بتوقيت الخامسة والأربعين
بقلم: كريم الشاذلي
| 3 نوفمبر, 2023
مقالات مشابهة
-
غزة وجدليَّتا النصر والهزيمة
على مدى ما يقارب ٤٧١ يوماً، وقفت غزة وحيدةً...
-
سوريا وثورة نصف قرن
سيسجل التاريخ أن يوم ٨ ديسمبر ٢٠٢٤م يوم مفصلي...
-
خطر الدوغمائية على مآل “الميثاق الغليظ” في المغرب!
يزداد انشغالي فكريًّا ووطنيًّا بما سيثيره مشروع...
-
ماذا عن القرار العباسي بإغلاق مكتب الجزيرة؟!.. يا لك من نتنياهو!
فعلها محمود عباس (أبو مازن)، وأكد عندما فعلها...
-
وقد استجاب القضاء لدعوة الرئيس.. ماذا ينتظر المستأجرون؟!
ذكّرني القول إن المحكمة الدستورية العليا في مصر...
-
السياسة الخارجية للرئيس ترامب تجاه الشرق الأوسط
لم تمرّ إلا ساعات فقط بعد إعلان الرئيس الأمريكي...
مقالات منوعة
بقلم: كريم الشاذلي
| 3 نوفمبر, 2023
بتوقيت الخامسة والأربعين
ها أنا في منتصف عقدي الخامس.. قاتل الله الأيام السريعة، وكتب لنا أجر الصبر على ثقل وطأتها.
كيف ظهرت تلك الشقوق في الوجه؟ ومتى خانت هذه الشعيرات البيضاء عهد الشباب؟ بدأ زحف الخريف، وتسلل شتاء العمر بلسعته.. ولسع الذكريات ـلمن لا يدري- لا شبيه له!
هذا أنا، لا أعرف رجلا ثقلت في عينه أوزاره مثلي، ولا عبدا طمع في عفو سيده بغرور كما أعرفُني، غطاني ستر الله فحُمدت في أعين الخلق، ولازمني توفيقه -سبحانه- فكنت في أعين الناس كبيرا.
يُقال إن المرء منا أحد رجلين، رجل يمضي في الحياة، وآخر تمضي عليه الحياة.. شخص يمضي منتبها متعلما واعيا، ونقيضه تدهسه الحياة بأحداثها، يقفز دائما محاولا الهروب، للأمام مرة وللخلف مرات. وصاحبكم كلا الرجلين، تدهسني الحياة فأقفز متحديا، تزيد من وطأتها فأتفاوض معها، أسالمها مرة، وأتحداها مرات.. ولطالما خان كل منا صاحبه وتغير، فوعود الحياة لنا ووعودنا لها لا يُعتدُّ بها!
للفيلسوف الهندي طاغور عبارة تقول “إن المرء إما أن يعيش الحياة، أو يكتب عنها”.. ثمة صنف ثالث لم يلحظه الرجل، من يكتبون على أرصفة الحياة، ويرسلون كلماتهم ممزوجة بنار التجربة وتوتر الأحداث، فيصبح اهتزاز القلم وارتباك المعنى لديهم دليل صدق، ولو مُنع الحكمة لبعض الوقت.
علمتني تجارب الدنيا خمسة دروس، دعني أخبرك بها، علَّ فيها ما يعينك.. كي لا يوجعك ما أوجعني، أو ينفرد بك الندم، أو تخسر من رصيد أيامك:
الدرس الأول، أن الحياة ليست مدينة لي بأي شيء، وليس عليها استحقاقات لأحد، وأن قصص الأطفال التي طالما قرأناها ونحن صغار، وتنحاز دائما للخير وحتمية انتصاره في نهاية الحكاية، لم تكن أكثر من سياج يحمي طفولتنا من وحشة القادم! الحياة لا تنحاز للخير والأخيار، تنحاز لمن يملك مفاتيح اللعبة، تنحاز لمن يؤمنون بأنفسهم. وعليه، يمكنك أن تعرف لماذا ينتصر الأشرار في الآخر.. لأن أهل الخير ظنوا أن المنطق يكون في انحياز الحياة لهم، وإعطائهم استحقاقات يرون أنهم أهلها، وفي الوقت الذي يسقط فيه الأخيار في بئر الحيرة والإحباط، ينمو الشر ويكبر، وتعلو في الحياة مقولات الزور.
علمتني تجارب الدنيا أن الإنسان هو قضاء الله وقدره، وأن الحياة ليس عليها استحقاقات لأحد، وأن المبادئ لا تنتصر في الحياة لنبل مقاصدها، وسمو أهدافها.
الدرس الثاني، أن الصورة ليست دائما حقيقية، وأن انحيازي لفِكَري ومعتقداتي ومبادئي نابع من كونها بنت تجربتي ومشاهداتي ومستوى فكْري وتفتح فكرتي، لكنها ليست بالضرورة الحقيقة.. هي حقيقتي التي أتبناها وأؤمن بها وليست الحقيقة.
لن أكذب وأخبركم أنني صرت أكثر هدوءا وقبولا للآخر، الحقيقة أن هذا حدث بشكل ما، لكنني لا زلت أصرخ وأنا أدافع عن فِكَري، الخبر الجيد هنا، أنني أصبحت واعيا بالفارق بين فِكَري الحقيقية والحقيقة.. لن أكذب فأقول إن حماسي نابع من يقين الحجة، لا عمى الانتماء، وأن الشك مذموم إلا في تعاطي المرء مع فكَره، وما يسكن يقينه.
الدرس الثالث، أما وإن الدرس السابق علمني أن الحقيقة التي أتبناها ليست بالضرورة هي حقيقة الأشياء، فعليه تعلمت أن أبحر بعيدا، ولا أستلقي على شاطئ دنياي كثيرا.
يحكى أن رجلا قابل صاحبه في محطة قطار وسأله عن وجهته، فأخبره أنه ذاهب إلى بلد كذا، غير أنه سمى له البلدة التي يقفان على رصيف قطارها، فلما اندهش صاحبه من إجابته، أوضح قائلا: “إني سأذهب بعيدا كي أراها جيدا”.. نحن نرحل عن الأشياء كي نراها بصورة أوضح، ولم أرَ في الحياة أتعس ممن يلتصق بفِكَره، ومشاعره، وتجربته، لا ينزع نفسه من ضيقها أو أسرها.
ضف فوق هذا الإرث.. نحن قوم لا نورث كثير مال وجاه لمن يلونا، لكننا نورث الأفكار بعصبية، ونرسم لمن بعدنا الطريق الذي نظنه صوابا. وعليه، صار من شجاعة المرء أن يهاجر لأرض أفكار جديدة، يقف في جوانب عدة ويحاول رؤية الصورة بشكل أوضح، يرحل غير ناقم إذ رحيل الناقمين لا ينذر بخير، لكنه رحيل المستكشف، يحمل شك إبراهيم الخليل -عليه السلام- كبوصلة، إذ الشك مطلوب لطمأنينة القلب لا للاستمتاع باللعبة!
علمتني تجارب الدنيا أن الاقتراب من المرآة لا يعني رؤية أوضح لصورة وجهي، الابتعاد قد يفعل ذلك وبشكل أدق.. الابتعاد عن الأشياء يجعلها أوضح!
الدرس الرابع، وهو من دروس الحياة الغالية، وفيه دفعت ثمنا باهظا.. إياك وكتمان المشاعر، وحبس الهموم، وبناء جدارن فولاذية على روحك.. اعترف بضعفك، وأفرغ مشاعرك، ونقِّ روحك من كتمان أوجاعها كي لا تشيخ، الروح تشيخ يا صاحبي كالجسد، ولو أبصرنا ما بداخل الناس، لرأينا قلوبا قعيدة وأخرى تمشي على عكاز؟
يحكى أن رجلا وقف على قبر ولده يبكيه، فقال أحدهم معزيا: يا عماه، إن الدمع لن يعيد الذي راح، فقال الرجل: “أدري، ولذلك أبكي”.. لكل منا زاويته حتى في الوجع، لكل منا ميزانه الذي يزن به الألم، ولطالما ثقلت في كفة أحدهم أوجاع خفت في كفة أخرى، وقد علم كل أناس مشربهم.
علمتني تجارب الدنيا أن أتحدث عن همومي لبعض الوقت، وأصرخ من التأوه متى أوجعني ألم، إذ إن حديث القوم للقوم يُنسي المآسي، ويخفف الأوجاع.
الدرس الخامس، أن كل دروس الحياة تبدأ من نقطة أن تكون إنسانا صالحا، تحمل ضميرا حيا، ونفسا محبة للناس، ويقينا بحتمية وجود الخير لا حتمية انتصاره، وحماسة موضوعية تدفعك إلى غايتك، وتغنيك عن بطء البلادة والتواكل.
تجارب الدنيا علمتني أن أنظر للشر على أنه مرض نفسي، فيه شراسة المريض بالسعار وعدوانيته، فيه حنكة وبعض عبقرية وذكاء، لكنه مرض نفسي.. من يقدر على إيذاء الناس وهو واع بفعله مستمر فيه هو مريض يجب حماية الناس منه ابتداء، وقد يأتي أوان علاجه بعد ذلك.
عندما ترسخت في يقيني هذه القناعة، صرت أكثر إيمانا بالخير.. شخصيا، قد أمرض ويصيبتي مس من شر في غفلة من ضمير، لكنني حينها أعود كعودة المريض لساحة العافية، الخير هو الشيء الوحيد المنطقي في هذه الحياة. وكما قلنا، ليس معنى كونه منطقيا أن ينتصر، الخير أصلا لا يبحث عن انتصار في الدنيا، إنه يبحث عن انتصار في نفوس أتباعه وداعميه؛ إذ انتصار الخير في نفوس المؤمنين به هو وحدة القادر على ضبط رمانة الدنيا، وإعادة بوصلة اتزانها.
علمتني تجارب الدنيا ولا زالت؛ والشقي يا صاحبي من يتعظ بنفسه، والسعيد من يتعظ بغيره.. فاتعظ.
تابعنا على حساباتنا
مقالات أخرى
أما آن للوزيرة الألمانية أن تهمد؟!
أخيراً تحقق لها المراد! فقد صافحت الوزيرة الألمانية أنالينا بيربوك الوزيرَ السوري أسعد الشيباني في الرياض، بعد الضجة الكبرى لعدم مصافحة أحمد الشرع لها، والاكتفاء بالترحيب بها بوضع يده مبسوطة إلى صدره! وكما كان عدم المصافحة في دمشق خبرَ الموسم في الإعلام الغربي، فقد...
غزة وجدليَّتا النصر والهزيمة
على مدى ما يقارب ٤٧١ يوماً، وقفت غزة وحيدةً صامدةً تواجه مصيرها، كآخر بقعة تتموضع عليها القضية الفلسطينية، بعد أن تم تدجين العالم العربي كله وصولاً إلى تدجين فلسطين نفسها بقيادة أكثر صهيونية من الصهيونية نفسها، لا هدف لها سوى أن تُنسي الفلسطينيين والعالم كله شيئاً...
سوريا وثورة نصف قرن
سيسجل التاريخ أن يوم ٨ ديسمبر ٢٠٢٤م يوم مفصلي وخالد في تاريخ سوريا والمنطقة كلها؛ فالحدث فيه كبير جداً، وأشبه بزلزال شديد لن تتوقف تداعياته عند حدود القطر السوري، لعمق الحدث وضخامته ودلالته، وهو الذي يمثل خلاصة نضال وكفاح الأخوة السوريين على مدى ما يقرب من نصف قرن ضد...
0 تعليق