خلافة راشدة والخلفاء الخمسة قضوا اغتيالا.. كيف ذلك؟!

بواسطة | سبتمبر 6, 2023

بواسطة | سبتمبر 6, 2023

خلافة راشدة والخلفاء الخمسة قضوا اغتيالا.. كيف ذلك؟!

قضى الخلفاء الراشدون الخمسة اغتيالا، وهذا الأمر يثير التساؤلات الاستفهامية عند البعض والاستنكارية عند البعض الآخر؛ إذ كيف تكون هذه الخلافة راشدة، ويُطلب منّا التمسك والاستنان بها والعض عليها بالنواجذ، وهكذا كانت نهاية الخلفاء الراشدين فيها؟.
فأما أبو بكر الصديق رضي الله عنه فقد اغتاله اليهود، إذ قضى مسموما كما يذكر ابن الأثير في “الكامل في التّاريخ”: “كانت وفاة أبي بكر رضي الله عنه لثماني ليالٍ بقين من جمادى الآخرة ليلة الثلاثاء وهو ابن ثلاث وستين سنة، وهو الصحيح؛ وقيل غير ذلك، وكان قد سمّه اليهود في أرز، وقيل: في حريرة وهي الحسو، فأكل هو والحارث بن كلدة، فكفّ الحارث، وقال لأبي بكر: أكلنا طعاما مسموما سُمّ سنة، فماتا بعد سنة، وقيل: إنه اغتسل وكان يوما باردا فحُمّ خمسة عشر يوما لا يخرج إلى صلاة، فأمر عمرَ أن يصلي بالناس، ولما مرض قال له الناس: ألا ندعو الطبيب؟ قال: قد أتاني وقال لي أنا فاعلٌ ما أريد؛ فعلموا مراده وسكتوا عنه، ثم مات”.
وأما عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقد كان اغتياله بتدبير دولي وتخطيط خلية تابعة للدولة الفارسية، وكان التنفيذ على يد أبي لؤلؤة المجوسي في المسجد النبوي أثناء صلاة الفجر؛ وقضى عثمان بن عفان رضي الله عنه في عملية اغتيال جماعي، نفذتها جموع من المتمردين الذين كان يحركهم عبدالله بن سبأ؛ وأما علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقد اغتيل على يد عبد الرحمن بن ملجم ضمن حرب داخلية وتمرُّد ضمن حدود الدولة قاده الخوارج.
وأما الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما، فقد قضى مسموما أيضا في عملية اغتيال لم تتضح فيها اليد المنفذة، وذلك أن الحسن رضي الله عنه رفض أن يسمّي من سقاه، قال ابن كثير في “البداية والنهاية”: “لما حضرته الوفاة قال الطبيب وهو يختلف إليه: هذا رجل قطَّع السمُّ أمعاءه، فقال الحسين: يا أبا محمد؛ أخبرني مَن سقاك؟ قال: وَلِمَ يا أخي؟ قال: أقتله والله قبل أن أدفنك ولا أقدر عليه، أو يكون بأرض أتكلَّف الشخوص إليه. فقال: يا أخي إنما هذه الدنيا ليالٍ فانية، دَعْه حتى ألتقي أنا وهو عند الله، وأبى أن يُسمِّيه” فكل ما يروى عن شخصيات أسهمت في عملية اغتياله هو ظن لا يثبت على حال.
مما لاشك فيه أن عمليات الاغتيال التي طالت الخلفاء الراشدين الخمسة، رضوان الله تعالى عنهم أجمعين، تثير التساؤلات عن دلالات هذه الاغتيالات، وعن مدى تأثيرها على مفهوم الخلافة الراشدة والنموذج المراد انتهاجه وتعميمه؛ وباختصار يمكن توضيح ذلك في النقاط الآتية:
أولا: تكمن المشكلة في التعامل مع مفهوم الخلافة الراشدة بمنطق مثالي، واعتقاد أن النموذج الذي تقدمه الخلافة الراشدة هو النموذج المثالي الذي يخلو من أخطاء البشر وصراعات السياسة، وهذا خلل منهجي يفضي إلى استنكار مثل هذه الأحداث؛ بل إن الخلافة لا يمكن أن تكون راشدة، ولا يكون النموذج قابلا للتطبيق والاتّباع إلا بمقدار ما يكون واقعيا، ولذلك نجد الخلافة الراشدة كانت إطارا زمنيّا واقعيّا، يحتوي الوقائع المختلفة ومنها الاغتيال السياسي للقادة، ويرسم خلفيات هذه الحوادث، ليتحقّق بذلك معنى النموذج.
ثانيا: إن عمليات الاغتيال الخمسة لهِيَ دليل قائم بذاته على رفعة المرحلة الراشدة، فالخلفاء الخمسة لم يتمّ اغتيالهم ظالمين بل كلهم اغتيلوا مظلومين، ولم يتمّ القضاء عليهم بأيدي شعوبهم الناقمة عليهم، بل كان اغتيالهم نقمة عليهم بسبب مواقفهم من نشر الإسلام والشريعة القائمة على العدل والتسامح، أو بسبب مواجهتهم القوى السياسيّة الكبرى المتغطرسة في ذلك الزمان.
ثالثا: إن عمليات الاغتيال تدلّ على مدى حرص الخلفاء على منح الحريات العامة، ورفض تقييدها تحت الضغوط المختلفة، فأبو بكر رضي الله عنه كان متبسّطا مع الناس يأكل من طعامهم حتى استطاعوا الوصول إليه، ورغم علمه بالسمّ لم يُقم المحاكمات الميدانية لهم، وعمر بن الخطاب رضي الله عنه تلقّى التهديد العلني، ومع ذلك تمكّن هذا الشخص الذي هدده من الصلاة في المسجد دون أن يعترضه أحد، أو أن يتمّ اعتقاله بسبب كلمة قالها تحمل في طياتها التهديد، وكذلك فإن عثمان بن عفان رضي الله عنه هو الذي حمى من حاصروا بيته ورفض اقتراح الصحابة بالدفاع عنه منعا لإراقة الدماء، وعلي بن أبي طالب كان قد تعامل مع من تحوّلوا من المعارضة الفكرية إلى المعارضة المسلحة بالمنطق ذاته، فكان يواجههم وحدهم حالة اعتدائهم دون أن ينقل هذا إلى ساحات المساجد تضييقا على حريّات الناس، فتمكّن مغتالوه من الوصول إليه بيسر، وأما الحسن فقد كان يعلم من قام باغتياله ولكنه آثر عدم تسميته كي لا تدخل الأمة بعده بعمليات ثأر وتضييق على الناس وملاحقة لهم.
إنه من الطبيعي أن تكون عندنا قراءات ناقدة لحالة الارتخاء الأمني، التي تسبّبت بالوصول السهل إلى الخلفاء الرّاشدين، والإفادة منها في التّعامل مع تهديدات الأعداء القائمة أو المحتملة، ولكنّ ما لا يجب أن يغيب في هذه المواقف هو حرص الخلفاء على إبقاء الحريات العامة مصونة وغير قابلة للتقييد، ورفض ممارسة الاستبداد بذريعة التّهديدات، وعدم إعلان حالة الطوارئ بسبب محاولات الاعتداء على شخوص الخلفاء الراشدين رضي الله تعالى عنهم.
إن القراءة الواقعيّة لحالات الاغتيال، وتنحية التصورات المثالية لمفهوم الخلافة الراشدة، ودراسة السياقات والدلالات التي انطوت عليها عمليات الاغتيال، تؤكد لنا أن هذه الاغتيالات بقدر ما كانت مؤلمة ومؤسفة، فهي تكرّس بعض أهم سمات النموذج الواقعي الذي أمرنا النبي، صلى الله عليه وسلم، بالتمسك به والعضّ عليه بالنواجذ.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من...

قراءة المزيد
Loading...