المئذنة الحمراء.. إبراهيم غوشة وتأسيس حركة المقاومة الإسلامية

بواسطة | أبريل 27, 2024

بواسطة | أبريل 27, 2024

المئذنة الحمراء.. إبراهيم غوشة وتأسيس حركة المقاومة الإسلامية

كتب إبراهيم غوشة سيرة حياته بعنوان “المئذنة الحمراء”، وأهداها إلى الحقائق فقط واليد النظيفة والمجاهدة في الأردن والكويت والقدس. سجَّل غوشة في مذكراته شهادة حول تجربته في العمل الإسلامي ونشأة حركة حماس، ودوره فيها، إذ عمل متحدثًا باسم الحركة.

ولفتت مذكرات “المئذنة الحمراء” أنظار بعض الباحثين والقراء، باعتبارها من أوائل السِّير التي يكتبها واحد من قيادات الحركة الإسلامية، فطابع السرِّية، الذي غلب على هذه الحركات، جعل مذكراتهم نادرة.

طفولة في القدس

ينقد صقر أبو فخر، في أحد مقالاته، سيرة إبراهيم غوشة، المئذنة الحمراء، بقوله: “يلوح لي أن المقدسي، إبراهيم غوشة، حسب هذه السيرة، لم يعرف القدس وأهلها وثقافتها وأجواءها تمامًا، فقد عاش بين كتب التاريخ والدين والفقه والشعر والسيرة”.

ويقول في موضع آخر: “تغيب عن هذه الذكريات مشاكسات الطفولة وأفانين الشباب ومغامرات الفتوة، وتصبح بلا رونق أو حبور، فلا وشيجة لإبراهيم غوشة بالحب أو بالموسيقا والغناء، أو بالسينما وارتياد المقاهي”. ثم يستطرد أبو فخر في قصص عن حياة مدينة القدس والملاهي التي امتلأت بها، وكذلك دور السينما.

وتعليقي أن الناس تعيش في المدينة الواحدة حَيَواتٍ متوازيةً، ولا يمكن أن يشهدوا التجارب نفسها في المكان نفسه بحُجة المعاصَرة، فطفولة إبراهيم غوشة – كما يصفها في مذكراته- كانت بجانب مسجد المئذنة الحمراء، وهو مسجد قديم يقع في مواجهة بيت صاحب المذكرات داخل أسوار البلدة القديمة، وإلى جوار المئذنة الحمراء كانت ولادة غوشة، فقد كان هذا المسجد الصغير القديم ومئذنته الحجرية الحمراء محورًا للأساطير وشاهدًا على بطولات المقاومة المبكرة ضد الاحتلال البريطاني لفلسطين.

وُلد غوشة بعد شهر من انتهاء الثورة الفلسطينية الكبرى عام 1936م، وعاش طفولته في سنوات ما قبل نكبة 1948م، إذ كبر بين أزقّة حارة السعدية في القدس.

درس على يد الشيخ تقي الدين النبهاني، الذي أسس لاحقًا حزب التحرير، ورأى غوشة سيد قطب في القدس في المؤتمر الشعبي الإسلامي عام 1953م. أكسبته الحياة في سوق العطارين خبرات عظيمة، أفادته في تعرُّف الناس والتعامل معهم، واستخدمها فيما بعد في عمله الطلابي الذي بدأ مبكرًا.. سمع غوشة في طفولته عن معركة القسطل وخبر استشهاد عبد القادر الحسيني، وكان مشغولًا بسؤال: لماذا هُزمنا في فلسطين؟ وما الطرق لاسترجاع ما ضاع من أرضها؟

هذه الطفولة، التي يحضر فيها النبهاني وسيد قطب، بعيدة عن أجواء الملاهي والسينما والمقاهي، فقد تربَّى غوشة وسط الإسلاميين.

حياة غوشة في مصر

سافر غوشة إلى مصر للدراسة في زمن جمال عبد الناصر بعد ثورة يوليو 1952، ورغم التضييق على الإسلاميين وملاحقتهم، فقد حاول غوشة أن يمارس العمل الطلابي، وأولى محاولاته في نظْم الشعر كانت في رثاء الإسلاميين الذين أُعدموا عام 1954م، وكان أبرزهم عبد القادر عودة.

درس غوشة “التوجيهية”، ومن ثم بكالوريوس الهندسة، ومنحته مصر آفاقًا جديدة في العمل الطلابي، فقد كانت قِبلة العرب، فتعرَّف جنسياتٍ عربيةً مختلفةً، وكوَّن صداقاتٍ مع فلسطينيين من قطاع غزة.. تعرَّف غوشة كذلك على ياسر عرفات في ذلك الوقت، وعلى خليل الوزير، وتلقَّى دورة عسكرية على يد ضباط مصريين في أثناء العدوان الثلاثي عام 1956م.

القدس ونكسة يونيو 1967م

زار غوشة القدس قبل حرب 1967م، وشعر في داخله أنها ستكون آخر زيارة له إلى القدس!. ووصف تفاؤل الناس فيها، إذ كانوا يتوقعون أنهم سيحتلون تل أبيب وعكا، وأن صاروخ “الظافر” وصاروخ “القاهر” المصريَّين سيقصفان العمق الإسرائيلي، لكنه شعر في داخله بالانقباض، ومرَّ بباب العمود وسوق العطارين ومسجد عُمر، وصلّى فيه، وكأنه يودع القدس حجرًا حجرًا.. وأتت أخبار هزيمة يونيو 1967، وكانت هزيمة اهتزت لها مشاعر العرب.

عاش غوشة هذه المأساة التي زادت على نكبة عام 1948م، ففي اليوم الثالث للحرب كان يستمع إلى الراديو، وعلم فجأة أن الجيش الإسرائيلي دخل “الأقصى” وتسلَّم مفاتيح باب المغاربة، ووضع العلَم الصهيوني على قُبة الصخرة، وكان إسحاق رابين وموشيه ديان هناك. كان غوشة يسمع هذه الأخبار ويحس بغصّة في حلقه، ولم يستطع التنفس.. عندها تأكد أن “الأقصى” قد سقط بيد الصهاينة.

بعد هذه الأحداث، كأنَّ صاعقةً وقعت على رؤوس الناس، وصرت ترى الناس سكارى وما هم بسكارى، وكان غوشة عندما ينزل إلى السوق في “إربد” يرى أن الجميع مذهولون.. ونقمت الشعوب العربية على جيوشها التي خذلتها. كانت هزيمة 1967م فرصة للمراجعة والتفكير في المستقبل، بدأ غوشة يلتقي شباب الإسلاميين في “إربد” وعمّان، ويتساءل: ما الحل بعد النكسة؟

في ذلك الوقت، عُقد مؤتمر إسلامي دعا إليه محمد عبد الرحمن خليفة، ولكن غوشة وأصدقاءه لم تعجبهم نتائج المؤتمر، فقد كانوا شبابًا متحمسين في الثلاثينيات من أعمارهم، وشعروا بالغضب لأن المؤتمر لم يقدم ما يشفي غليلهم، لذلك تعرّفوا إلى حركة “فتح” و”عرفات”. وكانت حركة “فتح” قد استوعبت بالضبط ما يجري، فقد وُجد فراغ بسبب فشل الأنظمة العربية، وقررت “فتح” أن تبدأ المعركة، وتملأ هذا الفراغ.. اتصل بهم أحد كوادر “فتح”، وسألهم: ما رأيكم أن ندرّبكم على أن تنضموا إلى حركتنا؟

غوشة يقاتل بجانب حركة فتح

تشاوَر غوشة مع رفاقه، وقالوا لحركة فتح: لا مانع لدينا في أن نتدرَّب، ومستعدون لذلك، لكن لن نصبح أعضاء في الحركة.

من المعارك المهمة التي برزت فيها “فتح” في تلك الفترة معركة الكرامة، وعلى الرغم من الطيران والدبابات الصهيونية وآلاف الجنود، فإن هذا الصمود لشباب الجيش الأردني وشباب الفدائيين لقّن موشي ديان درسًا لن ينساه، وسقط من الصهاينة أعداد كبيرة، واستشهد وجرح مئات من الجيش الأردني والفدائيين، ويوم الجمعة سُحِبت دبابات عديدة من ساحة المعركة، وعُرضت أمام أمانة العاصمة، وسط عمّان.

ويصف غوشة شعور الناس بالفرح وإعادة الأمل في هذه الأمة، وكان هذا بعد أقل من عام من ضربة يونيو/ حزيران 1967م، وتقاطر الناس بالمئات – بل الآلاف- ليلمسوا حديد الدبابات بأيديهم.

وبعد معركة الكرامة، اتفق غوشة ورفاقه المهندسون الخمسة على زيارة “عرفات” في “السلط” بالأردن، وأن يعرضوا تقديم خدماتهم الفنية، على أساس أن لهم خبرة في أعمال الخنادق والملاجئ، وكان ذلك في عام 1968م، وفي شهادة غوشة يذكر أن “عرفات” كان يقيم في مكان متواضع جدًّا.

الانفصال عن فتح وحوادث أيلول الأسود

بعد ذلك، حاول غوشة تصحيح الصف الداخلي والتركيز على مفهوم المقاومة وبدء التسلُّح، مع الرغبة في الانفصال عن القتال تحت راية “فتح”، إذ كانوا متأثرين بفِكَر حسن البنا وسيد قطب، التي تدعو إلى التميُّز من الآخرين الذين لا يشاركونهم القناعات الفكرية والدينية.. تزامن ذلك مع الخلاف الذي ظهر بين الفصائل الأردنية والجيش الأردني، الذي وصل إلى ذروته مع أحداث “أيلول الأسود”.

وفي رواية غوشة عن هذه الفترة يرى وجود أخطاء حدثت من الفصائل الفلسطينية، وبدأت الاستفزازات بين الجيش الأردني وبين الفصائل الفلسطينية، وكانت توجد قوى وفصائل فلسطينية أكثر استفزازًا، إذ كانت تكتب على حوائط شوارع عمّان “كل السلطة للمقاومة”، و”تحرير القدس يبدأ من عمان”، وقد برزت في ذلك الجبهة الشعبية والجبهة الديمقراطية، وانجرّت “فتح” معهما، وهكذا تصاعدت التوترات في الأردن بين الفدائيين والجيش الأردني، وكان الكرُّ والفرُّ متبادلًا إلى أن استخدم الجيش الأردني كل قوته وطارد الفدائيين في كل مكان حتى الأحراش، ثم سمح لهم بالذهاب إلى سوريا.

الثورة الإسلامية في إيران

محطة أخرى يقف عندها غوشة، ففي أواخر السبعينيات من القرن العشرين تقترب الحرب الأهلية من لبنان، وتنفجر الثورة الإسلامية في إيران، التي فرح بها الإخوان المسلمون في الأردن، وشعروا بالأمل في حركة التاريخ التي تبشر بتغيير في المشهد السياسي.

تحكي مذكرات غوشة بعد ذلك عن عمله في تلك الفترة بالأردن في سد خالد بن الوليد، وكان العمل في هذا المشروع إحدى أهم الإضافات العملية له في حياته المهنية، وكذلك بدء المشاركة في العمل النقابي، فكانت البداية مع نقابة المهندسين.

جهاز فلسطين وبداية حركة حماس

يكشف غوشة النقاب عن جوانب من العمل الإسلامي لفلسطين في الخارج، كان أبرزها تشكيل قسم فلسطين، الذي يتبع قيادة الإخوان في الأردن، وتحدث عن المؤتمر الداخلي الذي عقده هذا القسم عام 1983م، وهو لقاء مهم حدد مسارات وأولويات العمل الإخواني تجاه فلسطين، وكان “جهاز فلسطين” أول إفرازات هذا المؤتمر لمتابعة الأوضاع في الدّاخل، وهو الجهاز الذي كان يتابع من وراء ستار انطلاقة حماس وما تلاها، وقد أُسندت لغوشة مهمة تشكيل أول لجنة سياسية لحركة حماس، فقد تفرغ للعمل فيها بالكويت، وكانت مهمة جهاز فلسطين دعمَ الانتفاضة والجهاد في فلسطين بكل الوسائل الممكنة، خصوصًا الدعم المالي والسياسي والإعلامي.

في سبتمبر/ أيلول 1990م، دُعيت حماس ضمن مَن دُعي من الحركات والمنظمات الإسلامية إلى ليبيا، لتأسيس ما سُمي “القيادة الشعبية الإسلامية في ليبيا”.. ويحكي غوشة عن لقائه العقيد معمر القذافي، وخلافه معه، وفي لقاء غوشة مع القذافي انتقد القذافي الإخوان بشدة، فلم يستطع غوشة السكوت عن ذلك، وأخبره بأن الإسلاميين قدّموا كثيرًا من التضحيات، ولا يمكن اتهامهم بعلاقة مع الاستعمار ولا بأي تهمة أخرى؛ فسكت الجميع وتغيّر وجه القذافي.

وقابله في اليوم التالي وقد كان غوشة قلقًا مما سيحدث، فقد كانت التخوفات من إرساله إلى حيث ذهب موسى الصدر في ليبيا واختفى! فكيف ترسلون إبراهيم غوشة؟ ولكن جرى اللقاء على أحسن حال، وقدّم غوشة إلى القذافي تضحيات حماس، وأشاد بالحركة وجهادها ضد الاحتلال.

غزو العراق للكويت وإبعاد مرج الزهور

استيقظ العالم على أخبار غزو صدام حسين للكويت عام 1991.. يدخل صدام الكويت، وتدخل حماس العمل الدبلوماسي الدولي، فقد قررت الحركة الوليدة أن يكون لها دور في الوساطات الدولية.

التقت حماس الحركات الإسلامية، وتشكَّل وفد إلى صدام حسين والملك فهد؛ انطلق غوشة مع الوفد من عمّان، وكانت هذه أول مشاركة رسمية لحماس، وأول إعلان لتسمية غوشة ممثلًا لحماس في الخارج.

مثَّل غوشة حماس في مجموعة من النشاطات السياسية، خصوصًا بعد قرار إسرائيل إبعاد مجموعة من أسرى حركة حماس إلى “مرج الزهور”، إذ رفضوا الإبعاد، وأقاموا على حدود لبنان في الثلج لحين حل أزمتهم، وفي ذلك الوقت حاولت حماس أن تفتح علاقات مع الدول الأوروبية وأمريكا، ولفت هذا الإبعاد إلى ضرورة عودة التواصل بين فتح وحماس. كان ذلك الحدث صعودًا كبيرًا لحماس في شاشات التليفزيون العالمية، وكان ذلك في صالح الحركة من حيث الانتشار والتوسُّع.

علاقة حماس بحركة فتح

تُسلّط مذكرات غوشة الضوء على جذور العلاقة المضطربة بين حركتي حماس وفتح، والمحطات التي مرت بها.. ففي سبتمبر/ أيلول 1993م جرى توقيع اتفاقية أوسلو في واشنطن، وقد كانت مرحلة مفصلية في العلاقة  بين حماس وفتح، إذ كان أحد أهم بنود الاتفاقية ملاحقة أي عمل مسلح ضد الاحتلال، ولم يكن ذلك ضد حماس فقط، بل ضد كثير من الفصائل الفلسطينية.

درس غوشة اتفاقية أوسلو كما درسها كثير من المهتمين، ورآها اتفاقية أمنية بالدرجة الأولى، وتُركز على بناء جهاز شرطة كبير وقوي، والغاية منها وقف الانتفاضة الأولى ومنع أي عمليات ضد العدو الصهيوني بواسطة الشرطة الفلسطينية، وهذا ما جرى طبقًا لروايته، وأُجِّلت القضايا الأساسية -كالقدس والانسحاب والمستوطنات والحدود والمياه واللاجئين- لعدة سنوات بعد ذلك.

تتعرض مذكرات “المئذنة الحمراء” لأجواء التوتر بين فتح وحماس، فقد كان الخلاف الأساسي هو اعتراف حماس بمنظمة التحرير ممثلًا شرعيًّا ووحيدًا للشعب الفلسطيني، وكذلك ترتيبات دخول حماس المجلس الوطني، واستمرت الحوارات بين فتح وحماس في عدة مناسبات، وفي كل مرة كانت اللقاءات تنتهي بالفشل.

كذلك تعرض المذكرات لدرجة الغضب لدى عرفات، وإرساله تهديدًا إلى حركة حماس في عدة أوقات، فيه التخيير بين الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية، أو الحسم في الميدان، وكان رد الحركة هو رفض هذه التهديدات؛ وبقيت الوساطات في عدة أوقات مختلفة بطلب وقف المقاومة، وفشلت هذه الوساطات في إنجاز أي تحسين للعلاقات.

مرحلة علاقة حماس والأردن

تكشف مذكرات غوشة تفاصيل بدء ترسيم علاقة حركة حماس مع الأردن.. فبعد مغادرة الحركة الكويت على خلفية حرب الخليج الثانية، احتضن الأردن جانبًا مُهمًّا من الأنشطة لصالح فلسطين، وكان المقر العلني لأول مكتب سياسي للحركة، وانطلاقًا منه بدأت حماس توسيع علاقاتها الإقليمية والدولية. وروى غوشة اللقاءاتِ التي جرت بين الطرفين، وانتهت بالتوصل إلى “اتفاق الجنتلمان”، الذي سمح لحماس بالنشاط السياسي والإعلامي في الساحة الأردنية، على ألا تتدخَّل في الشأن الأردني، وألا تنفذ أي عملياتٍ عسكريةٍ انطلاقًا من الأردن.

زار غوشة إيران في وفد ضم قيادات من حركة حماس، وفي تلك الأثناء أغلقت الحكومة الأردنية مكاتب حماس واعتقلت القيادات الموجودة على الساحة الأردنية، وعندما عادوا لم يسمح رئيس المخابرات سميح البطيخي بإجراء مؤتمر صحفي لهم في المطار.

كان البطيخي يغلي، إذ كان حريصًا على ألا يعود قادة حماس إلى عمّان، فهو يريد التخلص منهم نهائيًّا بادعائه أنهم ذهبوا إلى زيارة إيران، وفي رأيه أنها “إرهابية” وقادة حماس “إرهابيون”.. إذًا فليبقَ الإرهابيون عند الإرهابيين!

محاولة اغتيال خالد مشعل

بعد إطلاق سراح غوشة من سجن المخابرات، وقعت محاولة اغتيال خالد مشعل على يد المخابرات الإسرائيلية؛ وسببت محاولة الاغتيال تلك أزمة كبيرة بين السلطات الأردنية وبين الاحتلال الصهيوني، وجرى إعطاء المصْل المضاد لخالد مشعل وإنقاذه، وكانت هذه العملية صعودًا آخر لحركة حماس، فقد تدخَّل الملك حسين وتوسَّط لخروج الشيخ أحمد ياسين من السجن.

وغضب الملك حسين غضبًا شديدًا عندما وقعت العملية في أرض الأردن في سبتمبر/ أيلول 1997م، بعد ثلاث سنوات من عقد اتفاقية “وادي عربة”، وهو تدخل وقح في السيادة الأردنية، وأرسل إلى كلينتون وقال له: حياة خالد مشعل في كفة واتفاقية السلام في المنطقة، بما فيها اتفاقية السلام مع الأردن في كفة أخرى”.

برحيل الملك حسين بدأت مرحلة جديدة بين حركة حماس وبين النظام الأردني.. في أوائل فبراير/ شباط 1999م تُوفي الملك حسين، ويمكن أن نقول إنه بوفاته اختلَّت المعادلة الحساسة التي كانت تحكم العلاقة بين حركة حماس وبين النظام ألأردني، وتاريخيًّا أصرَّ خالد مشعل على أن يشارك في جنازة الملك حسين، وسار في هذه الجنازة أشخاص متباينون تمامًا، فلُوحظ مثلًا أن قد شارك فيها حافظ الأسد، وشارك عزرا وايزمان، رئيس إسرائيل، وفي يوم التعزية قال غوشة لرفاقه في المكتب السياسي: “إن شيئًا ما يُدبَّر لحركة حماس”، فقد لاحظ عدم ظهور وفد حماس بالتعزية على القناة الأردنية.

خروج حماس من الأردن إلى قطر

دخلت حركة حماس مرحلة جديدة عندما تبنت عديدًا من العمليات الاستشهادية، مثل عمليتي ناتانيا ونهاريا، بالإضافة إلى عمليّة القدس واختطاف الجندي الإسرائيلي نخشون فاكسمان، وأُعلِن عن هذه العمليات من الأردن وفي فترة وجود المكتب السياسي للحركة في الأردن، وكان إبراهيم غوشة آنذاك هو الناطق الرسمي لحركة حماس، واتسمت المرحلة الجديدة بالتضييق على الحركة نتيجة تصريحاتها بتبني العمليات الاستشهادية، فقد طلب الأردن من الحركة الكف عن التصريح بتبني تلك العمليات، وبعد رفض غوشة اعتقلته السلطات وقرر الأردن إبعاده إلى الدوحة عام 1999م.

في نهاية شهر نوفمبر/ تشرين الثاني جرى اقتياد قادة حماس معصوبي الأعين ومقيدين إلى مكان لا يعرفونه، وعندما وصلوا وجدوا أنفسهم أمام طائرة، وأخبروهم بأن الحكومة القطرية ستستقبلهم، فإما أن يصعدوا إلى الطائرة أو يعودوا إلى السجن، فصعدوا إلى الطائرة واستقبلتهم الحكومة القطرية استقبالًا لائقًا للغاية، وقد كانت أيام خير لهم، إذ لم تُقصّر معهم الحكومة القطرية على الإطلاق.

في ذلك الوقت، بدأ الانتقال إلى دمشق، “قلب العمل السياسي” حسب رواية غوشة، وتوفي حافظ الأسد، وذهب غوشة إلى العزاء لكنه لم يستطع الدخول. وبعد ذلك، التقى بشار الأسد وقدم هو ووفد حماس إليه التعزية، وألقى خالد مشعل كلمة نيابة عن حركة حماس، ونُظم احتفال كبير في القرداحة، ولم تعجبْ غوشة كلمة الشيخ رمضان البوطي، لأنه استعمل ألفاظًا تقديسية لا يجوز استعمالها من منطلق إسلامي.

عودة غوشة إلى الأردن

لذلك فكّر غوشة بضرورة الدخول في مفاوضات مع عمّان للعودة إليها، واستمر فشل المفاوضات مع المخابرات الأردنية حول العودة، وانتهى الأمر بالوصول إلى اتفاق بالتوقف عن العمل السياسي عام 2001م.. التزم غوشة الاتفاق منذ ذلك الوقت حتى الثلث الأخير من سنة 2007م، ولكنه شارك في كل المظاهرات والاعتصامات والندوات والمؤتمرات.

استمر احتجاز غوشة في المطار ما يقارب 14 يومًا، وحاولت السلطة التوسط مع اليمن لاستقباله، ولكنه أفشلها، فقد رأى أحقية العودة إلى الأردن، لأنه مواطن أردني ولا يحق لأحد – حسب الدستور- إبعاده عن وطنه، وجرى الإقرار أخيرًا بتوقيع غوشة تعهُّدًا بعدم العودة إلى العمل السياسي مقابل الرجوع إلى الأردن.

تحفَّظ غوشة شخصيًّا على مشاركة حماس في الانتخابات التشريعية 2006م، بحجة أنه لا توجد انتخابات ديمقراطية في ظل الاحتلال، وأن كل الثورات في العالم – بما فيها الثورة الجزائرية والثورة الفيتنامية- لم تكن فيها مشاركة بالانتخابات، وأن هموم الحركات التحررية هو التركيز على مقاومة الاحتلال؛ يُضاف إلى هذا العبء السياسي والشعبي الكبير تجاه الناس، الذي قد تحمله حركة حماس بدخولها هذا المعترك، حسب روايته.

في السادس والعشرين من أغسطس 2021م ارتقى غوشة، بعد معاناة مع المرض.

تكمن قيمة هذه المذكرات في شهادتها على تفاصيل التجربة بقلم واحد من أبنائها وصانعي اللحظة، وقد خلت المذكرات من كثير من تفاصيل الحياة الشخصية لإبراهيم غوشة، ومن الغريب إنكار غوشة نسبة أحداث 11 سبتمبر إلى “القاعدة”، رغم خبرته في الجماعات السرية وقدرتها على خرق الإجراءات الأمنية.. وفي المذكرات نتف عن مزاجه الشخصي، مثل قصته عندما رأى رفعت الأسد في سوريا وهو يصلي، وكان غوشة لا يحب أن يراه لدوره في أحداث حماة بسوريا عام 1982م.

وليس في المذكرات مراجعات كثيرة أو حديث عن أخطاء أو ندم على تجارب مرَّ بها، أو نقد للتجارب التاريخية، بل تقترب من مفهوم الشهادة على الحقبة التي مرّ بها؛ فهي سيرة فلسطيني وُلد قبل النكبة وعاش تجارب سياسية ونضالية منوعة.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من...

قراءة المزيد
Loading...