الزلازل في ذاكرة الشعوب العربية

بواسطة | سبتمبر 17, 2023

بواسطة | سبتمبر 17, 2023

الزلازل في ذاكرة الشعوب العربية

ما زالت الجراح لم تبرأ في المغرب وليبيا جراء هذه الزلازل والهزات الأرضية المرعبة، والكوارث التي تجتاح الرقعة العربية؛ ويبقى العقل العربي المسلم في حيرة من تداخل التفسير العلمي والتفسير الديني لهذه الأحداث الجيولوجية المدمرة المرعبة، حيث يدفع كثير من الشرعيين بالتفسير إلى نطاق الآيات المنذرة والعلامات المحذرة، ومنها قوله تعالى: {وما نرسل بالآيات إلا تخويفا}؛ وضحايا الزلازل -من كرم الرب- شهداء في المنظومة الشرعية، ومرتبة الشهادة في الإسلام عظيمة جدا. في المقابل يدفع علماء الطبيعة لتفسير ذلك إلى عوامل جيولوجية ومناخية تستوجب وقفة لمواجهتها. نترك ذلك لنتساءل: كيف عرف العرب المسلمون الزلازل؟ وكيف احتفظت ذاكرة الشعوب العربية بهزات الجبال المهلكة، ورجفات الأرض المرعبة؟.
تعرضت البلاد العربية الإسلامية على مر العصور للعديد من الزلازل، منها ما هو ضعيف غير محسوس، ومنها ما هو مُدمِّر، ومنها زلازل شديدة التدمير، كالتي حدثت في بلاد الشام وبعض البلاد الإسلامية الأخرى. وقد وصف المؤرخون المسلمون الزلازل التي تعرضت لها البلاد الإسلامية من حيث وقت حدوثها، والأماكن التي حدثت فيها، ودرجة شدتها وقوتها، والآثار الناجمة عنها من تدمير القرى والمدن والمنشآت، وقتل الآلاف من الأرواح، وغير ذلك من الأوصاف؛ وحتى يصل الوصف إلى القارئ دقيقا وصحيحا أوردنا ما يلي من أخبار.
من الزلازل المدمرة، تلك التي حدثت في مدينة دمشق سنة233هـ /نوفمبر847م، ويصف (ابن تغري بردي) هذه الزلزلة فيقول: “كانت زلزلة عظيمة بدمشق، سقط منها شرفات الجامع الأموي، وتصدّع حائط المحراب، وسقطت منارته، وهلك خلقٌ تحت الردم، وهرب الناس إلى المُصلَّى باكين متضرعين إلى الله، وبقيت ثلاث ساعات ثم سكنت”. وقال القاضي (أحمد بن كامل) في تاريخه: “رأى بعض أهل دير مروان دمشق تنخفض وترتفع مرارا، فمات تحت الردم معظم أهلها” ثم قال: “وكانت الحيطان تنفصل حجارتها من بعضها مع كون الحائط عرضه سبعة أذرع، ثم امتدت هذه الزلزلة إلى أنطاكية فهدمتها، ثم إلى الجزيرة فأخربتها، ثم إلى الموصل. يقال إن الموصل هلك من أهله خمسون ألفا، ومن أهل انطاكية عشرون ألفا”. ويتحدث (ابن عماد الحنبلي) عن هذه الزلزلة فيقول: “فانتفضت منها، وزالت الحجارة العظيمة، وسقطت عدة طاقات من الأسواق على من فيها، فقتلت خلقا كثيرا، وسقطت بعض شرفات الجامع، وانقطع ربع منارته، وانكفأت قرية من عمل الغوطة على أهلها”.
وفي عام 242هـ حدثت في بلاد فارس زلازل هائلة ومُدمِّرة، وقد ذكرها لنا المؤرخ (ابن جرير الطبري)، وتحدث عنها في كتابه “تاريخ الرسل والملوك” فقال: “فمما كان فيها من ذلك الزلازل الهائلة التي كانت بقومس ورساتيقها في شعبان، فتهدمت فيها الدور، ومات من الناس بها مما سقط عليهم من الحيطان وغيرها بشرٌ كثير، ذُكر أنه بلغت عدتهم خمسة وأربعين ألفا وستة وتسعين نفسا”.
وفي يوم الخميس 2 شوال 267هـ/ 4 مايو 881م وقعت زلزلة عظيمة في بلاد الشام، وقد ضربت هذه الزلزلة في الوقت نفسه كلا من مصر، وبلاد الجزيرة، والأندلس، والمغرب؛ ويتحدث الناصري عن قوتها فيقول: “تهدمت منها القصور، وانحطت منها الصخور من الجبال، وفرَّ الناس من المدن البرية من شدة اضطراب الأرض، وتساقطت السقوف والجدران، وفرَّت الطيور من أوكارها، وماجت في السماء زمانا حتى سكنت الزلزلة، وعمَّت هذه الرجفة جميع بلاد الأندلس، سهلها وجبالها، وجميع بلاد العدوة من تلمسان إلى طنجة، ومن البحر الرومي إلى أقصى المغرب”.
ويوثق لنا الإمام (ابن الجوزي) -رحمه الله- في سنة 280هـ زلزالا كارثيّا حدث في منطقة أرمينية، فيقول: “فلما كان ثُلث الليل زلزلوا، فأصبحوا وقد ذهبت المدينة فلم ينج من منازلها إلا اليسير قدر مئة دار، وأنهم دفنوا إلى حيث كتبوا الكتاب ثلاثين ألف نفس، يُخرجون من تحت الهدم ويُدفنون، وأنهم زلزلوا بعد الهَدم خمس مرات، وقيل إنه أُخرج من تحت الهدم خمسون ومئة ألف إنسان ميت”.
وفي سنة 332هـ حدث زلزال عظيم في الأندلس، هز مدينة قرطبة، وفي المدينة نفسها حدث زلزال آخر ولكن في عام 364هـ، وقد حدث بعد خروج الناس من صلاة الظهر. ومن الزلازل القوية المدمِّرة، المذكورة في تاريخنا الإسلامي، زلزال “بيهق”، التي تسمى الآن “سيزوار”، وتقع في أقصى الشرق الإيراني، وكان ذلك في عام 444هـ.
وقد شهدت الرمَّلة زلزلة شديدة ومدمرة في سنة 425هـ/1033م؛ وفي ذلك يقول (ابن تغري بردي): “وفيها زلزلت الرمَّلة زلزلة شديدة، هدمت ثُلث مدينة الرملة، ونزل البحر مقدار ثلاثة فراسخ، فنزل الناس يصيدون السمك فرجع عليهم، فغرق من لم يحسن السباحة..”. وقال (ابن العماد الحنبلي): “وزُلزِلت الرملة فهدم نحو من نصفها، وخُسف بقُرى، وسقطت منارة حائط بيت المقدس، وسقطت منارة وجامع عسقلان، وجُزِر البحر نحو ثلاثة فراسخ..”.
وفي عام 458هـ حدث زلزال في خراسان مكث عدة أيام، تصدعت منه الجبال، وهلك جماعة، وخُسف بقُرى، وخرج الناس إلى الصحراء وهلكوا هناك. وفي عام 472هـ حدث زلزال عظيم في دولة المرابطين؛ انهدمت منه الأبنية، ووقعت الصوامع والمنارات، ومات خلقٌ كثير تحت الهدم، ولم تزل تلك الزلازل تتعاقب في كل يوم وليلة، وقالوا من شهر ربيع الأول حتى آخر يوم من جُمادى الآخرة من تلك السنة.
وفي عام 533هـ حدث زلزال حلب الكبير، ويُعتبر من أشهر الزلازل في تاريخ العرب والمسلمين، وبحسب وصف المؤرخين راح ما يقرب من 200 ألف نسمة، كما ترتب عليه حدوث زلازل شديدة في البحرالمتوسط؛ وقد جاء في وصف هذا الزلزال: “إنها كانت بالدنيا كلها، وإنما كانت بحلب أعظم، جاءت ثمانين مرة ورمت أسوار البلد، وأبراج القلعة، وهرب أهل البلد إلى ظاهرها”.
وفي يوم الاثنين 4 رجب 552هـ/ 11 أغسطس 1157م، ضربت بلاد الشام زلزلة عنيفة سجل تفاصيلها (ابن الأثير) حيث يقول: “في هذه السنة في رجب كان بالشام زلازل قوية ضربت كثيرا من البلاد، وهلك فيها ما لا يُحصى كثرةً، فخرب منها بالمرة حماة، وشيزر، وكفر طاب، وحمص، وحصن الأكراد، وعرقة، واللاذقية، وطرابلس، وأنطاكية، وتهدمت أسوار البلاد والقلاع… وأما كثرة القتلى، فيكفي أن مُعلِّما كان بالمدينة، وهي مدينة حماة، ذكر أنه فارق المكتب لمهم عرض له، فجاءت الزلزلة فخربت البلد، وسقط المكتب على الصبيان جميعهم؛ قال المعلم: فلم يأتِ أحد يسأل عن صبي كان بالمكتب”. ويتحدث (ابن الجوزي) عن دمار هذه الزلزلة فيقول: “ووصل الخبر في رمضان بزلازل كانت بالشام عظيمة في رجب تهدمت منها ثلاثة عشر بلدا، ثمانية من بلاد الإسلام وخمسة من بلاد الكفر..”.
وفي سنة 660هـ/ 1261م، وقعت رجفة شديدة في الشام وفي بلاد الروم، ويقال إنه حصل لبلاد التتر خوف شديد أيضا. ويُفصِّل (القلقشندي) الحديث عن هذه الزلزلة فيقول: “وقع بالديار المصرية بمصر والقاهرة والوجهين القبلي والبحري والبلاد الشامية ودمشق وصفد والكرك والشوبك وغيرها وسواد العراق زلزلة شديدة تساقطت منها الأبنية، وتشققت منها الجبال، وتقطعت منها الصخور، وتفجرت الأرض عيونا، وخرج الناس من مساكنهم هاربين إلى الصحاري، وظهر أثرها في النيل والبحر، وطما البحر لسببها حتى أغرق قماش القصارين، وتكسرت القوارب والسفن، وتهدمت الجدران، ومنارات الجوامع، ووقع جانب عظيم من منارة الإسكندرية”.
ومن الزلازل العظيمة والمدمرة، والتي يذكرها لنا المؤرخ (ابن الأثير)، تلك التي حدثت في مصر، وكان ذلك يوم الخميس 23 ذي الحجة 702هـ/ 8 أغسطس 1303م، ويذكر (ابن الأثير) تفاصيل هذا الزلزال العظيم فيقول: “وكان جمهورها بالديار المصرية، وتلاطمت بسببها البحار فكسرت المراكب، وتهدمت الدور، ومات خلقٌ كثير لا يعلمهم إلا الله، وشققت الحيطان، ولم يُرَ مثلها”. وقد تحدث المؤرخ (تقي الدين المقريزي) أيضا عن هذا الزلزال القوي الذي ضرب مصر في عام 702هـ، حيث وصف هذا الزلزال بقوله: “اهتزت الأرض كلها، وسُمع للحيطان قعقعة وللسقوط أصوات شديدة، وصار الماشي يميل والراكب يسقط حتى تخيل الناس أن السماء انطبقت على الأرض، فخرجوا في الطرقات رجالا ونساء، ومن شدة الخوف والفزع خرجت النساء مكشوفات الوجه واشتد الصراخ وعظم الضجيج والعويل، وتساقطت الدور، وتشققت الجدران، وتهدمت مآذن الجوامع والمدارس، ووضع كثير من الحوامل ما في بطونهن، وخرجت رياح عاصفة ففاض ماء النيل حتى ألقى المراكب بالشاطئ، وعاد الماء عنها فأصبحت على اليابس وتقطعت مراسيها، واقتلع الريح المراكب السائرة في وسط الماء وحدفها على الشاطئ”. وفي ذي الحجة سنة 741هـ/ 1341م حدثت زلزلة عظيمة أيضا في مصر والإسكندرية، وقد مات فيها تحت الهدم ما لا يحصى، وغرقت مراكب كثيرة، وتهدمت جوامع ومآذن لا تُعدّ.
وفي يوم الأحد 27 محرم 1168هـ، حدث زلزال قوي في بلاد السودان، وقد جاء في وصف الزلزلة: “سمع الناس صوتا وزلزلة بالخرطوم في العام الثامن والستين بعد المئة والألف، واشتد الصوت والزلزلة حتى تحركت الأشجار والربوع، واشتقَّت وخربت ومات تحتها الناس، وقت الزوال يوم الأحد السابع والعشرين من المحرم في العام المذكور”. وفي العام التالي يوم السبت 26 محرم 1169هـ، نزل بالمغرب زلزال شديد، أصاب عددا من المدن ومنها فاس وسلا، وقد ذكر المؤرخون هذه الزلزلة ووصفوها وصفا دقيقا.
وقد صاغ كثير من الأدباء والشعراء نظما وشعرا في وصف الزلازل، ومنهم الأديب مصطفى الدمياطي، الذي كتب أبياتا جاء فيها:
إن تناسيت أوقات أنس تقضَّت.. لـسـت أنـسى لـيالـي الـزلـزال
أذكرتـنـا كـيـف الـمنام بـمـهــد.. وأرتـنا بالـعـين رقـص الجبال
أشـهـدتـنـا تـمـايـلات قــصـور.. باهــتــزاز كـحـالـة الأطـفــال
لا أجد خاتمة لهذه المقالة التي كُتبت في وقت، ما زالت فرق الإنقاذ فيه تجاهد لإنقاذ من تبقى على قيد الحياة، من المنكوبين جراء الأحداث الأليمة في المغرب وليبيا، إلا الدعاء لهم بجبر مصابهم وبرحمة من الرب تتنزل عليهم.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من...

قراءة المزيد
Loading...