خطاب “أيها الناس” من مقاهي اسكودار

بواسطة | يونيو 12, 2023

بواسطة | يونيو 12, 2023

خطاب “أيها الناس” من مقاهي اسكودار

لإسطنبول روحها الخاصة، وعَبقها الذي لا يتكرر!. ورغم جمال عواصم ومدن غربية عدة، بحكم الطقس في أوروبا، فإن لإسطنبول حكاية خاصة، فأنت هنا تختلط بتلك الروح الحاضرة العميقة.. إنها روح الشرق، وهل للشرق روحٌ ملهمة مثل الإسلام؟!.
هذه المرة كنتُ في جولة مع توران كيشلاكجي، المتخصص في أزقة إسطنبول الآسيوية والأوربية، وهو ليس أخا عزيزا وصديقا خاصا فقط، لكنه شخصية عُجنت بآداب الشرق وفنونه. ففي رحلتي مع تركيا منذ 2014، قابلت عددا من الأصدقاء الأتراك الناطقين بالعربية، شَغلت كثيرين منهم السياسة؛ أما توران فلا يزال مرابطا عند الفكر الشرقي وجسوره، ونِدِّيته الحضارية مع الغرب بين الإنسان والعمران.

يقودني الحديث مع أبي عمر عن الوجه الآخر للفنون والآداب، ودورها في بعث قيمة الروح، تلك الروح التي يطوف بها العالَم، ويُجدد حياته وهو غافل عنها، ثم يستيقظ ليتساءل: أين وصلتُ في هذا العالم الحديث وكيف اُدرك الحقيقة؟.

ثلاث ساعات عبرت عليَّ سريعا، ولولا أن ارتباطات السفر حاصرتني، لأقمت بين تلك الأزقة أتخبط مع توران بين جدرانها.. لا عليك فلن تتيه، إذ كل زقاق هناك وكل ركن مقهى يعرف توران، وتوران يعرفه؛ ولأن روح توران خفيفة جميلة حلوة، فقد مثّل سفيرا ثقافيا للحزب الحاكم (العدالة والتنمية)، وكان رسولا مفوضا فوق العادة، دون أن يُكلَّف رسميا بذلك، بل دون أن يخطط الحزب له، فتوران أسقط الحواجز السياسية، في رحلاته الشرقية المتعددة عربيا وآسيويا، وفي جسوره الداخلية.
لذلك كان من الطبيعي أن نتجنب -كعهدنا- حديث السياسة، ونعود للرسالة المعطلة في الشرق. وفي هذا العبور إلى الضفة الآسيوية، توجهنا إلى مقهى النخبة من المثقفين والأكاديميين والإعلاميين، عرَّفني توران بعدد منهم، وكان حديثا مختلفا!. ولطالما تمنيت أن نتحرر في الرواق الفكري والأدبي في علاقتنا مع تركيا من البوتقة السياسية، ونصنع مظلة حوار مشتركة؛ وهذا ما كان يحاول تعويضه توران كيشلاكجي.
انضم إلى طاولتنا مستشار الرئيس التركي، الدكتور شعبان كيزيلداغ، فكان الحديث مع هذه الشخصية الودودة المتواضعة عن أهمية الترجمة المتبادلة، وقد صدرت له عدة كتب، لكنَّها لم تُترجم إلى العربية التي يحب أن تصل إليها نظرياته. ثم عدنا لسؤال الشرق القديم الجديد.. ما هو خبره الحديث يا أبا عمر؟.
قال لي توران إنه منشغل في هذه الفترة بدور الشرق العريق، المتمكن من البعث القصصي الذي تُعيد طرحه الرواية في الغرب اليوم، بسبب الثروة الغنية التي يقدمها تراث الشرق!. استحضرتُ هنا قصة (الخيميائي) لباولو كويلو، وكيف نُسجت تلك القصة من روح الشرق وتراثه؛ فقال توران إنه جلس مع الرجل وأجرى معه مقابلة ثقافية، وفيها قال كويلو لتوران إنه لو كان في الشرق ولديه اللغة لوضع كل يوم قصة، وإن روح القصة شرقي.
دوما يقودني الحديث مع أبي عمر عن الوجه الآخر للفنون والآداب، ودورها في بعث قيمة الروح، تلك الروح التي يطوف بها العالَم، ويُجدد حياته وهو غافل عنها، ثم يستيقظ ليتساءل: أين وصلتُ في هذا العالم الحديث وكيف اُدرك الحقيقة؟. ولماذا هزني ذلك المشهد المسرحي أو السينمائي، أو الفصل في الرواية واللقطة في الدراما؟. ما هو محرك ذلك الصخب الشعوري وذلك الإدراك النفسي؟.. تستهويه الفنون ويقف عند الموسيقى، وينظر في آفاق اللوحة.. مَن حرك ذلك وبمَ تحرك؟!.. {ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا} [سورة الإِسراء: 85] .إن هذا العلم قليل رغم كل سعته في تاريخ الإنسان. لكنه، ورغم عجزه عن فهم كُنْه الروح، يدرك يقينها في بعث فطرته كل حين، ليسقط التيه والعجز التفكيري، فتُدَلُ النفس إلى بارئها، وهنا قصة الفنون ودلائلها.
أعجبني توران بهذا التعبير الجميل المذهل، قال لي إنه يقول لأخوتنا من الأصدقاء المشايخ: لكم خطاب “أيها المؤمنون”، أما نحن في مسرح الشرق فنفتح أبوابنا لخطاب “أيها الناس”، لنصل به إلى عالم الإنسان في أنفسنا الشرقية، ونمضي في رحلتنا إلى العالم الكبير.

الفنون رسالة حرية لا نخبة طبقية، واليوم تعصف بالذات رياح التكييف الغربية، رياح بأسها رأسمالي شديد، في حين أن للفكرة الحرة رواقها الشرقي!.

إن خطاب الفنون والآداب له مهمة ذوقية تتبعها طبيعة النفس البشرية، تفترق قيمه أو تشترك مع بقية الحضارات، لكن لديه قيمة ثابتة هي دلالة الفطرة في الإبداع، وجسور الذائقة بين الخلق والعمران؛ فكيف يقال إن الشرق المسلم حرّم هذا العالم الضخم؟!. نعم، هناك مساحات ممنوعة وتوظيفات مكروهة، غير أن دفق الحياة وطبيعة توله الناس بالجمال، مرئيا وصوتيا، متصل بأرواحهم. ولذلك، وكما رددتُ قديماً، كان الفيلسوف والرئيس الأعظم في تاريخ أوروبا الحديثة، علي عزت بيغوفتش، يدعو الناس إلى الإسلام عبر رسالة الفنون والآداب.
تواعدتُ مع أبي عمر المسكون بهذه الحقيقة على أن نجدد الولاء للطريقة، وأن ندعو مريدي هذه الروح كي ينضموا إلى حلقاتها، ليس عبر المنابر الدينية التي لها رسالتها القدسية المهمة، وإن لم يمنع الإسلام حديث الفكر من خلالها، لكننا وجدنا عالم اليوم يحتاج أن تغشاه دعوة “أيها الناس” من المقاهي وندوات الآداب والفنون، ومن صرير أقلام الفلسفة، والجدل حول القيم الغائبة عن الإنسان.. فكان الموعد لأول شعلة لخطاب “أيها الناس” من اسكودار.
قلت لتوران: نحن نحتاج إلى طاولة مستديرة عاجلة، بين المثقفين العرب والمثقفين الأتراك،ٍ من شروطها القول للسياسة، بكل حب وتقدير، بالتركية: (يوك) وبالعربية: (كلا).. ليس لعدم أهمية السياسة، لكن لكون خطاب “أيها الناس” تجميعي تأملي، فهناك حشد من المثقفين العرب والأتراك لهم مذاهبهم وأفكارهم، تجمعهم روح الشرق، وهناك في كل من الضفتين: التركية والعربية، بل والكردية والفارسية أيضا، من لا تستوعبه الخطبة الدينية لكن تستهويه روح الشرق، وخاصة في ظل الحملة الغربية على فطرة الإنسان وكرامة الأطفال.
ثم إن الفنون رسالة حرية لا نخبة طبقية، واليوم تعصف بالذات رياح التكييف الغربية، رياح بأسها رأسمالي شديد، في حين أن للفكرة الحرة رواقها الشرقي!. أليس الشرق مركز النبوات، وعاصمة الحضارات، ومهوى أفئدة المتعة والجمال؟!. الفرق بين معاييرنا ومعايير الاستشراق التي عرّاها إدوارد سعيد؛ أنهم يدورون حول النزوة، أما نحن فندور حول الوعي وفقه الفكرة والفطرة وإشارات الصورة، وكل من صوّر إبداعه أدبا أو ريشة نبحر معه.. نبحر مع الناس إلى الجمال الذي أودعه رب الناس!.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من...

قراءة المزيد
Loading...