الفاشر: ملحمة البقاء في وجه الإبادة الجماعية الصامتة بالسودان
بقلم: إدريس آيات
| 28 مايو, 2024
مقالات مشابهة
-
همام ليس في أمستردام!
لم يكن استدعاء في محله! فعقب الموقف البطولي...
-
400 يوم من الحرب
كيفَ تطحنُ الآلة العسكريّة في شعبٍ أعزلَ على مدى...
-
ترامب في البيت الأبيض مجدداً
لا شك أن الفوز الذي أحرزه الجمهوريون بقيادة...
-
وصية طفلة شهيدة من غزة
لم نكن نعلم شيئا عن وصيتها قبل دفنها، وصية...
-
بين فكي نتساريم.. أنصاف عائلات
يقدّم المغترب اِلتماسه بلمّ الشمل ليحظى باجتماع...
-
ترامب.. العدو الصريح خير من الصديق الكتوم
"العدو الصريح خير من صديق كتوم".. مقولة عميقة...
مقالات منوعة
بقلم: إدريس آيات
| 28 مايو, 2024
الفاشر: ملحمة البقاء في وجه الإبادة الجماعية الصامتة بالسودان
تحظى مدينة الفاشر، قلب شمال دارفور بالسودان، بمكانة استراتيجية تتجاوز الحدود الجغرافية لتلامس عمق السياسة ودقائق الصراع في الرقعة السودانية؛ فمنذ القرن الثامن عشر، أخذت الفاشر تصول وتجول في ميادين القرار السياسي، وتتداخل في خيوط السلم والحرب.. يعود تاريخها العريق إلى أيام السلطان عبد الرحمن الرشيد، الذي اختار رهيد تندلتي موطنًا لمحكمته، قبل أن يتحول اسمها في طيات التاريخ إلى الفاشر، الاسم الذي ظل يرفرف على سمائها حتى الآن.
تبرز الفاشر كواحدة من أبرز مدن المنطقة، تتربع على عرش ولاية شمال دارفور كعاصمة لها، تشع منها الأهمية الاقتصادية والسياسية. وبفعل النزاعات التي تشتعل في أركان دارفور المختلفة، شهدت المدينة تدفقًا متزايدًا للنازحين، ما جعلها ملجأ لمن طالتهم يد الصراع، وتحولت إلى موطن يجمع بين حكايات الألم وأمل النجاة.
جذور الصراع
تمتد جذور الصراع في الفاشر إلى مطلع الألفية الجديدة، حيث بدأت نيران الحرب في العام 2003، إثر هجمات نفذتها الحركات المعارضة، أبرزها حركة العدل والمساواة والحركة الشعبية لتحرير السودان، ضد قواعد الجيش السوداني وحليفتها ميليشيات الجنجويد، التي تحولت لاحقًا إلى قوات الدعم السريع، ما خلّف خسائر بشرية جسيمة، حيث راح ضحيته مئات الآلاف بين قتيل ومشرد.
وفي أعقاب ثورة أطاحت بعمر البشير في 2019، لاح الأمل باتفاق جوبا للسلام في 2020، إلا أن الأمان ظل بعيد المنال؛ وما لبثت الحرب الأهلية أن اندلعت مجددًا في 2023 بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، لتبدأ من الخرطوم وتمتد جنوبًا نحو دارفور، وتحديدًا إلى الجنينة، ثم الفاشر، حيث اشتعلت المعارك من جديد. وفي دارفور سيطرت قوات الدعم السريع على أربع من مدن دارفور الخمسة، وهي الجنينة، نيالا، زالينجي، والضعين، وتستهدف الآن خامستها، مدينة الفاشر.
وتسعى كل من القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع إلى فرض سيطرتها على الفاشر، نظراً لأهميتها الاستراتيجية البالغة في دارفور؛ إذْ تعد بوابة استراتيجية نظرًا لموقعها الجغرافي، حيث تقع على بُعد 195 كيلومترًا شمال شرق نيالا، وتربطها طرق رئيسية بمدن مثل أم كدادة والجنينة، وهي قريبة من معسكرات النازحين مثل أبو شوك وزمزم والسلام، ما يعزز من أهميتها الإنسانية واللوجستية. وبعد أن فشلت قوات الدعم السريع في السيطرة على الخرطوم العاصمة – بعد أن حققت قوات الجيش السوداني، بمساندة الفصائل المسلحة، نجاحاً في استعادة مدينة أم درمان، وهي جزء حيوي من العاصمة السودانية-، تحول تركيز الميليشيا نحو دارفور كمركز تموضع استراتيجي، بينما تسعى القوات المسلحة بكل ما في وسعها للحفاظ على الفاشر كآخر معاقلها الرئيسية، لمنع توسع نفوذ الدعم السريع.
بداية المعارك الراهنة
تعود المعارك الأولى في الفاشر إلى ما بين 15 و20 أبريل 2023، تبعها وقف إطلاق نار حتى 12 مايو، ثم استؤنفت الاشتباكات حتى نهاية مايو، ما خلق وضعًا يائسًا للاجئين الهاربين من العنف. كما أن الصراع الراهن في الفاشر أَبْرَزَ الصعوبات العرقية المعمقة في المنطقة، حيث تقطنها قبائل متنوعة مثل الزغاوة والفور والمساليت، وغيرها؛ ويُنظر إلى قوات الدعم السريع، المنتسبة إلى عرب الشتات، على أنها تستهدف هذه القبائل. فقبل الفاشر كانت قوات الدعم السريع ارتكبت في الجنينة مجزرة رهيبة، في يونيو من العام 2023، حيث قتل ما بين 10,000 إلى 15,000 مدني من قبائل المساليت، ما أدى إلى تشريد مئات الآلاف إلى معسكرات النازحين في تشاد. ويحوم في الأذهان التخوف من عودة مثل ذلك مع حصار الميليشيا لمدينة الفاشر.
هذه الديناميكية المتوترة هي التي تُفسّر تصاعد خطابات الدعوة إلى الحرب من الحركات المسلحة الدارفورية المتحالفة مع الجيش، التي تركت موقف الحياد وتبنت الانخراط في القتال، ليس دعماً للجيش كما يُشاع، بل لحماية أمنها والمناطق الواقعة تحت سيطرتها، ولتحقيق مكاسب سياسية تضمن لها المشاركة في حكم البلاد مستقبلاً.
تشمل هذه الحركات حركة تحرير السودان بقيادة مني أركو مناوي، والعدل والمساواة بزعامة جبريل إبراهيم، بالإضافة إلى فصائل منشقة عن تجمع قوى تحرير السودان والتحالف السوداني وحركة تحرير السودان- المجلس الانتقالي، وحركة تحرير السودان- المجلس القيادي؛ أما الطاهر حجر، رئيس تجمع قوى تحرير السودان، فقد انسحب من القوة المشتركة بعد إعلان الحركات المسلحة القتال بجانب الجيش، وخروجها عن حالة الحياد. وقد أعلنت هذه الحركات تحالفها مع الجيش لحماية الفاشر – آخر المدن العصية على الميليشيا- من السقوط.
وعند استرجاع التاريخ، نرى أن الجيش السوداني تحالف بين عامي 2003 و2013 مع قوات الدعم السريع – الجنجويد- لاستئصال حركات المعارضة المسلحة في دارفور، وهي الحركات نفسها التي تقف اليوم جنباً إلى جنب مع الجيش ضد قوات الدعم السريع.. إنها لعبة التحالفات المتغيرة، حيث يتحول عدو الأمس إلى صديق اليوم، في معركة متجددة تعيد تشكيل المشهد السوداني.
تداخل المعركة مع الأمن الإقليمي
على صعيد الأمن الإقليمي، إذا ما نظرنا إلى الفاشر – التي تُعد قريبة لدول وسط القارة- نجد أنّ أي كارثة تشبه تلك التي حدثت في الجنينة قد تقود إلى تفاقم الصراع المسلح بين الفصائل المحلية والدعم السريع، مع احتمال امتداد النزاع – خصيصًا- إلى تشاد المجاورة. وستكون لذلك تداعيات بالغة الأهمية، حيث من المحتمل أن يتأثر الأمن التشادي مباشرةً بالاضطرابات في الفاشر، ما يؤدي إلى تدفق كبير للاجئين السودانيين إلى تشاد، ويضع عبئًا إضافيًا على مواردها. وبالنظر إلى العنف والصراعات المسلحة المتفرقة التي تشهدها تشاد نفسها، فإن سقوط الفاشر قد يؤدي أيضًا إلى تدهور الأوضاع إلى حد كبير، ما قد يستدعي تدخلاً أكبر من السلطات التشادية لتحجيم تأثيرات النزاع، أو في أقل تقدير إعادة النظر في دعمها لقوات الدعم السريع، خصوصًا أن النيران باتت تقترب أكثر فأكثر من العتبة التشادية.
كما لن تبقى القبائل الحدودية، التي تملك النفوذ في تشاد، مكتوفة الأيدي أمام التحركات المسلحة بين الفصائل دون أن تدعم قرابتها في الفاشر، أو تتدخل لقطع خطوط الإمداد القادمة لقوات الدعم السريع من تشاد، والممولة إماراتيًا. فهناك تذمر متزايد من قِبل النخب الحاكمة في تشاد، التي تضم بشكل رئيس أبناء قبيلة الزغاوة، حيال ما قد يحدث في الفاشر؛ فالاتفاق الذي أبرمته هذه النخب مع قوات الدعم السريع يتضمن شرطًا أساسيًا بعدم الإضرار بقرى الزغاوة، لا سيما أن الرئيس التشادي الحالي، محمد كاكا، ينتمي إلى هذه القبيلة.
الكارثة الإنسانية
إنسانيًا، إن موقع الفاشر حرجٌ في الصراع الحالي، حيث تقع على مسافة حوالي 400 كيلومتراً من الحدود التشادية، ما يجعل الهروب من المواجهة العسكرية بين الفصيلين أكثر صعوبة مقارنةً بالجنينة التي تبعد حوالي 30 كيلومتر فقط عن تشاد. في حالة الجنينة، استطاع النازحون العبور إلى تشاد سيراً على الأقدام. أما الفاشر، فهي بموقعها البعيد نسبياً عن الحدود التشادية، تجعل الفرار منها أكثر تحديّاً، ما قد يؤدي إلى أزمة إنسانية شديدة مستمرة في سياق الإبادة الجماعية، التي بدأت بممارسات الجنجويد عام 2003، وتتواصل الآن تحت إشراف قوات الدعم السريع.
ومنذ اندلاع النزاع، انغمست ميليشيا الدعم السريع في ممارسة سياسة الأرض المحروقة، من مسحٍ لقرى ومدن ولاية الجزيرة، ونهبٍ لممتلكات المواطنين، وإفسادٍ للأراضي والبنية التحتية بطريقة ممنهجة، ومحاولةٍ لإحكام السيطرة على أقاليم عديدة، خاصةً دارفور وكردفان غربي السودان.
تُفيد التقارير المحلية بأن النزاع الأخير في الفاشر أسفر – حتى الآن- عن مقتل ما يفوق 100 شخص، في المدينة التي تُؤوي حاليًّا أكثر من 1.8 مليون نسمة، من بينهم 800,000 نازح داخلياً. ويُعاني السكان من نقص حاد في الغذاء والمستلزمات الأساسية، نتيجة الحصار المفروض من قبل قوات الدعم السريع؛ ويُقدَّر أن حوالي 1000 لاجئ يعبرون يوميًا الحدود إلى تشاد، هربًا من الجوع والعنف، والعديد من السكان هجروا منازلهم إلى خارج المدينة، بينما لجأ آخرون إلى الأحياء الجنوبية الأكثر أمانًا نسبيًا، بعيداً عن خطوط المواجهة العسكرية.
وفي سياق متصل، وبحلول ديسمبر 2023، حين أعلنت الأمم المتحدة استعدادها لسحب بعثتها السياسية من السودان، حذر ناثانييل ريموند، محقق حقوق الإنسان في الأمم المتحدة، قائلاً: “إذا سقطت الفاشر، ستُتاح الفرصة لقوات الدعم السريع لاستكمال ما بدأته الجنجويد من إبادة جماعية وتطهير عرقي للأفراد الذين لم يتم تهجيرهم أو قتلهم بعد”.
وبينما يستمر التقاعس الدولي، يتفاقم الوضع الإنساني سوءًا، دون أن تلوح في الأفق أي مساعدات أممية جدية، تخفف من معاناة السكان الدارفوريين، الذين تُترك أرواحهم لطموحات ميليشيا مع داعميها الدوليين، كما تُركوا تحت نير الموت قبل أكثر من عشرين عامًا.
أكاديمي وخبير مختص في الشؤون الخليجية-الأفريقية
1 تعليق
إرسال تعليق
تابعنا على حساباتنا
مقالات أخرى
تسليح إسرائيل من مغارب الأرض عبر مشارقها!
في الوقت الذي تسمح فيه قناة السويس بعبور سفينة حربية إسرائيلية، متذرعة بمعاهدة القسطنطينية الموقعة عام 1888، تقوم إسبانيا -وللمرة الثانية- بمنع رسو سفينتي أسلحة في طريقهما إلى إسرائيل من الولايات المتحدة الأمريكية محملتين بالأسلحة، لتستقبلهما المملكة المغربية! نعم...
همام ليس في أمستردام!
لم يكن استدعاء في محله! فعقب الموقف البطولي لأحرار المغرب في العاصمة الهولندية "أمستردام"، استدعى البعض عبر منصات التواصل الاجتماعي اسم فيلم "همام في أمستردام"، ولا يمكن قبول هذا الاستدعاء إلا من حيث أن "القافية حكمت"، فلم يكن هذا الترويج لفيلم خفيف كالريشة، إلا في...
400 يوم من الحرب
كيفَ تطحنُ الآلة العسكريّة في شعبٍ أعزلَ على مدى أربعمئة يومٍ ويبقى أهلُها على قيد الوجود؟ إنّ حريقًا واحِدًا شَبّ في روما أيّام نيرون قضى على أكثر من عشرة أحياء في روما من أصلِ أربعةَ عشرَ حَيًّا ودمّر كلّ ما فيها ومَنْ فيها. ليسَ صمودًا اختِيارًا وإنْ كان في بعضِه...
سلمت د . إدريس ، حرب السودان هى حرب ميليشيات وبدعم خارجي. العالم الظالم ساكت عنه، وكل من يتغنى بحقوق الإنسان.