حرب غزة.. انتقائية دولية وازدواجية معايير

بواسطة | ديسمبر 8, 2023

بواسطة | ديسمبر 8, 2023

حرب غزة.. انتقائية دولية وازدواجية معايير

تتناول هذه الفقرة المقدمة للمقال تحولات القيم الليبرالية الغربية بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وتسلط الولايات المتحدة، مع التركيز على النقاشات الحالية في ظل التحديات الدولية. يتناول المقال أيضًا التكلفة البشرية الهائلة في غزة جراء الحرب الإسرائيلية ويسلط الضوء على التواطؤ الغربي وتأثيره على الإبادة الجماعية في القطاع.

تحليل للتحديات الدولية وتأثيرات الحروب على الإنسانية في غزة

مع سقوط الاتحاد السوفيتي وبروز أحادية القطبية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية كقوة تقود العالم، نشر الفيلسوف الأمريكي فرانسيس فوكوياما كتابه الشهير “نهاية التاريخ والإنسان الأخير”، والذي سعى من خلاله لإبراز عظمة القيم الليبرالية الغربية التي ترفع شأن الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان في مقابل الفاشية السوفياتية، لكن لم يمض الكثير من الوقت حتى بدأ فوكوياما نفسه بالتراجع عما كتب بعد غزو العراق وما أعقبه من حروب، وضعت هذه الأخلاقيات الغربية محل نقاش جدي حول حقيقتها.

بعد الحرب الروسية على أوكرانيا والحرب الإسرائيلية على غزة في السابع من أكتوبر عاد النقاش الدولي من جديد حول القيم الغربية ومبادئ حقوق الإنسان وازدواجية المعايير، لكن يبدو أن الساحة الدولية اليوم وفي ظل المساحات النقاشية التي وفرتها مواقع التواصل الاجتماعي جعلت النقاش الدولي أكثر اتساعاً، ووضعت الأخلاقيات التي تتبناها الإدارة الأمريكية على المحك، وفرضت الكثير من التساؤلات حول النظرة الغربية تجاه الحرب الروسية على أوكرانيا، ونظرتها للحرب الإسرائيلية على غزة بالنظر إلى حجم المآسي الإنسانية التي خلفتها هذه الحرب خلال وقت قصير للغاية، وما خلقته من معاناة قد تمتد لعقود من الزمن.

لقد كشفت الحرب الإسرائيلية على غزة، وانحياز الإدارة الأمريكية على وجه الخصوص لإسرائيل ومحاولاتها إيجاد المبررات لقتل آلاف الأطفال والنساء، حجم النفاق الصارخ داخل النظام الأخلاقي الدولي، وخاصة من خلال عدسة استجابة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي للأزمة في أوكرانيا وغزة. يتعمق هذا التحليل في هذا التناقض الكبير، ويتحدى سلامة القانون الدولي والمعايير الأخلاقية، ويسلط الضوء على معايير الغرب المزدوجة وأخلاقه الانتقائية.

الغرب والمعايير المزدوجة

تقول أولكساندرا ماتفيتشوك، محامية حقوق الإنسان الأوكرانية والحائزة على جائزة نوبل للسلام، “إنه بدلاً من دعم جانب في الحرب على غزة، يجب أن نتجذر جميعاً من أجل الإنسانية”.
إن الانقسام الذي يشوب التوجه الذي يتبناه الغرب، وخاصة موقف الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، في التعامل مع الصراع بين روسيا وأوكرانيا، والعدوان الإسرائيلي على غزة، أمر مذهل. فقد خصصت الولايات المتحدة، في عرض للتحالف الإستراتيجي، نحو 46 مليار دولار من المساعدات العسكرية لأوكرانيا، ومبلغاً إجمالياً قدره 113 مليار دولار في أشكال مختلفة من المساعدة لأوكرانيا للدفاع عن نفسها في وجه “الاحتلال الروسي”.
وفي تناقض صارخ، ظلت هذه القوى نفسها تدعم إسرائيل باستمرار، ليس سياسياً فحسب، بل أيضاً بمساعدات مالية وعسكرية كبيرة، فحسب وزارة الحرب الإسرائيلية قالت الوزارة في تغريدة نشرتها على موقع إكس في 6/12/2023م “إن الطائرة رقم 200 من المساعدات العسكرية قد وصلت بالفعل لإسرائيل، وإن نحو 10 آلاف طن من المساعدات العسكرية استلمتها إسرائيل منذ السابع من أكتوبر”، ما ساهم فعلياً في تمويل العمليات العسكرية في غزة.
ليس هذا فحسب؛ بل إن خطاب الزعماء الغربيين أيضاً، مثل الرئيس جو بايدن، ونائبة الرئيس كامالا هاريس، يرسم صورة حية لهذا المعيار المزدوج. ففي حين برزت إدانتهم القوية لتصرفات روسيا في أوكرانيا، ظهر دعمهم غير المحدود والصريح لتصرفات إسرائيل في غزة، كان أخطره التبني الأمريكي المطلق للرواية الإسرائيلية، رغم أن هذا التبني عرَّض الإدارة الأمريكية للحرج مرات عديدة منذ السابع من أكتوبر كما جاء في قضية “رؤوس الأطفال المقطوعة”، ومعاملة الرهائن، والتشكيك في أعداد الشهداء في غزة؛ إلا أن هذا الدعم استمر دون توقف، بشكل يكشف عن حالة واضحة من العدالة الانتقائية في الشؤون الدولية.

التكلفة البشرية في غزة

إن الأزمة الإنسانية في غزة ليست مجرد أرقام وإحصائيات؛ إنها قصة معاناة إنسانية على نطاق غير مسبوق، ففي أقل من 60 يومًا، قتلت القوات الإسرائيلية ما يقرب من 16.000 مدني فلسطيني، من بينهم أكثر من 6.600 طفل و4.300 امرأة، وألحقت إصابات بأكثر من 42.000 شخص؛ ولا يزال أكثر من 8.000 شخص، من بينهم 4.700 طفل، في عداد المفقودين، ومن المحتمل أن يكونوا مدفونين تحت الأنقاض، وسط غياب معدات الدفاع المدني، ومنع دخولها لغزة من قبل الجيش الإسرائيلي.
إن عدد ما قتلته إسرائيل في قرابة الشهر يقارب ما قتلته روسيا على مدار عامين، علماً بأن عدد الضحايا المدنيين في أوكرانيا، والذي بلغ 9.701 قتيلاً و17.748 جريحاً على مدى عامين  تقريباً، جعل العالم الغربي ينتفض لما أسماه “هول الفاجعة أو الفاشية الروسية”!!. في المقابل، إن حجم الدمار الهائل الذي أوجدته الطائرات والدبابات الإسرائيلية في غزة مع تدمير أكثر من 300,000 منزل، بالإضافة لكافة مستشفيات شمال القطاع، وعشرات المساجد والمدارس والجامعات، والبنية التحتية وشبكات المياه والكهرباء والصرف الصحي، وثالث أقدم كنيسة في العالم، هو بمثابة تذكير مؤلم بالتكلفة البشرية للحرب، وتذكير أكثر إيلاماً بالمعايير المزدوجة التي يُتابع العالم الغربي من خلالها المعاناة الإنسانية غير المسبوقة في غزة.

الإرهاب الإسرائيلي وخطاب القيادة

إن السرد الذي يروجه القادة الإسرائيليون هو مثالٌ للعدوان الجامح والتجرُّد الصارخ من الإنسانية! فاستحضار نتنياهو لآيات “عماليق” المقدسة، التي تأمر بقتل الرجال والنساء والأطفال وحتى البهائم، لتبرير الحرب، ووصف وزير الدفاع للفلسطينيين بأنهم “حيوانات بشرية”؛ ودعوة وزير التراث الإسرائيلي لضرب غزة بالقنبلة النووية؛ ذلك كله ليس مجرد كلمات؛ بل هو مظهر واضح للعقلية التي تديم وتبرر العنف الذي ترعاه الدولة. هذا الخطاب العدواني، إلى جانب الاستهداف العشوائي للمدنيين والبنية التحتية، هو مثالٌ نموذجي للإرهاب الذي تقوده الدولة في إسرائيل وتوفر له أمريكا والغرب الرعاية والاحتضان، والحماية من المساءلة القانونية.

التواطؤ الغربي في الإبادة الجماعية في غزة

إن تورط الدول الغربية، وخاصة في ما يتعلق بالمساعدات المالية والعسكرية لإسرائيل، يجعلها مشاركة بشكل فعلي في الإبادة الجماعية التي تتكشف في غزة؛ وقد برزت هذه المشاركة بشكل فاضح في خطاب وزارة الخارجية الأميركية يوم الاثنين 4/12/2023م، حين قالت: “إنها لم تر أي دليل على أن إسرائيل تقتل المدنيين عمداً خلال حربها على قطاع غزة، وليس لديها معلومات تشير إلى أن الحكومة الإسرائيلية تستهدف الصحفيين في هذا الصراع، وإنها تتوقع سقوط ضحايا مدنيين نتيجة للعملية العسكرية بغزة، وهذا يحدث للأسف في جميع الحروب”.
وفي الحقيقة، تعارض الحقائق الميدانية التصريحات الصادرة عن الإدارة الأمريكية بشكل صارخ، ففي الستين يوماً الأولى من الحرب الإسرائيلية على غزة، قتلت القوات الإسرائيلية 72 صحفياً، وهو رقم يتجاوز عدد الصحفيين الذين قُتلوا في جميع أنحاء العالم خلال العام الماضي بأكمله، والذي بلغ 67. إن القتل العمد للصحفيين والإبادة المنهجية للحياة المدنية والبنية التحتية، تحت ستار الدفاع عن النفس وبدعم من القوى الغربية، مما يكشف عن تواطؤ مقلق في هذه الأعمال المروعة.

نهاية القانون والنظام الأخلاقي الدولي؟

إن ما نشهده في غزة ليس مجرد صراع، بل هو إبادة جماعية في أوضح صورها؛ فالاستهداف المتعمد للمدنيين، والتدمير الشامل للأحياء، والتعطيل الكارثي للخدمات الأساسية، وتقييد عمل المنظمات الدولية الفاعلة على الأرض، مثل الأمم المتحدة والصليب الأحمر، يشكل جهداً متكاملاً لإبادة السكان.. إنها إبادة جماعية، ليس من حيث التعريف فحسب، بل من حيث تنفيذها الأكثر وحشية وإجراماً كذلك.
وبينما تتكشف فصول المأساة في غزة، جنباً إلى جنب مع استجابات الغرب المتباينة لها ولأوكرانيا، يبرز سؤال مُلحّ اليوم: هل وصلنا إلى نقطة الانهيار التام للنظام الأخلاقي الدولي والقانون الإنساني؟ وهل وصل العالم بالفعل إلى الحافة بعد الحرب الروسية الأوكرانية والحرب الإسرائيلية على غزة، بحيث باتت إعادة بناء النظام الدولي من جديد أمراً محسوماً ومسألة وقت فقط؟ خاصة أن الأدلة تُشير إلى تآكل مثير للقلق لمبادئ العدالة الدولية، وحقوق الإنسان، والمساواة بموجب القانون الدولي، التي تتعرض للخطر بسبب النفاق والأخلاق الانتقائية لدول العالم القوية.
إن الوضع في غزة ليس مجرد نداء للمساعدة؛ بل هي دعوة للاستيقاظ من أجل إعادة تقييم عميق للنظام الدولي، والبوصلة الأخلاقية التي توجه السياسة العالمية.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من...

قراءة المزيد
Loading...