تفنيد روسو لمذهب الراديكالية النسوية

بواسطة | أغسطس 13, 2023

بواسطة | أغسطس 13, 2023

تفنيد روسو لمذهب الراديكالية النسوية

يستهل روسو حديثه في الكتاب الخامس، كما يصنفه في مؤلفه “إميل”، في الكلام عن المرأة ضمن هيكله التراتبي لحياة إميل؛ فهو يتوقف عند المرأة هنا في محطة الحب الضرورية، ومقدمة التأهيل لزواج إميل، وهو ما يُشعر الباحث بأن لدى روسو مشكلة تمييز مع المرأة أو الأُنثى، والحقيقة أن استعراض كامل الباب لا يَشي بأي نظرة ازدراء يحملها روسو تجاه المرأة، التي يُصّر بقوة وعبر تنظيرات متعددة ومكثفة، بأنها المرأة الأنثى.
فهو هنا يؤكد أهمية التربية للمرأة كما للرجل، غير أنهُ يُبرر سياق فلسفته باقتران المرأة برحلة الأنوثة، في مواجهة حادة ومصادمة لأي تكييف جندري، يَطرحُ على المرأة مذاهب تشكل جنساني عائمة، ترسخت اليوم في العالم الغربي وشملت الرجال، بل وفئة الفتيان والشباب، ثم دخلت عالم الطفولة، وهو ما يشير إلى وجود أصل لهذه الدعوات في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، الذي شهد حياة روسو الفكرية الخصبة.
واضح التأكيد على أهمية الأنثى في عالم الرجل، وأهمية الرجل في عالم الأنثى، وحرص روسو على استدراكه الدائم على أية فكرة قد تعلق عن فلسفه، قد يرى فيها الآخرون تحقيرا للمرأة، فيبادر إلى التصحيح بتعظيمه لها، فهو يرى مسارها الأنثوي هو سر بعث الطبيعة بين حياة الرجال والنساء؛ إلا أن روسو يقع في مطبات صعبة من حيث اللغة ومن حيث المفاهيم، فيسرف في محدودية الإطار الخاص بالمرأة، والذي يجمع بين أنوثتها وانطلاقتها؛ فهو حريص على تهيئة “صوفي” كامرأة كاملة في تنظيره، كما ينبغي لإميل كرجل كامل، وهذه التهيئة فيها نزعة واضحة للميل نحو مصلحة الرجل أو حظوظه أكثر من حظ صوفي، وصوفي هي الشابة الافتراضية التي انتخبها خيال روسو لتكون زوجة المستقبل لطفله الافتراضي إميل، والقاعدة عند روسو هنا هي تطابق الخلق الفطري وأثر الطبيعة في ذات المرأة والرجل، فبقدر ما يتم هذا التطابق في كل منهما، حسب تقديرات روسو للطبيعة، تتكامل رسالة التكوين لشراكة المرأة والرجل، التي تقوم أولاً على علاقة الأُنثى والذكر.
ويشرح روسو هذه القاعدة بوضع تصور فلسفي له، عن أثر التكوين البيولوجي، فهو يقول إن الآلة البشرية (أي الجسد) متوافق بين المرأة والرجل، إلا فيما يتعلق بالجهاز الجنسي، ويستدرك على هذا الوصف، بأنهم متفقون هنا ومختلفون في آن واحد، ولا يقصد بحسب سرديته، بأن تشكُّل الشخصية مرهون بالعلاقة الجنسية الميكانيكية، ولكنه يقول إن هذا التخلق الجسدي الذي وُرث من الطبيعة (في خلق الله)، يؤثر على البنية النفسية والتفكيرية بين المرأة والرجل، ويختم في هذه النقطة بأن الاتفاق بين المرأة والرجل من حيث كونهما كيانا بشريا واحدا، أما الاختلاف فهو بسبب الطبيعة التشاركية لسر الوجود وسر الألفة.
ولذلك يسخر من استدعاء المفاضلة بين المرأة والرجل، بناء على المساواة الجنسية بينهما، باعتبار أن هذا المفاضلة في مطابقة أحدهما للآخر، هي مزية نقص، فلماذا تُدفع المرأة لتكون ذات تصوير كامل لمشابهتها للرجل، ولماذا يكون الرجل ذا تصوير كامل في منظومة الحقوق الجنسانية، حين يقارب الأنثى؟!.
هذه القاعدة لروسو طرحها في وقت مبكر قبل أن تظهر حركات الراديكالية النسوية المتطرفة، ومذهب الجنسانية الحديثة، في فلسفة روسو وبعثها في منتصف الثمانينات عبر فوكو. فلم يكن هناك جدل عاصف حول هذه القضية حينها، غير أن روسو اشتبك مع هذا المفهوم فيما يبدو، من خلال دعوة تحرير الحقوق والمشاركة للمرأة الذي ظل تأثيره حتى منتصف الخمسينات من القرن العشرين، وكانت الحركات النسوية تركز على المشاركة الحقوقية، لا تغيير الجندر ولا بعثرة الذات في عالم المثلية أو فقدان الهوية الفطرية.
ثم دخل روسو في حماس بالغ، لتقديم رؤيته عن عدالة طبيعة التشكل لكل جنس، ودوره من حيث التكافل بين ضعف العاطفة وقوة الرجل، وهو يؤكد على أن خلق (الله)، الذي سماه الكائن الأعظم في كتابه، يهدف لهذا التكامل لصالح الطرفين؛ ويغوص حينها حتى في الجزئيات والتفصيلات المتعلقة بروح المرأة وحيائها، وبين عقل الرجل وشخصيته، وأن المرأة تكتسب قوة جذب وإخضاع ضمني للرجل عبر ممارسة أنوثتها.
وتعتبر مجمل تقريرات روسو، متوافقة مع مبادئ الرسالة الإسلامية، وبالذات في طبيعة التشاركية التي أنتجها الاختلاف البيولوجي، وأنه اختلاف لا يعني نقصا لأي منهما، ولكنه مبدأ مقدس لإعمار الكون، توالدا وحبا وتعاضدا؛ غير أن روسو يكثف الحديث عن الأنوثة، ويغفل جانب القدرة المتاحة للمرأة في الاتجاه الذي قال إنه متطابق بين المرأة والرجل في الجنس البشري، المترتب عليه المشاركة في الحياة العامة، وفي الواجبات السياسية وغيرها؛ وهو ملحظ يحتاج إلى تدقيق، وخاصة من حيث وضع الميزان الذكي العادل، فروسو في إشارته إلى المرأة العاملة يدعو لإعطاء المرأة حقها من حيث حق الولادة والرضاعة والحضانة، ويرفض دعوى المساواة التي تتجاوز حق جسدها وطبيعته، ويقول إن هذا ليس نظاما بشريا، ولكنه وليد العقل في فهم الطبيعة، وهذه أيضا قاعدة تتفق مع الرسالة الإسلامية، لكون الاختلاف مهمة تكامل لا معركة صراع، كما تروج الراديكالية النسوية. ويبقى أننا نؤكد الحاجة للتحفظ على بعض آراء روسو، في قولبة الأنثى، وإطلاقاته عنها بما يوحي عدم تحميل الطرف الآخر (الرجل) مسؤولياته.
وروسو يقرر بحزم تحذير المرأة، حين يتحدث عن مظاهر التحلل والإباحية التي وصفها في مواضع أخرى في فرنسا وجمهورية جنيف، محذرا نسوة المدينة في ذلك الزمان من تفشي الخيانة، وأن قلق الرجل مشروع من أن تأتي الذرية من صلب رجل آخر، في ممارستها الجنس مع رجال آخرين، يصفهم روسو بمجموعة الأعداء المقنعين، الذين تساعدهم خيانة المرأة عبر إخضاعها عواطفَها المقنعة لهم. وهو خطاب وعظي عجيب لروسو، وبالذات عند استدراك رحلته مع تيريز، التي احتفظ بها دون زواج 25 عاما، ولعله يؤكد هنا ما راج عن اعتباره كتاب إميل تكفيرا عن سلوكه ونقدا لتلك التجربة؛ وفي ذات الوقت يشير إلى واقع انتشار هذه السلوكيات، مع ميلاد رحلة التنوير الأولى قبل تنوير الحداثة الأخير، الذي شرّع المفهوم الإباحي بعد ذلك عند تراضي الطرفين، خارج أي مساحة زوجية للحياة.
ويشفع روسو وعظه هذا، بتأكيد مهمة الإنجاب عند المرأة، بل وتتالي الحمل، ويحتج على نساء المدن مستدعيا أفلاطون ناقدا له، كونه شمل النساء في التمارين العسكرية لمدينته الفاضلة، ثم يعزز مقولته في أن الإنجاب، والترابط الأسري هو سر تعلق الفرد بالدولة والوطن، فالأسرة هي الوطن الصغير، الذي يربطه بالوطن الكبير.. مفاهيم طمست تماما في خطاب الحضارة الغربية اليوم، فهل ما آلت إليه خيرٌ مما بشر به روسو؟.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من...

قراءة المزيد
Loading...