في ذكرى رحيل محمد عمارة “كاسحة ألغام الفكر الإسلاميّ”

بواسطة | مارس 6, 2024

بواسطة | مارس 6, 2024

في ذكرى رحيل محمد عمارة “كاسحة ألغام الفكر الإسلاميّ”

رحل محمّد عمارة في 2020م، لكن تراثه الفكري المبتكر ما زال يتحدث، يناقش ويحلل تحديات الحاضر ويقدّم رؤى تحفّز التفكير. من خلال كتبه، يناضل ضد التنميط ويبتكر حلولًا تفتح آفاقًا جديدة في الفكر الإسلامي.

ثورة محمّد عمارة – تحديات فكرية ورؤى مستقبلية في الفكر الإسلامي

محمّد عمارة؛ “كاسحة ألغام الفكر الإسلاميّ” و”الحارس اليقظ المرابط على ثغور الإسلام” أو “البلدوزر”، كما يحلو لتلاميذه ورفقاء دربه من المفكرين أن يلقبوه؛ رحل في التاسع والعشرين من شهر شباط “فبراير” من عام 2020م، لكنّ عقله ما يزال ثورة تحيا وتُحيي عبر 240 كتابًا، كانت ثروة وثورة حقيقية في زمن تكلّست فيه مفاصل الفكر الإسلاميّ إلى حدٍّ غير بسيط.

ثورة على الفهم الظاهريّ والتفسيرات التقليديّة

تجاوز “عمارة” ظواهر الأحكام وسواحل القضايا الشرعية، ليمخر العبابَ في أعماقها ويسبر أغوارها ويكشف عن فلسفتها، فليس شيءٌ أضرّ على الإسلام من غياب روح الأحكام وفلسفة التشريعات.

ففي معضلة المعضلات ومشكلة المشكلات على مرّ العصور، مشكلة الحكم، ألّف عمارة رسالته للدكتوراه لتناقش القضية من أعماقها، فكان عنوانُها “الإسلام وفلسفة الحكم” مبيّنًا منهجيّة الحكم، ونشأة الأحزاب السياسية ودورها في بناء الدولة. فـ”عمارة” في كتابه هذا يقدّم اجتهادًا إسلاميًّا جديدًا، يسهم في ترشيد الفكر والحركة عند الإسلاميّين والعلمانيّين على حدٍّ سواء.

وكذلك في كتابه “معركة الإسلام وأصول الحكم”، الذي ألّفه في الردّ على كتاب “الإسلام وأصول الحكم” لعلي عبد الرازق، ويناقش فيه أيضًا كتاب “نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم”، الذي ألّفه الشيخ محمّد الخضر حسين في الردّ على كتاب علي عبد الرازق.

 يقدّم محمّد عمارة رؤية جديدة، منطلِقًا من تشخيصه الحالة التي وصل إليها التنازع بين الإسلاميّين والعلمانيّين على قضية الحكم وفلسفته؛ فهو يرى في الكتاب بأنّ “فكريّة التغريب” التي جلبتها الغزوة الاستعماريّة الحديثة تسبّبت في انقسام الناس إلى ثنائيّة إسلاميّين وعلمانيّين، أو متغرّبين وأصوليين، ويؤكّد بأن استحكام هذا الخلاف وتعمُّق هذه الثنائيّة قد أصاب حياتنا بما أسماه “الطائفيّة الحضاريّة”.

والمهمة الكبيرة والقضية المُلحّة، التي أرادها من هذين الكتابين وممّا كتبه في قضية فلسفة الحكم، تكمن – كما يقول- في: “أن يفهم كلٌّ منَّا الآخر، حتى يكون الحوار مجديًا وموضوعيًّا، وحتى يفضي هذا الحوار إلى بلورة مشروع حضاري لإنهاض الأمة، بحيث يصبح التمايز والخلاف والاجتهاد على أرضنا نحن، وفي إطارنا كأمّة ذات حضارة متميزة، تخوض معركة شرسة ضد تحديات كثيرة فرضها عليها أعداء كثيرون”.

وكما في قضيّة الحكم كان عمارة يلجُ إلى فلسفة الأحكام الشرعيّة عمومًا، لا سيما تلك التي يتّخذها المهاجمون للإسلام متّكأً لهجومهم، كأحكام الميراث التي يقدّم فيها فلسفة فذّة تتجاوز التفسيرات التقليدية المتعارفة.

وهذه المنهجيّة الفكريّة أثارت عليه طرفين متناقضين معًا، في أحدهما الكارهون للإسلام المهاجمون له، وفي الآخر المتمسّكون بظواهر نصوصه، الذين كان عمارة يسمّيهم “االنّصوصيّين”.

ثورة على استعباد العقل وعلى تأليهه

تطرّف الناس في قضية العقل والعقلانيّة، وتعدّدت مواقفهم وذهبوا مذاهب شتّى، ويقسّمهم عمارة في كتابه “مقام العقل في الإسلام” ‏إلى خمسة أقسام في موقفهم من العقل والعقلانيّة:

الأول: تيّار نصوصيّ يقف أصحابُه عند ظواهر النصوص، ويتنكّرون للنظر العقلي، ويخلطون بين العقل والهوى.

والثاني: تيار باطنيّ يدّعي التصوّف؛ يتنكّر للعقل ويعتمد ما يسمّيه الحدس، وفي التعامل مع النصوص يعتمد التأويل العبثيّ.

والثالث: تيار حداثي غربي له امتداداته في واقعنا العربي والإسلامي؛ ذهب إلى تأليه العقل وجعلَ شعارَه “لا سلطان على العقل إلّا للعقل وحده”، وهذا التيّار انقاد للغرور العقلاني، فافتعل معركة شرسة لا داعي لها بين العقل والنقل.

والرابع: تيار ما بعد الحداثة الذي يحاول التمدّد على أنقاض الحداثة الغربية، ويدعو إلى تفكيك منظوماتها ومسلّماتها الكبرى حول العقل والعلم والتقدّم، وهو لا يقدّم للإنسان سوى الفوضى والعدميّة، التي تصيبُه بالشكّ العبثيّ في كل شيء.

والخامس: تيار الوسطيّة الإسلاميّة الذي يقيم عقلانيّته على كتابَي الوحي والوجود، وعلى نور الشرع ونور العقل.

ثمّ يقدّم الدكتور عمارة رؤية ثورية جديدة تتعلق بالعقل، من خلال استعراض مقام العقل والعقلانيّة في التراث الإسلامي وخارج إطار الإسلام، منطلِقًا من نصوص تراثيّة تمثّل نماذج لديوان العقلانيّة في تراث الإسلام، معتبرًا أن إبراز معالم هذه القضية وإعادة العقل إلى مقامه ووضع العقلانيّة في موضعها اللّائق بها، يمثّل المدخل الأساسي والشرط الأول لتحسين التعامل مع الدين والدنيا، ومن ثم المنهاج العلميّ الذي نجدّد به ديننا الإسلامي لتتجدّد به دنيا المسلمين.

وكذلك في كتاب “أزمة العقل العربي”، الذي هو في أصله مناظرةٌ عقدت في قطر بين د. عمارة وبين د. فؤاد زكريّا.. قدّم د. عمارة رؤيته من خلال تحرير مفهوم الأزمة، ثم تحرير مفهوم العقل، ثم استرسل في الحديث عن الأزمة العربية والازدواجية بين النظرية والتطبيق، ويشرع في الحديث عن أزمات العقل العربي، ومنها وهْمُ امتلاك الحقيقة المطلقة وإلغاء الآخرين، وبيّن في معرض تفريقه بين العقل العربي والعقل غير العربي أنّ تعدّد العقل يرجع إلى تعدّد المرجعيات والثوابت، وأكّد أنّ أزمة العقل العربي ليست جديدة وإنما هي مرتبطة بعصور التخلّف الحضاري والضعف العام للأمة.

ثورةٌ على التّنميطِ والأحكام والتّصنيفات المسبقة

الفكرُ الذي يقدّمه د. عمارة ثورة حقيقيّة على ما أغرق فيه المسلمون من توارث التصوّرات الجاهزة والتصنيفات مسبقة الصنع.

كانت البداية مع رسالة الماجستير التي قدّمها د. عمارة وعنوانها “مشكلة الحرية عند المعتزلة”، حيث بدأ معها نفض الغبار المتراكم على صورة المعتزلة في المخيال الإسلامي، وبدأ يخوض غمار إنصاف هذه الفرقة التي أعلت من شأن العقل ومنحته حرية الاختيار في زمن متقدّمٍ في التاريخ الإسلامي.

يرى د. عمارة أن المعتزلة ظُلموا ظلمًا شديدًا، وأنّ المشكلة المتعلّقة بظلم المعتزلة ليست متعلّقة بهم وحدهم بل بظلم الإنسان عمومًا، فهو يؤكّد أن المشكلة التي كانت في القديم تحت مصطلحات الجبر والاختيار ما تزال مستمرّة إلى اليوم وبشكلٍ أوسع، تحت مصطلحات الحرية والاستبداد.

ويؤكّد د. عمارة على أن دراسة التيّارات الفكرية الإسلامية – والمعتزلة في مقدمتها- يجب أن يخرج من إطار الدراسات “الكلاميّة” إلى إطار الدراسات التي تُقَدَّم في إطار الظروف السياسية والاجتماعية التي صاحبَت النشأة والتطور لهذه النظريات والأفكار.

وما فعله مع المعتزلة، فعله د. عمارة أيضًا مع تراث جمال الدّين الأفغاني ومحمّد عبده، إذ جمع وحقّق المؤلّفات الكاملة لهما غير عابئٍ بما قد يثيره ذلك عليه من أعاصير هجوميّة، بل خاض المعركةَ؛ معركة َكسر الصُّور النمطيّة المتعلّقة بهؤلاء بكلّ اقتدار.

وكما كسر د. عمارة قوالب التنميط عن التيّارات والشخصيّات الفكرية؛ فقد بقي هو عصيًّا على التّنميط والقولبة، وبقيَ ظاهرةً عزّ نظيرُها؛ فهو ظاهرة موسوعيّة الفكر، وظاهرة فذّة في التأصيل الفكري الممزوج بالتواصل الحضاري والتوصيل السلس للفكرة العميقة، وهو فوق ذلك كلّه ظاهرة في ثوريّته الفكريّة، وحين يكون الفكر ثورة فإنه لا يخبو ولا يموت.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من...

قراءة المزيد
Loading...