حرب المئة عام في فلسطين

بواسطة | نوفمبر 11, 2023

بواسطة | نوفمبر 11, 2023

حرب المئة عام في فلسطين

تحليل لمراحل تاريخ فلسطين وحروب إسرائيل في غزة، بتركيز على عائلة الخالدي ودورها. يكشف المقال تفاصيل النكبة ويعيد تقييم التحديات التي واجهها الفلسطينيون.

حرب المئة عام في فلسطين – تأملات في التاريخ والصراع

يحكي المؤرخ رشيد الخالدي، أستاذ الدراسات العربية في جامعة كولومبيا، قصة عن تواصل أحد أفراد عائلته مع زعيم الحركة الصهيونية هرتزل، ففي 19 مارس 1899م أرسل يوسف ضياء الخالدي رسالة إلى الزعيم الصهيوني ثيودور هرتزل، قال فيها إن فلسطين مأهولة بآخرين لن يقبلوا استبدالهم بسهولة، ويردّ ثيودور هرتزل على الرسالة بالحُجَّة الأولى للمستعمرين في كل الأماكن والأزمنة بأن “هجرة اليهود ستُفيد السكان الأصليين في فلسطين، لأننا سنزيد رفاهيتهم وثروتهم”.

تبدأ القصة مع نهاية الحرب العالمية الأولى، إذ بدأ اقتلاع المجتمع الفلسطيني المحلي بهجرة كبيرة للمستوطنين الأوروبيين اليهود، تدعمها سلطات الانتداب البريطاني الجديدة، التي ساعدتهم على تأسيس هيكل دولة صهيونية، وانخفض عدد السكان الأصليين في فلسطين أكثر بسبب القمع القاسي للثورة العربية الكبرى في فلسطين ضد الحكم البريطاني في الأعوام بين 1936 و1939م، تلك الثورة التي قال عنها بشاره الخوري:
غَذَّت الأحداث منّا أنفسًا .. لم يزدها العنف إلّا عُنفوانا

إذ إن 10% من الذكور العرب البالغين قُتلوا أو جُرحوا أو سُجنوا أو نُفوا خلال الثورة الفلسطينية، واستخدم البريطانيون مئة ألف جندي وقوات جوية للسيطرة على المقاومة الفلسطينية، وامتد تطور القسوة والعنف المستخدم إلى الإعدامات دون محاكمة، فقد أُعدم -مثلا- الشيخ فرحان السعدي سنة 1937م، وكان زعيما في الواحدة والثمانين من عمره، بسبب امتلاكه طلقة واحدة من الرصاص، بل  نُفّذ أكثر من مئة من أحكام الإعدام بعد محاكمات عسكرية.

هكذا شُنّت حرب استعمارية ضد سكان فلسطين من جهة بريطانيا لإجبار أهلها على تسليم بلادهم إلى شعب آخر ضد إرادتهم، وجرى تجاهل أصحاب البلاد، فيما استخدم مؤيدون للصهيونية عبارة “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض”، وتحوَّلت فلسطين إلى “أرض مشاع” مُباحة للمستوطنين، وظهر السُّكان الأصليون لفلسطين أشخاصا هلاميين بلا أسماء، هكذا وصف هرتزل الفلسطينيين العرب الذين كانوا يشكلون آنذاك 95% من سكان البلاد بأنهم “السكان غير اليهود”، ويشير رشيد الخالدي إلى أن هذا جعل الفلسطينيين غير موجودين في مجال الرؤية الاستعمارية أو بلا حساب.

بدلا من كتابة بحث كامل لتاريخ فلسطين، ركَّز المؤرخ رشيد الخالدي في كتابه “حرب المئة عام في فلسطين” على ست نقاط تحوُّل في القضية الفلسطينية، تبدأ تلك النقاط بوعد بلفور عام 1917م، الذي ألزم بريطانيا إنشاء وطن قومي لليهود، ولم يأتِ على ذكر الفلسطينيين قط، على الرغم من كونهم الأكثرية الساحقة في البلاد، وسرد الخالدي تجارب هذه المرحلة من تاريخ فلسطين عبر ذكريات عائلة الخالدي، واستخدام ذكرياته الشخصية في كتابة العمل التاريخي.
ثم ينتقل إلى قرار تقسيم فلسطين عام 1947م، ثم قرار مجلس الأمن رقم 242 لعام 1967م، ثم الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982م، ثم اتفاقية أوسلو للسلام 1993م، ثم اقتحام أرئيل شارون المسجدَ الأقصى عام 2000م، وصولا إلى حصار غزة بشكل متكرر والحروب عليها في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، إلى ما نشاهده هذه الأيام على شاشات التليفزيون.

تاريخ النكبة

يصف الخالدي أحداث النكبة، وكأنها حادثة تحطُّم قطار يجري ببطء وبلا نهاية على مدى أشهر عديدة، بدأتْ مرحلتها الأولى في 30 نوفمبر 1947م، واستمرت حتى الجلاء النهائي للقوات البريطانية وتأسيس إسرائيل في 15 مايو 1948م، وشهدتْ هزائم متتالية للفلسطينيين، بتسليحهم الضعيف وتنظيمهم الممزّق، كما حلّت الهزائم كذلك بمن هرع إلى مساعدتهم من المتطوّعين العرب، أمام المليشيات الصهيونية المسلحة مثل “الهاغانا” و”الإرغون”.
كذلك شهدت المرحلة الأولى جولات قتال مرير، انتهتْ بهجوم صهيوني واسع على مدى البلاد في ربيع سنة 1948م، وشملت الخطة الصهيونية احتلال وتفريغ سكان أكبر مدينتين عربيتين، يافا وحيفا، والأحياء العربية في القدس الغربية خلال شهر أبريل والنصف الأول من شهر مايو، بالإضافة إلى عدد من المدن والبلدات والقرى العربية مثل طبريا في 18 أبريل، وصفد في 10 مايو، وبيسان في 11 مايو؛ وهكذا بدأ التطهير العرقي للفلسطينيين قبل إعلان دولة إسرائيل في 15 مايو 1948م.

يشير كتاب “حرب المئة عام في فلسطين” إلى حصار يافا وقصفها دون توقّف بمدافع الهاون، فقد أنهكها القنَّاصة، وعندما احتلتها القوات الصهيونية في النهاية خلال الأسبوع الأول من مايو أُفرغَت بشكل منهجي من معظم سكانها العرب، الذين بلغ عددهم ستين ألفا آنذاك، وعلى الرغم من أن يافا كان من المفترض أن تكون جزءا من الدولة العربية، التي وُلدتْ ميتةً حسب قرار تقسيم الأمم المتحدة، فإن أحدا من اللاعبين الدوليين لم يحرك ساكنا لوَقف هذا الخرْق الصارخ لقرار الأمم المتحدة.
بعد القصف والهجوم على الأحياء المدنية الضعيفة، تكبَّد المصيرَ نفسه ستون ألف فلسطيني في حيفا، وثلاثون ألفا في القدس الغربية، واثنا عشر ألفا في صفد، وستة آلاف في بيسان، وخمسة آلاف وخمسمئة في طبريا.. وهكذا أصبحت غالبية السكان العرب الحضريين لاجئين، وفقدوا بيوتهم ومعيشتهم.

كان جدُّ رشيد الخالدي وجدَّته من بين المهاجرين سنة 1948م، وكان عليهما ترك منزلهما في تلّ الريش، مسقط رأس والده وأغلب إخوته وأخواته، وأصر جدّه، الذي كان سنّه آنذاك قد بلغ 85 عاما، على البقاء بعناد ورفضَ ترْك بيته، ولكن بعد أن لجأ أولاده وأغلب عائلاتهم إلى القدس ونابلس، بقي وحده بضعة أسابيع حتى جاء صديق للعائلة من يافا خلال فترة من هدوء القتال لأخْذه قلِقًا على سلامته.
غادر الجد أخيرا بعد تردّد كبير حزينا، لأنه لم يتمكّن من أخذ كتبه معه.. لم يشاهد هو ولا أولاده بيتَهم بعد ذلك إلى الأبد، لكن لا تزال أطلال بيتهم الحجري الكبير قائمة ومهجورة في ضواحي تل أبيب.

حروب إسرائيل على غزة

يوضح رشيد الخالدي أن المؤرخ الفرنسي جان بيير فيليو سرد 12 حملة إسرائيلية كبيرة ضد غزة منذ 1948م، كان بعضها احتلالا تامّا، بينما كانت حملات أخرى عمليات عسكرية واسعة النطاق، وطالما غطَّت الحروب الكبيرة بين إسرائيل والدول العربية على استهداف غزة، لأن الصراعات الحامية التي تشمل الدول العظمى بشكل مباشر تثير اهتماما أكثر بالطبع، ويفسر الخالدي استهداف غزة بهذا الشكل بأنها كانت بوْتَقَة المقاومة الفلسطينية بعد 1948م.
أغلب القادة المؤسّسين لحركة فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية نشؤوا في الأحياء المزدحمة من قطاع غزة الساحلي الضيق، كما أن الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين قد حصلت على أقوى مؤيديها حماسةً من هناك، ثم كانت غزة بعد ذلك مولد ومعقل حركتي الجهاد الإسلامي وحماس، وهما أقوى المتحمّسين للكفاح المسلَّح ضد إسرائيل.

سيرة عائلة الخالدي

الكتاب في جزء منه، يقدم الحروب في فلسطين من وجهة نظر شخصيات عاشتها، غالبيتها من عائلة الخالدي، فيستعين بمراسلات ووثائق وروايات شهود على الأحداث، في محاولة لتقديم سردية فلسطين بشكل مختلف عما طُرح سابقا، فنسمع أصوات رئيس بلدية القدس في القرن التاسع عشر، الذي تنبَّأ بالصراع القادم.
كما يقدم الخالدي قصته الخاصة باعتباره طفلا وابن مسؤول في الأمم المتحدة مقيم في بيروت عام 1982م، إلى جانب مراسلات جدّه، يوسف ضياء الخالدي، عام 1899م، ومنها رسالته إلى ثيودور هرتزل بعد أن بدأ الحديث عن فلسطين باعتبارها أرض اليهود، مذكّرا إياه بأن للبلاد شعبا أصليّا لا يمكنه أن يقبل تهجيره، وختمها بعبارة “دعوا فلسطين وشأنها”.

ويذكر الخالدي حكاية أشقاء جدّه وقصة تجنيدهم في الجيش العثماني في الحرب العالمية الأولى، وقد استخدم شواهد من مذكرات عنبرة سلام الخالدي عن حالة المجاعات في بلاد الشام في أثناء الحرب، وشنق جمال باشا عبد الغني العريسي، الذي كان خطيبا لعمَّة الكاتب عنبرة الخالدي، وكذلك يستخدم رشيد الخالدي الشواهد من المذكرات التي تخص عائلة الخالدي مثل مذكرات حسين الخالدي، وفيها “مضى عهد المجاملات” ومذكرات يوسف صايغ، وهذا الاستخدام أضفى على الكتاب رُوحًا إنسانية وتفاصيل شخصية، لكن عيبه الأساسي في تركيزه على جهود العائلة دون ذكر سلبيات دورها أو تناقضات مواقفهم، لذلك يجب الحذر حول تكبير دور العائلة في سياق تاريخ عموم فلسطين، فكيف يُختزل تاريخ فلسطين في عائلة واحدة؟ بل يصل الأمر إلى تجاهل الأدوار التي تشين صاحبها مثل دور أحمد سامح الخالدي، الذي كان له موقف سلبي من ثورة 1936م يغض الكتاب الطرف عنه، لذلك نرى استخدام الذكريات الشخصية مهمًّا وحيويًّا، لكن لا يجب التسليم له على طول الخط، والبحث عن أصوات أخرى من فلسطين لإكمال الصورة.
أضف إلى ذلك التركيز على قصة الخالدي، تنبيه الباحث أحمد مأمون إلى ضعف تفسير رشيد الخالدي نشأة حماس، إذ اعتبر الخالدي موافقة إسرائيل على ظهور الحركة كانت لتعميق انقسام الحركة الوطنية في فلسطين، ويرد عليه مأمون في مراجعته الكتاب ويشكك في مصادره.

يحلل الكتاب كثيرا من المحطات في تاريخ فلسطين، مثل تأثير ثورة 1936م في فلسطين، ولحظة النكبة وما فعلته في الجيل الذي عاشها، وأثر هزيمة عام 1948م، وصعود دور الولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة مع تراجع بريطانيا بعد الحرب العالمية الثانية، وحالة التخاذل العربي في القضية الفلسطينية على مستوى الحكّام، إذ عانت البلاد العربية من الاستعمار، ووصل التخاذل إلى حد التواصل مع الصهاينة، مثل دور الملك عبد الله بن الحسين، ملك الأردن، الذي تواصل مع الوكالة اليهودية، وحصل على تفاهمات تخص بعض مناطق الضفة للحصول عليها، وعدم تجاوز الجيش العربي المناطق الإسرائيلية في حرب 1948م التي أقرتها اتفاقية التقسيم.

يحاول الخالدي أن يقدّم كتابا عن فلسطين، لكنه ليس إلا تصوُّرا باكيا لمئة سنة مضت من تاريخ فلسطين، إذ اتُّهم الفلسطينيون بأنهم منغمسون في الشعور بأنهم ضحايا، ويوضح الخالدي صورة مختلفة، فيها قصة مواجهة الفلسطينيين ظروفا شاقة، بل ومستحيلة أحيانا، مثلُهم في ذلك كمَثل جميع السكان المحليين الذين واجهوا حروبا استعمارية، كما أنهم تعرّضوا لهزائم متكررة، وكانوا متفرقين غالبًا ولم تتوفر لهم قيادة جيدة، ولا يعني كل ذلك أنهم لم ينجحوا أحيانا في التغلب على هذه المصاعب، غير أن المؤلف لا يستطيع تجاهل القوى الدولية والإمبريالية التي تحالفتْ ضدهم، ويُهمل ولا يُقدّر أثرها السلبي في أغلب الأحيان.‏

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من...

قراءة المزيد
Loading...