلالات الدماء.. فلا مكان للاحتفال، بل هذا مقام أن: نذكر الآن جميع الشهداء.. كل من خط على التاريخ سطرا بالدماء.. نذكر الآن جميع الشرفاء

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من...

قراءة المزيد
Loading...