الموت المغمّس بطعم الحياة

بواسطة | مارس 12, 2024

بواسطة | مارس 12, 2024

الموت المغمّس بطعم الحياة

(إهداء إلى الزميل الصحفي فايد أبو شمالة، الذي فقد ١٤ من أفراد عائلته وأربعة من جيرانهم؛ في قصف منزلهم فجر اليوم الأول من رمضان)

كان يوماً عادياً من أيام الإبادة الجماعية التي تعيشها غزة منذ أكثر من خمسة أشهر، لكنه هذه المرة له وقع خاص، يستقبلون فيه ضيفاً عزيزاً عليهم يأتيهم مرة واحدة كل عام، إنه شهر رمضان، شهر التوبة والغفران، شهر الرحمة والمحبة والتسامح، شهر التكافل والقربات والتنافس في الأعمال الصالحات.

وكعادته في كل عام؛ لم يتأخر رمضان عن موعده، إلا أنه مرّ على غزة كأنها المرة الأولى، حتى أنه لم يعرفها إلا من دعاء أهلها وصمودهم وشموخهم وثباتهم وبطولتهم. خرجت غزة تستقبل رمضان بأكوام الدمار وقوافل الشهداء، وطوابير الجرحى، وحشود الجوعى والعطشى والنازحين بلا مأوى، خرجت تستقبل رمضان بلا مساجد، وبلا مآذن، وبلا حلقات الذكر والتهجد، وبلا أهازيج وفوانيس، بلا طرقات ولا مزارع ولا متاجر ولا أسواق.

كانت الليلة الأولى من رمضان كسابقاتها من ليالي شعبان ورجب وربيع وجمادى، مضيفة إلى سجل التاريخ قصصاً تعلّم البشرية كيف ينسج الموت أثواب الحياة، وكيف يبني الشهداء مدائن البطولة وأقواس النصر.

وها هي الليلة الأولى من رمضان تأتي على موعد يتجدد كسابقاتها من ليالي شعبان ورجب وربيع وجمادى، ليرتقي فيها تحت القصف والدمار؛ عشرات الشهداء من النساء والأطفال، وينضم أضعافهم إلى قائمة الجرحى والمصابين والمعاقين، ولتضيف إلى سجل التاريخ قصصاً تعلّم البشرية كيف ينسج الموت أثواب الحياة، وكيف يبني الشهداء مدائن البطولة وأقواس النصر.

سحور الدم والبارود

قبيل مغيب شمس اليوم الأخير من شعبان، أطلّت أم أحمد من شرفة منزلها في الطابق الثالث إلى أفق الدمار الممتد أمام ناظريها، وقد أعادت ألوان الشفق المنبعثة من حشايا السحب السوداء إلى ذاكرتها ألوان الحرائق الممزوجة بسحب الدخان السوداء، المنبعثة من الانفجارات التي كانت تنهال على منازل الحي واحداً تلو الآخر على مدى الشهور الخمس الماضية.. قطعت أم أحمد شرودها فجأة لتسأل نفسها ماذا ستعد لأبنائها على السحور في أول ليلة من ليالي رمضان، وسرعان ما أتتها الإجابة في شكل غصّة شديدة عبّأت صدرها، لأنها لن تستطيع أن توفر لأبنائها ما اعتادت على توفيره في الأعوام السابقة في مثل هذه الأيام. وفجأت زفرت أم أحمد زفرة شديدة ألقت ما في صدرها من غصة، حتى لا تسمح لعينيها بأن تستحما في دموع الحسرة والعوز، وسرعان ما تمتمت ببعض الدعوات وختمتها بقولها: إن شاء الله سأتدبر الأمر، ولن أجعلهم يشعرون بالفرق.

وما إن حان وقت السحور، حتى كانت أم أحمد توقظ زوجها وأبناءها وهي تفيض بشراً وحناناً وحماسة، وتستحثهم على الاستيقاظ قبل دخول وقت الفجر. كان من الطبيعي والمنطقي أن تعجز أم أحمد عن توفير وجبة السحور التي اعتادوا عليها في الأعوام الماضية، ولكن أبا أحمد وأبناءه تناولوا سحورهم وحمدوا الله، وهم يتبادلون عبارات الصبر والثبات والفرج والنصر، وكان هذا هو حال بقية العائلات المجاورة لهم في المبنى. ولم تمضِ بضع دقائق حتى أتت الصواريخ الصهيونية على المبنى المكون من أربعة طوابق مخلّفة ١٨ شهيداً من النساء وأزواجهن وأطفالهن، وعدداً من الجرحى والمصابين؛ أما أم أحمد فكان صوتها يصل خافتاً من تحت الأنقاض الخرسانية المسلّحة، دون أن يجد المسعفون سبيلاً ولا حيلة لإنقاذها، لتلحق بزوجها وأطفالها إلى الرفيق الأعلى.

كغيره من الفلسطينيين المغتربين، كان عمر يقضي معظم وقته أمام شاشة التلفاز، وهو يتوقّع يومياً أن يستمع أو يشاهد خبر قصف منزل عائلته بين عشرات المنازل التي تتحول يومياً إلى أنقاض ورماد وأشلاء ودماء تحت القصف الوحشي البربري الذي تقوم به آلة الحرب الصهيونية.

لا وقت للدموع

كسائر الفلسطينيين المغتربين، كان عمر منذ الثامن من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، يقضي معظم وقته متسمّراً في وجه شاشة التلفاز، أو منكباً على هاتفه المحمول، وهو يتوقّع يومياً أن يستمع أو يشاهد خبر قصف منزل عائلته بين عشرات المنازل التي تتحول يومياً إلى أنقاض ورماد وأشلاء ودماء تحت القصف الوحشي البربري الذي تقوم به آلة الحرب الصهيونية. ورغم معايشته اليومية المتواصلة لحظة بلحظة لمسلسل الدمار والموت، الذي لا ينقطع منذ أكثر من خمسة أشهر، فإن عمر لم يستطع إلا أن يتمالك نفسه وهو يرى على الشاشات بعضاً من أفراد عائلته، يخرجون من بين أنقاض منزلهم الذي تهاوى تحت القصف قبل ساعات، فسارع إلى هاتفه النقّال، وبدأ يتصل بأفراد عائلته واحداً تلو الآخر، دون جدوى، وأخيراً جاءه الرد من أخته التي كُتبت لها النجاة.

وللحظات امتدت يداه في الهواء كأنها تحاول أن تحضن أخته، ليكفكف دموعها ويخفف من وجعها وجزعها، إلا أنها بادرته بالسؤال عن أحواله وعن ظروف معيشتهم في الغربة، قبل أن تبدأ، وهي تجلس بجوار ابنها المصاب في المستشفى، لتسرد له تفاصيل ما حدث، وتعدد له أسماء الشهداء والجرحى، دون أن يبدو على صوتها أي أسى أو ألم أو حزن، كانت تصف لحظة قصف المنزل في الظلام الحالك قبيل الفجر، واللحظات التي سبقته، والساعات العصيبة التي أعقبته، وكأنها تصفّ محتويات لوحة زيتية عزيزة معلقة في غرفتها منذ الطفولة، وبين عبارة وأخرى، تهوّن على أخيها بقولها: نحن بخير، لا تقلق علينا، هذا قدرنا، ونحن نحمد الله على كل حال، وسنبقى ثابتين صامدين مهما حدث، ولا ينقصنا شيء، وسنعيد بناء كل شيء على أفضل ما يكون.. كانت تهوّن على أخيها من عناء الغربة وقسوة البعد عن الوطن، وتقطع حديثها لتسأله عن أحواله وأحوال أسرته، وما إذا كانوا بخير أم لا.

انقطع الاتصال فجأة بسبب صعوبة الاتصال بشبكة الإنترنت، وعاد عمر إلى الشاشات من جديد لعله يجد مزيداً من التفاصيل التي لم تتمكن أخته من سردها، وقد عقدت الدهشة لسانه لما رأى من صمود أخته وقوّة ثباتها ورباطة جأشها، التي تبعث الحياة والعنفوان وسط أكوام الدمار والخراب المنثورة في الأرجاء.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من...

قراءة المزيد
Loading...