انبهار بأثر رجعي

بواسطة | أغسطس 23, 2023

بواسطة | أغسطس 23, 2023

انبهار بأثر رجعي

لأن الأمريكان أساطين فن الإعلان، فقد بدأوا في الترويج المكثف للنسخة الثالثة والعشرين لبطولة كأس العالم لكرة القدم، والتي ستدور وقائعها في يونيو-يوليو من عام 2026، في ثلاث دول هي الولايات المتحدة وكندا والمكسيك، موزعة على ملاعب مدن سياتل وسان فرانسيسكو وميامي وبوسطن في الولايات المتحدة؛ وفانكوفر وتورنتو في كندا؛ ومونتيري وغوادالخارا في المكسيك. وحديث المونديال متعدد الجنسيات والعابر للحدود أهاج الشجون، والذكريات العذبة لأيام احتضنت فيها الدوحة مئات الآلاف من مختلف الملل والسحنات والنحل في عرس رياضي بهيج.
وَمَن يعشْ يَرَ والأَيام مقبلة .. يلوح للمرء في أَحداثها العجب
ومن يعش فَسوف يرى أن جريان المسكرات أنهارا، واندفاع مواكب الشواذ جنسيا تهدر كالطوفان، سيؤدي إلى مونديال أمريكاني- شمالي ينال استحسان الإعلام الغربي، الذي كان كالثعلب الذي عجز عن الوصول إلى عنقود العنب فرماه بالحموضة، ولم يجد مطعنا في تنظيم قطر لمونديال 2022، فعاب عليها تحريم المسكرات وتجريم الشذوذ (وإن شئت أن تواكب لغة العولمة فقل: المثلية الجنسية).
قبل بداية وقائع بطولة النسخة القطرية من كأس العالم لكرة القدم، نبح الإعلام الغربي وعوى مستنكرا إسناد أمرها لبلد ما زال أهله “يتنقلون على ظهور الإبل”، وزعم أن تذاكر مباريات البطولة بارت ولم تجد من يشتريها، فاضطرت قطر لاستضافة عشرات الآلاف في فنادقها، وتحملت نفقات تذاكر حضورهم المباريات، بل إن “بي بي سي” التي تزعم أنها أداة الإعلام الأكثر مصداقية، قالت إن قطر ستحشد العمال الآسيويين قسرا في الساحات لإعطاء الانطباع بأن المونديال اجتذب أعدادا هائلة من البشر؛ ثم كان ما كان من أمر منتخب ألمانيا المشارك في المونديال، حينما وقف أعضاؤه في منتصف الملعب قبل بداية مباراتهم مع اليابان، وأيديهم على أفواههم للتدليل على أن قطر منعتهم من ارتداء شعار المثلية الجنسية على أذرعهم (وأخزاهم الله فوضعوا أيديهم على أفواههم خجلا بعد أن هزمتهم اليابان).
ثم سارت القافلة القطرية غير عابئة بالنباح والعواء، وانتظم إيقاع المونديال، وكأنما هناك قائد غير مرئي يقود أوركسترا من عشرات الآلاف موزعين في المطار والساحات والطرقات والملاعب، كي يؤدوا أدوارهم في تجانس وانسجام، وشيئا فشيئا تحول العواء إلى غناء، والنباح إلى أفراح، فأمام بهاء المشهد العام للفرح، لم يكن أمام الإعلامي الغربي الشامت من قبل إلا أن يغني للدوحة معزوفة “الدرويش المتجول”، للشاعر محمد الفيتوري:
في حضرة من أهوى عبثت بي الأشواق
حدقت بلا وجه ورقصت بلا ساق
وزحمت براياتي وطبولي الآفاق
عشقي يفني عشقي وفنائي استغراق
مملوكك لكني سلطان العشاق
من كان مثلي شاهدا “شاف كل حاجة” في مونديال قطر، لابد أنه أحس بأعراض الانسحاب، التي يعاني منها من تنقطع عنهم مواد معينة دأبوا على استخدامها؛ فأن تعيش طوال شهر كامل وعلى مدار الساعة في أجواء تعج بالأضواء والبشاشة والموسيقى، وكأنك تعيش في حلم لا تريد له نهاية، ثم يعقب ذلك سكون وتعود الحياة إلى رتابتها المعتادة، أمر يسبب بعض الضيق.
والفرح شديد العدوى، ولهذا كانت شوارع وساحات الدوحة الكبرى تموج بشلالات من الوجوه الباسمة، وكان البِشر باديا على وجوه آلاف النساء القادمات من وراء البحار، وهن يتجولن في الأماكن العامة حتى ساعات الصباح الأولى دون خوف من تحرش أو عدوان، بل إن وحوش الملاعب الأوربية الذين (ياما) حولوا ملاعب الكرة ومحيطها خلال مونديالات سابقة إلى سوح معارك، حلت بهم سكينة، فلم تعرف مضامير المباريات ولا خارجها حوادث العنف الأهوج التي اعتاد عليها أولئك، ومنها ما حدث في مونديال 2010 الذي أقيم في جنوب أفريقيا، حيث تم وضع 3200 من مشجعي كرة القدم الإنجليز في القوائم السوداء لاتحاد كرة القدم الدولي (فيفا)، بينما كان عدد المدرجين في تلك القوائم 2200 خلال مونديال البرازيل عام 2014، و1200 خلال مونديال روسيا عام 2018. أما ألمانيا التي ذرف فريقها الدموع لأن قطر تحظر الشذوذ الجنسي، وتعتبر ذلك تعديا على الحريات الشخصية، بينما هي البلد الذي يحتضن أشرس تنظيم يعادي مثليي الجنس، وهم النازيون الجدد الذين يريدون إحياء تراث كبيرهم الذي علمهم الغدر أدولف هتلر، فقد لعب ناديها “كولون” مباراة في فرنسا ضد نادي “نيس”، في سبتمبر من العام الماضي، ومن باب إثبات الوجود اجتاح نحو ألف من مشجعي نادي كولون أرض الملعب، وتأخرت صافرة البداية 55 دقيقة، ولم تطلق إلا بعد وفود قوات مكافحة شغب بأعداد هائلة.
كان من بين المقولات التي رددتها الثعالب التي فشلت في أن “تطول العنب”، إن قطر أنفقت قرابة مائة مليار دولار على المونديال، والرقم صحيح أو قريب من الصحة، ولكن بالإمكان رؤية تلك المليارات شامخة وباسقة بالعين المجردة اليوم ولعقود مقبلة، لأنها موزعة على شبكة ضخمة من مشاريع البني التحتية، من طرق وجسور وأنفاق وشوارع مستقيمة وأفعوانية تبدو للرائي من عَلٍ كأنها نوتة موسيقية محكمة التوزيع.
ما أجملها تلك الأيام التي عشنا خلالها تجربة، لا أحسب أن أي دولة احتضنت المونديال عاشتها من قبل!. وهي أن تكون مسرحا لوقائع مبهجة، تندمج فيها الشعوب متخطية حواجز اللغة واختلاف الثقافات، متمثلة قوله تعالى: {وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا}، وليس لتعاركوا، فأينما توجهت في العاصمة القطرية الدوحة في تلك الأيام وجدت الأهازيج والموسيقى الصادحة والوجوه الباسمة والضاحكة؛ ورغم الضغط البشري الهائل على المرافق والشوارع لم تحدث اختناقات مرورية، لأن أساطيل القطارات والحافلات عملت بإيقاع متوافق عليه، وبلاغات الجرائم والجنح كادت أن تكون صفرية، لأن الفرح والمرح نفى وألغى الروح العدائية بين جماهير الفرق المتنافسة، وأينما ذهبت كانت  تطالعك الدهشة في وجوه الوافدين على قطر حديثا، خاصة عند أولئك الذين تغذوا على الصورة النمطية للعربي في وسائل الإعلام الغربية (كائن متخلف وشرس لا يعرف المرح).
أحسب أن قناة “الكأس” القطرية هي صاحبة أكبر أرشيف لوقائع مونديال قطر، خارج الملاعب على وجه الخصوص، فقد تولى عمليات التغطية فيها شباب متمكنون من فنون العمل الإعلامي، ذوو ثقافة اجتماعية ورياضية عالية، تميزوا بطلاقة اللسان وحلاوة البيان، وهم يتكلمون بالعربية ويرطنون بكل لغات العالم الحية؛ فلهم التحية، وليت القناة تتحفنا بتلك الثروة المرئية والمسموعة، في الذكرى السنوية الأولى للمونديال في نهاية العام الجاري، علّ ذلك يزيل عنا أعراض الانسحاب.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من...

قراءة المزيد
Loading...