الحرية من أجل القتل

بواسطة | ديسمبر 3, 2023

بواسطة | ديسمبر 3, 2023

الحرية من أجل القتل

يتناول هذا التحليل تصريحات وزير الخارجية الأمريكي ودعمه الشامل للاحتلال الإسرائيلي في ظل التناقضات بين الكلمات والأفعال.

تحليل وزير الخارجية الأمريكي: بين التصريحات الزائفة والدعم الكامل للاحتلال

للكذب وجوه كثيرة.. لكن أبشعها هو أن يكذب أحدهم، ويعرف أنه يكذب، ويدرك العالم كله أنه يكذب، ثم يستمر في الكذب.
من اللحظة الأولى التي اهتز فيها الكيان الصهيوني بسبب طوفان الأقصى، كشفت الحكومة الأمريكية عن موقفها في دعمها الشامل والكامل للاحتلال، وأعلنت عن ذلك على مرأى ومسمع من الجميع، وشارك الرئيس الأمريكي مع وزير خارجيته ووزير دفاعه في مجلس الحرب للكيان المحتل، وقدم كل الدعم المعنوي واللوجستي والحربي، وحرك أسطوله البحري ليرسو في شرق البحر المتوسط، وقدَّم كل أنواع المساعدات الحربية في خطط الاعتداء على قطاع غزة وحرب الإبادة الشاملة، التي يشنها المحتل ضد الأبرياء والأطفال والنساء في كل القطاع، ولم يُخفِ حجم الدعم العسكري، سواء بالطيارات المسيرة الحديثة أو القنابل أمريكية الصنع المدمرة، أو الدعم على الأرض بتواجد عناصر النخبة لديه وعلى رأسهم الجنرال الأمريكي أريك سميث قائد قوات المارينز، الذي أعلن لاحقا عن نقله إلى الطوارئ في حالة حرجة.

الغريب والمريب هنا هو تلك التصريحات التي تخرج على لسان كبار المسؤولين في الحكومة الأمريكية، التي تتنافى مع واقع الأحداث، خصوصا تلك التي تأتي على لسان وزير الخارجية أنطوني بلينكن، وبالأخص تلك التي يدلي بها خلال زياراته للكيان المحتل من تل أبيب، وآخرها يوم الخميس الماضي عندما قال نصًّا: “هدنة غزة تؤتي ثمارها ونأمل باستمرارها، وأطالب بتكثيف إيصال مساعدات إلى قطاع غزة، ويجب مراعاة الاحتياجات الإنسانية وحماية المدنيين في جنوب القطاع قبل أي عملية عسكرية هناك”.
لم تمر ساعات على تلك التصريحات حتى استأنف الكيان الصهيوني حرب الإبادة الشاملة على قطاع غزة، وبعنف مضاعف قياساً بما كان عليه الوضع قبل الهدنة الإنسانية، التي تم فيها تبادل الرهائن بين المقاومة الفلسيطينية والجانب الإسرائيلي.. وعادت الدماء تسيل وبغزارة في كل بقاع القطاع، مع استخدامهم كل أنواع القنابل الفسفورية المحرمة دوليا، وكانت الغالبية من الشهداء بين الأطفال والنساء.

لم تكن المرة الأولى التي يزور فيها بلينكن الكيان الصهيوني، ويدلي بتصريحات من ذلك النوع، ثم قبل مغادرته يرتكب العدو مجازر رهيبة يخالف فيها كل الأعراف والقوانين الدولية.. وأتذكر منها ما حدث في المستشفى الأهلي المعمداني، يومها كان وزير الخارجية الأمريكي في زيارة للمنطقة، وبعد اجتماعه بمجلس الحرب الإسرائيلي قال إنه يتوجب حماية المدنيين عندما تقوم إسرائيل بتنفيذ حقها في الدفاع عن النفس، وبينما كان بلينكن في الطريق بين تل أبيب والضفة الغربية للقاء الرئيس الفلسطيني محمود عباس وقعت مجرزة المستشفى الأهلي، فقدم التعازي في شهداء المجزرة الذين زاد عددهم عن 700 شهيد، وأعرب في منشور عبر وسائل التواصل الاجتماعي عن “بالغ حزنه جراء الانفجار في المستشفى المعمداني الأهلي بقطاع غزة”.

المدهش أن الرئيس الأمريكي جو بايدن صدّق على الرواية الإسرائيلية للمجزرة، وقال إنه يثق أن الفريق الآخر هو المتسبب فيها، تماما كما صدق على أكذوبة قطع رؤوس الأطفال في السابع من أكتوبر، التي عاد البيت الأبيض وقام بنفيها القاطع.
ومع كل زيارة يقوم بها بلينكن لهم ويدلي بتصريحات تدعو للتهدئة، تأتي جرائم الحرب من جانب الصهاينة مواكبة لها.. ولك أن تتخيل أن أنتوني بلينكن وزير الخارجية الأمريكي قال في السابع عشر من نوفمبر الماضي إن بلاده تعمل على إطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين و”الأمريكيين” لدى حركة حماس، مؤكدا ثقته بوجود مركز قيادة وأنفاق للحركة تحت مجمع الشفاء الطبي في قطاع غزة. وجاءت تلك التصريحات بمثابة صك موافقة على اقتحام جيش الاحتلال للمستشفى، وارتكاب المزيد من المجازر، دون أن يقدم دليلا واحدا على تلك الادعاءات الكاذبة، بل إن كل ما قدمه كان مثار سخرية واستهزاء من وسائل الإعلام العالمية، بما فيها التي تقف معهم وتدعمهم بكل قوة مثل “سي إن إن” و “بي بي سي”، وقد قدّم كل منهما تقريرا يكشف كذب وخداع الجيش الإسرائيلي تجاه ما قام به في مجمع الشفاء الطبي.. وتأكيدا على الكذب قال بلينكن في تصريحات سبقت الاقتحام: أدعو إسرائيل لحماية مجمع الشفاء.
يحدث هذا في كل مرة يتحدث فيها وزير الخارجية الأمريكي عن الإنسانية وحقوق المدنيين والأطفال والأبرياء، والكل بات على يقين أن كل زيارة يقوم بها الرجل لمجلس الحرب الإسرائيلي ما هي إلا تقديم دعم وإعطاء ضوء أخضر لارتكاب المزيد من الجرائم والمجازر.

العالم كله أدرك حقيقة الحكومة الأمريكية، التي ظلت على مدار عقود تتغنى بالحرية والديمقراطية والدفاع عن الإنسانية، وكل تلك الشعارات الزائفة التي سقطت مع حرب الإبادة للكيان الصهيوني على غزة، وسط دعم شامل من الجانب الأمريكي لدرجة مواصلة القمع بحق كل من يؤيد القضية الفلسطينية، ويطالب بإيقاف النار ومحاسبة إسرائيل على جرائم الحرب.
شاهدت رسم كاريكاتير معبّرًا جدا عن حقيقة الوضع في أمريكا، عنوانه “الحرية من أجل القتل”، وفيه صورة لتمثال “الحرية” يتوشح بعلم الكيان المحتل ملطخًا بالدماء، يحمل صاروخا في يده اليمنى المرفوعة عاليا، وفي يده اليسرى يحمل جثة طفل شهيد يرفع العلم الفلسطيني وقد بترت ساقه اليمنى.

وإمعانا في الكذب تجد معظم المسؤولين الأمريكيين، سواء الحاليين أو السابقين، يتحدثون باللغة نفسها ويرددون الكلام ذاته، وكان آخرهم ريتشارد غوودستاين مبعوث الرئيس الأمريكي الأسبق للشرق الأوسط، الذي حل ضيفا على قناة الجزيرة مباشر، وأحرجه المذيع أحمد طه عندما تحدث الضيف عن استخدام حماس للأطفال كدروع بشرية، فسأله المذيع: أين شاهدت تلك المشاهد التي تقول عنها إن حماس تأتي بعشرة آلاف طفل يحملهم المجاهدون على الأعناق؟ فلماذا لا تقتل إسرائيل هؤلاء المجاهدين مع الأطفال؟ فتحدث الضيف عن أحداث السابع من أكتوبر، ليقول إن مقاتلي حماس في هذا اليوم كان بعضهم يردد: يا أمي يا أمي، “لقد قتلت 10 يهود بإيدي”، فعاد المذيع وسأله: أين رأيت هذا المشهد؟ فقال الضيف: الجميع في مجلس الشيوخ رأوا ذلك الفيديو ومدته 43 دقيقة، فعاد المذيع وسأله بوضوح: أنت شاهدت هذا الفيديو؟ فأجاب: “لا، لم أره، ولكن تحدثت مع أناس شاهدوه”، فعاد المذيع وسأله: من الذي شاهد الفيديو وأخبرك بتلك الرواية؟ فقال الضيف: لدي العديد من الأصدقاء في الكونغرس وهم صحفيون أيضا، فقاطعه المذيع: مسؤول بحجمك كان في يوم من الأيام في إدارة بيل كلينتون ينقل ما لا يراه!.

والحقيقة.. إن الرئيس الأمريكي نفسه نقل ما لم يره في القصة نفسها وفي قصة المستشفى المعمداني؛ لدرجة أن القاعدة باتت حاليا: أي تصريح للحكومة الأمريكية عكسه هو الصحيح.. والاستثناء فقط في الدعم الشامل للكيان المحتل.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من...

قراءة المزيد
Loading...