دفاتر الحرب الأهلية.. مذكرات دلال البزري

بواسطة | مايو 4, 2024

بواسطة | مايو 4, 2024

دفاتر الحرب الأهلية.. مذكرات دلال البزري

كنا نسير في شوارع بيروت، ولم يكُن الحذر من القنَّاص ينجح دائمًا، فلم يمنعه ذلك من إصابة الرفيقة سُهيلة. كانت سُهيلة تردِّد أنها تتمنى إن أصيبت يومًا بطلقة قنَّاص، أن تنال رصاصته من كتفها وحدها، فيأتي حبيبها مشفقًا، مُغرمًا أكثر ممَّا كان، فتشفى هي، ويصير حبهما أقوى.. كانت الرفيقة سُهيلة أولى شهيداتنا”.

هكذا تصف دلال البزري مشهدًا مؤلمًا من الحرب الأهلية اللبنانية أو “عُرس الدم”.. الذي استمرَّ لخمسة عشر عامًا، وأوقع – حسب بعض التقديرات- ما يقرب من مئة وخمسين ألف قتيل، وشرّد عشرين ألف شخص.

تستعيد الكاتبة دلال البزري تجربتها الشخصية تحت عنوان “دفاتر الحرب الأهلية اللبنانية”، التي صدرت عن “المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات”.

دلال البزري، الكاتبة والباحثة اللبنانية التي تحمل شهادة الدكتوراه في العلوم الاجتماعية، في مذكراتها تروي يومياتها وما رأته خلال فاجعة الحرب، إذ انضمَّت ناشطةً سياسيةً تحت راية منظّمة العمل الشيوعي، وسجَّلت ما رأت من فساد في المنظمة، التي تركتها بسببه لاحقًا.

الحرب الأهلية نزهة مقارنة بمعاناة السوريين

“ستجد دائمًا سببًا للكتابة عن الحرب، إنها تقرِّر حياة الناس”.. هكذا صدَّرت دلال البزري مذكِّراتها، متأثرةً بثِقَل اللحظة السورية الراهنة، مقارِنةً بين الخراب في سوريا وأهوال الحرب الأهلية اللبنانية، لكن الوضع السوري – عبر مرآتها- يفوق كل حدود التصوّر الممكنة، وعندما تمشي دلال في شوارع بيروت، تشاهد تلك المجموعات الحزينة من السوريات المُرهَقات، يعبرن الأرصفة الضيقة بخَفَرٍ، يسحبن أطفالهن من أكمامهم.. من أولئك الذين يتوهون، أو يطوفون، لا يعرفون غير وجهة الشمس، تقول لنفسها: كان يمكن أن أكون واحدة من أولئك الضائعين الخاسرين.

تدخل دلال في مقارنة بين الحرب الأهلية اللبنانية، التي عاشتها، وتلك الحرب في سوريا.. تقارن فلا تجد مجالًا، كانت الحرب اللبنانية مجرّد نزهة شاقَّة، قياسًا بالحرب السورية.

بيروت المقسمة إلى نصفين

في مطلع شبابها انتمت دلال البزري إلى اليسار اللبناني، وعبر دفاتر مذكراتها تقدِّم محيطها النضالي القديم “منظمة العمل الشيوعي”، تلك المنظمة التي انطلقت عام 1970م، وانخرطت في الحرب الأهلية متحالفة مع عدة أحزاب وحركات قومية ويسارية.

كان على دلال أن تمر بمنطقة المتحف، التي مثلت نقطة القطيعة بين سكان بيروت حينما انقسمت المدينة إلى نصفين: بيروت “شرقية” تحت سيطرة السُّلطة اليمينية، و”غربية” تحت سيطرة السُّلطة الوطنية اليسارية المساندة للمقاومة الفلسطينية.

تتوقف دلال عند المتحف، وتخشى أن تتابع.. ففي غفلة واحدة تحوّلت هذه القطعة من بيروت إلى منطقة أخرى، كأنها سقطت سهوًا.. هل يُعقل؟! تلك الأحياء الضيقة التي جالت فيها حيًّا حيًّا وهي توزِّع منشورات المنظمة خلال السنوات السابقة، بيروت المدينة الواحدة، يتسرب إليها قليل من الشعور بأنها ليست كذلك، لا يمكن أن تكون كذلك، تسير دلال وهي تحتاج إلى أمل في عدم إصابتها برصاصة أو شظية.

فلسطين والحرب الأهلية

ساد الحركةَ الطلابية في لبنان إيمانٌ عميق بأن الحرب الأهلية لن تدوم طويلًا.. عاشت دلال ذلك الزَّخْم الهائل الذي حظي به الفدائيون الفلسطينيون، غُصَّت الأجواء الطلابية بالمظاهرات المندِّدة بجرائم إسرائيل.

تحكي دلال في مذكراتها أنه قبل اندلاع الجولة الأولى من الحرب، كانوا أكثر فلسطينيةً، كانت المنظمات الفلسطينية المسلحة تؤنسهم، وتدغدغ أحلامهم السياسية، كانت المنظمات قريبةً إلى قلوبهم، عكس الحزب الشيوعي اللبناني، الذي وافق على تأسيس دولة إسرائيل، وغمْغَم طوال الأعوام الأخيرة: أيدعم الفلسطينيين في كفاحهم المسلح؟ وهذه نقطة تُؤاخذه بها.

دلال عضو عامل في الحزب

لم تتأخر القرارات الحزبية كثيرًا مع الحرب، فصدر قرار الحركة الوطنية اللبنانية باحتلال المدارس الخالية من الطلاب بسبب المعارك، وتحويلها إلى مقارَّ حزبية، تحوَّلت “مدرسة الشِّيَّاح التكميلية” إلى مركز لمنظمة العمل الشيوعي وشريكها، الحزب الشيوعي اللبناني.. وانتقلت دلال للعيش بالمدرسة برفقة ابنها وزوجها، حاملةً ما تيسّر من الملاحف والفُرُش والأغراض اليومية.. هكذا تسرد لنا قصتها مع الرفاق في المنظمة الشيوعية، الذين يؤمنون بأنهم إذا أدَّوا المُهِمّات الحزبية الموكولة إليهم، فسينتصرون بلا شكٍّ على اليمين اللبناني، وأن بلادهم ستتحول إلى قاعدة صُلْبة وتغدو منطلَقًا لتحرير فلسطين.

تبدو الحياة الحزبية غايةً في التشويق لدلال، إذ تصف حُلوَ الأيام الأولى للحرب ومُرَّها، والتحديات الصعبة التي فرضتها الحرب، فقد شاع الاحتكار وعمَّ الغلاء وساد الظلام، وانقطعت المياه وشَحَّ الوقود، وانتعشت السوق السوداء، واتخذت منظمة العمل الشيوعي وحلفاؤها داخل الحركة الوطنية قرارهم تشكيلَ “الأمن الشعبي” إطارًا تتوزَّع في داخله الأحزاب المختلفة من الحركة الوطنية، لكي يعالجوا شؤون حياة الأهالي اليومية، ويواجهوا احتكار التجار للسلع الأساسية، بوضع الخطط وإقامة الزيارات التفقدية لجميع نقاط بيع الطّحين، واتخاذ الإجراءات الملائمة بحق المحتكرين الجشعين.

دلال والرفاق في الحزب

تحكي دلال عن دورها في الحرب، إذ كانت المُهمات الموكولة إلى الرفيقات كثيرة، طلبات متواصلة لا تتوقف إلا عندما تحين ساعة النوم، كان الرفاق مشغولين بكثير من المُهمّات العسكرية، ويسهرون طوال الليل يحرسون خطوط التماس بين المركز الحزبي وعين الرمانة.

خاضت دلال واحدةً من أجرأ المغامرات، تمثَّلت في تهريبها مع رفيقتها الحزبية “نجاة” السلاحَ والذخيرةَ إلى بيروت الشرقية. تَعبُر دلال الحاجز في دقيقتين، لكن الدقيقتين مثل مئة سنة، “لأن الرفيقات لا يُثِرن الشبهة على الحواجز المعادية، خصوصًا إذا ارتدَيْنَ ملابس مناسبة ونطَقْن بفَرنسية مُتقَنة، ساعتها تتبدَّد الشبهات حولهن، وتبتسم دلال للقنّاص الذي يظنها مواطنة بسيطة تعبر بيروت الشرقية إلى الغربية، غير عالم بأنها تنقل أسلحة وذخيرة إلى أعدائه.

فساد الوسط الشيوعي

توجِّه دلال في “دفاتر الحرب الأهلية” سهام النقد الحادة إلى الفساد في الوسط اليساري، وما ساده من محسوبيات ورياء وأغراض غير نزيهة تتعارض تمامًا مع سردية النضال، خصوصًا مع حصول أعضاء المكتب السياسي للمنظمة الشيوعية -وَفق روايتها- على امتيازات حصرية خلال فترة قصيرة من التحاقهم بالعمل الحزبي، إذ سَرعان ما خُصِّصت لهم سيارات فارهة ومرافقون مسلَّحون، وظهرت عليهم أمارات الغِنى والثراء.

وفي إحدى الليالي الشتوية الطويلة همسَت الرفيقة زينب لدلال قبل أن يخلدا إلى النوم بما يشغل بالها، قالت لها: “من أين جاؤوا بالأموال؟ وإذا كانت مصادر هذه الأموال واضحة، فلماذا لا يعلنون عنها؟ على الأقلّ داخل الأُطر الحزبية، ألا يحقّ للرفاق أن يعرفوا أن منظمتنا تتلقى أموالًا؟ من الذي يقرّر توزيع بنود المشتريات؟ هل حياة أولئك القادة أغلى من حياتنا وحياة باقي الرفاق القاعديين؟

تشرد دلال في أقوالها، فتُلِحّ زينب عليها قائلة: قولي لي.. ما لك صامتة مثل القطة التي أضاعت عشاءها؟ وفي غياب الإجابة عن تساؤلاتها تلجأ دلال إلى سلاح السخرية، فتستعرض أسماء الرفاق: نديم، فريد، رضا.. كان الأجدر بهم أن يتخذوا أسماءً أكثر واقعية مثل عفيف، طاهر، شريف.. تنتقد البزري في دفاترها الطريقة العشوائية التي تتّخذ بها الأحزاب اليسارية القرار، وعدم الدقة في تجنيد الأعضاء الجدد، الذين – طبقًا لروايتها- صاروا شيوعيين بعد ندوتين أو ثلاث، ومثَّلوا عبئًا كبيرًا على جبهة المقاومة بسبب عدم انضباطهم، ومَيلهم إلى التشبيح وممارسة الأعمال الإجرامية التي تخدش رونق النضال وعدالة القضية، وهي الممارسات التي ذهبت بيقينيَّات البزري وأحلامها الأولى حول الانتصار، ليحلّ مَحلَّها شعورٌ يائس باستحالة الثورة والتغيير.

انتهاء سنوات السعادة الثورية

انقضت سنوات السعادة والثورة والآمال الحالمة، ورأت دلالُ العيوبَ مِن قُرْب، خصوصًا مع دخول الحرب الأهلية اللبنانية عامها الثاني، وسَرْعان ما تدحرجت كرة اللهب على الساحة اللبنانية ليطلب الرئيس اللبناني سليمان فرنجية في مارس/ آذار من العاصمة السورية دمشق التدخُّل رسميًّا، ووصلت أرتال القوات السورية إلى العمق اللبناني مصحوبة بقصف عشوائي عنيف للضاحية الجنوبية.

مجزرة تل الزعتر

مع أفول عام 1976م، بدأ تحالف القوات السورية والقوات المارونية اللبنانية حصارَه مخيم تلّ الزعتر الفلسطيني، الذي استمر 52 يومًا، تعرّض خلالها المخيم لقصف عنيف تُقدِّره الإحصائيات الحربية بما يناهز 55 ألف قذيفة انهمرت على لاجئين عُزل محاصَرين، فأوقعت ما يزيد على أربعة آلاف قتيل، وأضعافهم من الجرحى.

تنقل البزري عن فتًى لبناني قريب لها، تصادف وجوده في المخيم، حيث عاش كل الوقائع المُرَّة في صيف 1976م، أنه في الأسبوع الثالث أو الرابع – لا يذكر تمامًا- إذ بدأ الخبز يختفي بالتدريج، كانوا يقطعون الخبز “الحاف” مئة شقفة (قطعة)، ويكون لكل عائلة مع أفرادها رغيفان، على أن يكون الأطفال هم أصحاب الشقفة الكبرى، يليهم آباء قليلون، فالباقون إما إنهم استُشهدوا، وإما إنهم يديرون معركة الحصار مجتمعين معًا في زوايا مظلمة في الملجأ، ثم الأمهات.. آه، الأمهات أعظم مخلوقات الله، لا حصة لهن من فُتات الخبز!

تصف لنا دلال في مذكراتها المآسي التي سمعت عنها مع حصار مخيم تل الزعتر، وحرمان أهله من المياه بعد قصف عين المياه الوحيدة في المخيم، هكذا انقطعت كل مقوِّمات الحياة عن هؤلاء المحاصَرين.. كانت دلال لا تعرف كثيرًا عن مجريات هذا الحصار، الأخبار الخارجة عن المخيم تظنُّها – من فرط قسوتها- مُبالَغاتٍ أقرب إلى الخرافات.

وفي عصر يوم من أواسط أغسطس/ آب، كانت دلال واقفة بسيارتها على مفرق كورنيش المزرعة، وإذا بسَيل من الشاحنات مليئة بالأولاد والنساء وكبار السن.. اهتزَّت دلال من الصدمة عندما حدقت في الوجوه، أول ما صفعها منظر امرأة تبكي في ذهول، منفوشة الشعر، نحيلة مريضة، ذات ثياب رثَّة، الأطفال يبكون بعد أن فقد كثير منهم أهليهم وذويهم، أسأل سائق الشاحنة الثانية عن وجهته، فيجيب: “مخيم شاتيلا”.

تمرُّدًا على سير الأمور داخل منظمة العمل الشيوعي وحلفائها، وعلى ضوء التدهور الرهيب الذي آلت إليه الأمور في لبنان، قرّرت دلال البزري -وَفْق مذكراتها- ترك منظمة العمل الشيوعي عام 1981م، إذ رأت التناقضات بين الخط السياسي الذي تؤمن به، وبين الواقع السياسي على الأرض، فقد استمرت كتابات المنشقين عن الاتحاد السوفييتي تفضح نظامه القمعي وممارساته العنيفة، وتُسقِط عنه الصورة المثالية، كما خالف وليد جنبلاط مسيرة والده السياسية، مختارًا سياسةً تقاربية مع النظام السوري. كانت الحادثة التي أنهت علاقة دلال البزري بالمنظمة الشيوعية حينما أيدت المنظمة حصار قوات الجيش السوري مدينة زحلة الكاثوليكية في البقاع عام 1981م، إذ وقّعَت منظمة العمل الشيوعي ذات الأسس العلمانية، بيانًا مشتركًا مع الحركة الوطنية يُدِين أهل زحلة، استخدم -حسب مذكرات البزري- عبارات طائفية شبه صريحة في تغطية حصارهم وقصفهم، ليمثّل ذلك الانحراف القشة التي قصمت ظهر البعير.

تشرح دلال سياق خروجها من الحزب: “أخرج من المنظمة كأنني أواجه الحياة بمفردي، زوجي يبقى فيها، فتمتدُّ غربتي داخل البيت، أترك المنظمة وحدي، هكذا أخرج ببساطة أكبر ممَّا دخلت، لكنني أخرج بإحساس مختلف، إذ تحوّلَت الآمال العارمة إلى فشل سياسي ذريع، فشل تجربة دامت ثلاث عشرة سنة، عليَّ اجترار مرارتها.. الخروج من المنظمة الشيوعية أمر يشبه الطلاق، قطيعة مع عالَم قائم بذاته كان يشكّل محورًا لحياتي، كل هذا ينتهي بالنسبة إليَّ، وعليَّ أن أبني عالمي الجديد، مع أن عالمي القديم لا يبارحني، لكنني الآن حُرة، حُرة في الانتقاد العلني، في السخرية من تجربتي، ومن الخط السياسي، ومن نفسي أيضًا”.

خروج منظمة التحرير من لبنان

محطة جديدة تصفها المذكرات.. ففي صيف عام 1982م، اجتاحت إسرائيلُ لبنانَ تحت ستار من نيران القاذفات المقاتلة والزوارق البحرية، وبمساندة من نيران دبابات ومدفعيات القوات المهاجمة، بهدف طرد التنظيمات الفلسطينية كلها من لبنان، وتصفية الوجود الفدائي المصوَّب إليها من الجنوب.. تغزو إسرائيل لبنان وتتوقف الحياة فجأة، وتعاني بيروتُ الحصارَ الإسرائيلي 90 يومًا، وتنقطع المياه والكهرباء، ويزداد شُحُّ المؤن وغلاؤها، ويصبح الخبز عملة نادرة.

كان على دلال وأسرتها الاحتماء من أزيز الطائرات الإسرائيلية وقصفها.. تروي في يومياتها كيف كان عليهم أن يختبئوا في الملاجئ ذات الرائحة العفنة، وبسبب القصف الإسرائيلي المستمر يقرّرون الانتقال إلى عمق بيروت، ولا يفعلون شيئًا غير البقاء على قيد الحياة، هكذا تمضي باقي أيام حصار بيروت. كان من اللحظات المفجعة أن تعود إلى بيتها، وترى القصف الإسرائيلي قد اخترق الجدار بضربة بحرية من الزوارق الإسرائيلية من الغرب.

في تلك الأثناء تسمع دلال في الإذاعة أن المنظمات الفلسطينية جمعت رجالها لتنسحب من لبنان، وهي الآن في طريقها إلى مرفأ بيروت للخروج منه.. مثَّل الخبر بالنسبة إليها منعطفًا تاريخيًّا، فعلى الأقلّ عليها المشاركة في الموكب المودِّع كما حكت، أخذت ابنها معها وركبت السيارة لعلها تحظى بوداع شخصيٍّ لبعضهم، ومع اقترابها من المرفأ، ينال منها بكاء منتظَر، تسترسل في ذلك البكاء.. ويجاريها ابنها في البكاء، وهو الذي بلغ لتوّه عشر سنوات. تجد دلال جمهرة من الناس، باكية حزينة، مودّعة سنوات من الصحبة والألفة، سنوات من الأعياد المشتركة، من المهرجانات، والمخيمات.. الجلاء الفلسطيني لا يبدو إلا نهاية حقبة، لا نهاية للحرب.

سوريا.. الدولة “المتوحِّشة

لا تنسى دلال الحديث عن تعرُّفها إلى الباحث الفرنسي ميشيل سورا، الذي كان لها مُعلمًا ومرشدًا في العمل البحثي والميداني.. كان ميشيل يعشق كلَّ ما هو عربي.. ويعيش كل ما هو شرق أوسطي، اختُطف سورا عام 1985م في فوضى الحرب، وفي عام 1986 عُثر على جثته بعد موته في الأسْر، وهكذا انتهت حياة أحد عُشَّاق الشرق ليترك حزنًا في قلب محبيه، وقلب دلال.

تعرج دلال في صفحات مذكّراتها على عشرات الذكريات والأحداث طوال سنوات الحرب، وكيف تركت كلٌّ منها ندبة لا تُمحى، من اعتقال الزوج، إلى خطف الابن.. بدت الحرب لدلال مستمرَّةً إلى الأبد، لكن بعد سنوات قليلة سيضع المتقاتلون السلاح، وتنتهي حقبة مأساوية من تاريخ لبنان الحديث، وتظلُّ تلك الحرب الأهلية ماثلة في الوجدان اللبناني، محذِّرة من الانزلاق إليها والعودة إلى التقاتل في أي لحظة، لأن مُسبِّبات الحرب ما زالت كامنة تنتظر اللحظة المناسبة للانفجار.

تقول دلال: “عندما اندلعت الحرب كانت سنِّي 22 سنة، وأصبحت بنهايتها 38 سنة، عندما أنتبه لنفسي وإلى سنّي الراهنة في نهاية الحرب أُصاب بالهلع، ماذا فعلتُ بحياتي؟ ماذا فعلوا بشبابي؟ أشرع في التساؤل: كم من الأعمار فنِيَت في أوقات الحرب؟ يداهمني أحيانًا الحنين إلى الحرب التي أكرهها، ويفاجئني.. أبحث في سريرتي عن دواعي ذلك، فالحنين ليس إلى النار والقذائف أو رائحة الدم والبارود أو النفايات المحروقة، إنه الحنين إلى ما كنتُ عليه من أملٍ وقت الحرب، هو حنينٌ إلى ذلك الشعور الرائع بأنني كنت شابةً، وأنّ الوقت أمامي، حتى لو لم يكن الأمر كذلك في الواقع.. في أثناء الحرب أو بعد انتهائها”.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من...

قراءة المزيد
Loading...