المولد النبوي.. وحكاية الإرهاصات

بواسطة | أكتوبر 1, 2023

بواسطة | أكتوبر 1, 2023

المولد النبوي.. وحكاية الإرهاصات

لم يكن مولد النبي ﷺ حدثاً عادياً لقارئ تاريخ الحركة الإنسانية، بل كان من أعظم الأحداث.. والأحداث العظيمة تسبقها دائماً إرهاصات وإشارات، وإن شيئاً من هذا قد سبق مولده ﷺ، ودلَّ على اقتراب طوفان التغيير.
مما سبق مولده ﷺ قصة حفر جده عبد المطلب لبئر زمزم؛ فيُروى أن عبد المطلب قال: إني لنائم في الحجر إذ أتاني آتٍ فقال لي: احفر طيبة، قلتُ: وما طيبة؟ قال: ثم ذهب عني؛ قال: فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي، فنمت فيه، فجاءني فقال: احفر بَرَّة، قال: قلتُ وما بَرَّة؟ قال: ثم ذهب عني؛ فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي، فنمت فيه، فجاءني فقال: احفر المضمونة، قال: قلت وما المضمونة؟ قال: ثم ذهب؛ فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي، فنمت فيه فجاءني فقال: احفر زمزم؛ قال: قلت: وما زمزم؟ قال: لا تنزف أبداً ولا تُذم، تسقي الحجيج الأعظم، وهي بين الفرث والدم، عند نقرة الغراب الأعصم، عند قرية النمل.
فلما عرف عبد المطلب موضعها قام ومعه ابنه الحارث فحفر فيها، فلما بدت له حافة البئر كبَّر، فعرفتْ قريش أنه قد أدرك حاجته، فقاموا إليه، وقالوا له إن لنا فيها حقا، وطلبوا أن يتحاكموا إلى كاهنة بني سعد بن هذيم؛ ونفد ماء عبد المطلب وأصحابه وهم في الطريق فعطشوا، وقد أوشكوا على الهلاك، ثم تفجرت المياه من تحت راحلة عبد المطلب فكبَّر، وكبَّر أصحابه، ثم دعا قبائل قريش وقال لهم هلم إلى الماء فقد سقانا الله، فقالوا له: قد والله قضى لك علينا، والله ما نخاصمك في زمزم أبداً، وإن الذي سقاك هذا الماء هو الذي سقاك زمزم، فرجعوا ورجع معهم، ولم يصلوا إلى الكاهنة، وخلوا بينه وبين زمزم.
فكانت إعادة حفر بئر زمزم، وخروج الماء مرةً أخرى على يد عبد المطلب جد النبي ﷺ من البشارات العظيمة على قدومه الميمون ﷺ. وقد ورددت أحاديث كثيرة في فضل ماء زمزم، ومنها: “إنها طعامُ طعمٍ، وشفاء سُقمٍ”.
وكان عبد المطلب قد نذر حين لقي من قريش الأذى، لئن ولد له عشرة نفر ليذبحن أحدهم عند الكعبة، فلما رزقه الله بعشرة أبناء أراد أن يفي بالنذر، فخرجت القرعة على ابنه عبد الله، ولكن قريشاً منعته من ذبحه، وتم فداؤه بمائة من الإبل وفاءً لنذره لله تعالى. لذلك فإن  فداء عبد الله أبي النبي محمد ﷺ، وحفظ حياته بمائة من الإبل، حماية محاطة بالبركات التي تدل على قدومه ﷺ.
ومن الأحداث الجسام التي حدثت قبل مولد النبي ﷺ محاولة هدم الكعبة، وتفصيل هذا أن أبرهة الذي كان نائباً عن ملك الحبشة في بلاد اليمن بنى كنيسة فخمة في صنعاء وسماها القُليس، ونصب فيها صُلباناً من الذهب والفضة ومنابر من العاج والأبنوس، ولما أكملها كتب إلى النجاشي يخبره بأنه بنى كنيسة وسيصرف العرب عن الكعبة للحج إليها، وقد أقسم أبرهة أنه سيسير إلى الكعبة ويهدمها، ويقال إن رجلاً من تميم نجّس القُليس، وإن جماعة من شباب قريش قد دبروا مؤامرة لحرق الكنيسة، أو سرقة ما فيها من ذهب وفضة؛ فأقسم  أبرهة ليهدمن الكعبة انتقاما لذلك.
أعد أبرهة جيشاً كبيراً يتقدمه فيل كبير، ومعه عدد كبير من الفيلة، وقد خرج أبرهة من اليمن إلى الطائف ثم إلى مكة؛ فلم يتقدم مباشرة إلى مكة، بل كان يرسل من أفراده جماعة للإغارة عليها، ثم تعود محملة بما سلبت من أموال وغنائم من أهل تلك المناطق الجانبية، وكان من ضمن هذه الغنائم عير عبد المطلب، وكان عددها مئتي بعير.
أقام أبرهة في مكان بين مكة ومنى وهو أقرب إلى منى، فأتاه عبد المطلب وأذن له بالدخول، وكان عبد المطلب رجلاً عظيماً جسيماً وسيماً، فلما رآه أبرهة عظّمه وأكرمه، وسأل عبد المطلب أبرهة أن يرد عليه إبله، فاستغرب أبرهة وقال له: ألا تطلب مني الرجوع، وتسألني عن مئتي بعير لك؟! فقال عبد المطلب: أنا رب هذه الإبل و”للبيت ربٌ يحميه”، فأمر أبرهة أن تُردّ الإبل إليه. ولما عاد عبد المطلب إلى أهله أخبرهم بما رآه من جيوش، ونية أبرهة هدم الكعبة، ونصحهم بالخروج إلى وديان مكة وبطونها ورؤوس الجبال.
اتجه أبرهة إلى الكعبة ليهدمها، فبرك الفيل في المغمس ولم يتحرك، ونخسوه بالرماح ولم ينهض، ثم أرسل الله عليهم طيراً أبابيل، مع كل طائر ثلاثة أحجار: حجران في رجليه وحجر في منقاره، ويحملن أمثال الحمص والعدس من الحجارة، فلم تصب تلك الحجارة أحداً إلا هلك، وبعث الله على أبرهة داءً في جسده، ورجعوا سراعاً يتساقطون في كل بلد، وتساقطت أنامل أبرهة، فانتهى إلى اليمن ثم مات وهلك. ولقد سُمي هذا العام بعام الفيل (570م)، وهو العام الذي ولد فيه النبي ﷺ، فقد ولد بعد هذه الحادثة بخمسين يوماً؛ ولقد حفظ القرآن الكريم هذه الأحداث في سورة (الفيل).
يذكر الإمام الماوردي أن ما حدث لأصحاب الفيل هو آية من آيات مولد النبي ﷺ ومن بركته، لأنهم لو ظفروا لسبوا، واسترقوا، ولكن الله سبحانه وتعالى أهلكهم صيانة لرسول ﷺ حتى لا يجري عليه السبي حملاً ووليداً. كما أن العرب لم يكن لديهم من التأله لرفع البلاء عنهم، فلما رفع الله سبحانه وتعالى عنهم البلاء عظّموا الحرم؛ فكان ذلك إيذاناً من الله بظهور الإسلام والنبوة، وتهيئة لهم لتقبُّل الديانة الجديدة.
ومن العبر المستفادة من حادثة الفيل، أن الله سبحانه وتعالى لم يقدّر لأهل الكتاب ويمكّنهم أن يدمروا البيت الحرام، أو أن يسيطروا على الأرض المقدسة، على الرغم من أن الشرك كان منتشراً في الجزيرة العربية؛ وذلك ليبقى البيت مصوناً، وليحفظ لهذه الأرض حريتها حتى تنبت فيها العقيدة الجديدة، ولا يهيمن عليها أي سلطان أو طاغية، ويكون هذا الدين هو المهيمن على الأديان كلها؛ وكان هذا كله من تدبير من في السماء.
ومن إرهاصات النبوة التي ذُكرت، خروج نور من حمل أمه السيدة آمنة به؛ فقد سُئل نبي الله: يا نبي الله ما كان أول بدء أمرك؟ قال: دعوة أبي إبراهيم، وبُشرى عيسى، ورأت أمي أنه يخرج منها نور أضاءت له قصور الشام.
وما ذكرناه غيضٌ من فيض، وقليلٌ من كثير؛ فقد ذُكِر شيء كثير عن التحولات التي لازمت السلطة الفارسية والسلطة الرومانية، وشهد رجالهم بوجود وظهور ملامح وإرهاصات تغييرات جذرية على خارطة العالم، ولكن لم يكونوا يعلمون بمولد صاحب ذروة التغيير والتجديد ﷺ.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من...

قراءة المزيد
Loading...