بغداد.. مدينة الخلود

بواسطة | مايو 5, 2024

بواسطة | مايو 5, 2024

بغداد.. مدينة الخلود

من مدينة الخلفاء والشعراء والفلاسفة، انطلقت الثورات العلمية التي هزت العالم وأبهرته.. بغداد، قصة مدينة لم تكن خالية من التحديات، فقد واجهت الحروب والاحتلالات، واليوم تقف على مفترق طرق تواجه تحديات العصر الحديث، وتسعى جاهدة لاستعادة مجدها الضائع.

كان من الطبيعي بعد أن أقام العباسيون دولتهم على أنقاض الدولة الأموية، أن يرفضوا الإبقاء على مدينة «دمشق» حاضرة للخلافة، وذلك لأن بلاد الشام كانت مقر بني أمية، لذا نقل العباسيون حاضرة دولتهم إلى العراق قريبًا من أنصارهم الفرس الأعاجم، مادة دولتهم وزينة حكمهم .

ولم تكن أي من «الكوفة»، و«البصرة» من ناحية تاريخية وسياسية وأيديولوجية تصلح لتكون حاضرة للدولة الجديدة، وذلك لأن المزاج العام الشعبي لأهل الكوفة كان يعارض الحكم العباسي ويناصر النظرية العلوية، أما البصرة فكانت لا تصلح لأنها تقع في جنوب البلاد، لذلك أقام أبو العباس السفاح في «الحيرة»، ثم انتقل إلى «الأنبار»، ثم بنى مدينة سماها «الهاشمية».

ولما ولي «أبو جعفر المنصور» الخلافة بنى مدينة سماها الهاشمية أيضًا، ولكنه كره مآلاتها وشدة طبائع أهلها، لذلك فكر في تأسيس حاضرة جديدة لدولته، فاختار الموضع الذي بنى فيه مدينة «بغداد»، نظرًا لخصوبة التربة في هذا المكان على نهر دجلة، وسهولة الدفاع عنها عسكريا .

كان موضع بغداد يضم قديماً قرية اندثرت قيل إن الذي بناها هم بعض ملوك الساسانيين الفرس أثناء حكمهم قبل الإسلام، وهي تقع على الشاطئ الغربي لنهر دجلة، وتأسست في الموضع عدة قرى. وقد حرص المنصور على أن يطمئن على أحوال هذه القرى الصحية، فاستدعى رؤساءها وسألهم عن أحوال قراهم، فطمأنوه على حسن اختياره.

واستدعى المنصور في بناء المدينة ما يقرب من مئة ألف من أرباب المهن والصناعات، وأسند عملية الإشراف على البناء إلى رجال ممن يثق بهم، فكان منهم أبو حنيفة النعمان بن ثابت حسب بعض المرويات في الإشراف العام على جملة الأنشطة التجارية، من نوع تلك التي كان الفقيه أبو حنيفة مالكها. وافتتح الخليفة المدينة في يوم تاريخي مشهود حضره كبار رجال الدولة، ووضع أول لبنة بيده في عام 146هـ.

بنى المنصور مدينته وجعلها مُدورة، وأحاطها بسورين، وجعل لها أربعة أبواب، وفي مركز الدائرة بنى المسجد، وقصره الذي سماه باب الذهب، وشق إليها القنوات، وامتلأت بالحدائق والمتنزهات، والمساجد والأسواق والحمامات.

كانت بغداد أشهر المدن ثقافيًا واجتماعًيا وسياسيًا، وقد بلغت في عهد الرشيد قمة مجدها، واتسعت اتساعًا عظيمًا، وأنشأ فيها بيت الحكمة، التي ساهمت في تطوير الطب، والكيمياء والفلك.. وغيرها. وتميزت بغداد بكثرة العلماء والفقهاء فيها، مثل الإمام أحمد بن حنبل، وأبي إسحاق الشيرازي، وأبي حامد الغزالي، وابن الجوزي، والجاحظ، وياقوت الحموي، والمسعودي، والكندي، والخوارزمي، والرازي.. وغيرهم.

ولا تخلو مدينة من المدن من بعض الحوادث المؤلمة، ومن أبرز الأحداث التي نزلت بمدينة بغداد هجوم المغول عليها وتدميرها عام 656هـ، وحينها غابت عنها شمس الخلافة. وتمر السنون ويُعاد ترميمها، لكنها تتعرض لسيطرة الصفويين، ثم العثمانيين، ثم القوى الاستعمارية كالإنجليز، والأمريكان بعد سقوط نظام البعث السابق.

تلك هي بغداد التي تغنى بها الشعراء قديماً و حديثاً، ومنهم أحمد شوقي حيث قال :

دع عنك روما وأثينا وما حوتا

كل اليواقيت في بغداد والتؤم

دار الشرائع روما كلما ذُكرت

دارُ السلام لها ألقت يدَ السَّلَم

فبغداد كانت وما زالت بالرغم من كل المآسي أمّاً للمدن الإسلامية، ومنارة للدنيا وداراً للعلوم والفنون.. وما ندري، لعل شمس العرب تعود لتشرق في بغداد يوماً أبهى مما كانت.

1 تعليق

  1. هيا العاني

    شكرا دكتور على المقال الجميل والله سبحانه يرجع دولنا العربية اخوة وبؤرة للعلم والنهضة،.

    الرد

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من...

قراءة المزيد
Loading...