رفاعة الطهطاوي وفرنسا ساركوزي

بواسطة | مايو 21, 2023

بواسطة | مايو 21, 2023

رفاعة الطهطاوي وفرنسا ساركوزي

هناك خبر تم تداوله في وسائل الإعلام، عن قيام السلطات الفرنسية بتوجيه تهم تتعلق بالفساد الإداري والمالي وسوء استخدام السلطة، للرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي؛ وتم اقتياده إلى المحاكمة، وحكمت عليه المحكمة بالسجن لمدة ثلاث سنوات، حسب ما ورد في وسائل الإعلام. وأثار ذلك حفيظة المواطن العربي البسيط، وهو يرى في تلك البلدان الأوروبية محاكمة لرؤوس السلطة فيها، لممارسات وأفعال صدرت عنهم في فترة حكمهم المقيدة والمؤقتة، بينما الحكم في كثير من أوطان المشرق الإسلامي العربي لا يعرف إلا الديمومة على مقاعد الإدارة والسلطة، دون تجديد للدماء القيادية، ودون مراجعة للأفعال السلطوية.
وتذكرت مقولة للصحابي الجليل عمرو بن العاص، فاتح بلاد مصر، عندما انتصرت قواته على القوات الرومانية البيزنطية الحاكمة في مصر عام 640 م، في سلسلة من المعارك الحربية لتحرير الأراضي المصرية من التسلط الأجنبي البيزنطي، وذلك عندما سُئل عن الروم فقال بكل صراحة، تنم عن مصداقية ومعيارية عالية في الحكم على الخصوم السياسيين: (إنهم -أي الروم – أبعد الناس عن ظلم الملوك، وأسرع الناس إفاقة بعد سقوط). وتلك الكلمات التي ذكرها عمرو بن العاص واصفا الشعوب الرومانية الأوروبية تجعل الإنسان يتعجب من سلوك شعوبهم وطرائق سياستهم، وطبيعة علاقاتهم مع سلطتهم وملوكهم، ما يحفزنا إلى السعي لدراسة أسباب تطورهم وقيادتهم للأمم في القرون الأخيرة، وسبب تخلف العرب سياسيا وفكريا واقتصاديا وصناعيا خلال الفترة الآنفة ذاتها.
ولعلنا نستعين بمن هاجر إليهم في القرن التاسع عشر الميلادي، ووصف شيئا من أسباب تطورهم، لعلنا نقتبس منهم الجيد من الممارسات، ونتجنب سوء الفعال على كل الأصعدة. ومن هؤلاء الرُحّل الذي تميزوا بالوصف الدقيق لعلامات وأسباب تفوقهم رفاعة الطهطاوي، الذي وصف البلاد الفرنسية؛ وهو من قادة النهضة العلمية في مصر، في عهد محمد علي باشا. وقد كان سفره إلى فرنسا في سنة 1826م ضمن بعثة ضمت أربعين طالبا، أرسلهم محمد علي باشا لدراسة اللغات والعلوم الأوروبية الحديثة، وكان عمر الطهطاوي حينها 24 عاما. ففي كتبه الكثير من التوثيق للمزايا التي تتصف بها الشعوب الأوروبية، وكذلك نمط السياسات التي تحكمهم.
ومن تلك المشاهدات والملاحظات، أن سيادة القانون وحاكميته على الحاكم والمحكوم هي الواقع الدارج والمنتشر والسائد في الأوساط السياسية الأوروبية؛ فالجميع، حاكما ومحكوما، يتحاكمون إلى رمزية القانون ولوائحه وبنوده، ويعتبرونه الملاذ الآمن لحل جميع النزاعات والقضايا بين أطراف المجتمع الأوروبي.
ويرى أن انتشار الحريات، بما فيها الحرية الشخصية، جعلت الفرد الأوربي نشطا في التفكير والنقد والتأملات والبحث عن الحلول العلمية والعملية لكل القضايا الحياتية، التي يعاينها ويعايشها، ويجد من السلطات الحاكمة مشاركة فعالة في تطبيق وتنفيذ ما يتوصل إليه من نتائج ومقترحات لزيادة الوعي التنموي في البلدان الأوروبية.

التقدم الحضاري وسيادة القانون ورقي العلوم، كل ذلك لا يعني بالضرورة تطور الجانب الإنساني والاجتماعي؛ فقد شوهدت حسب مرئياته وشواهده وتوثيقاته عدة مظاهر سلبية في الجانب الاجتماعي والإنساني لدى الشعوب الأوروبية

ويلاحظ في مشاهدات الطهطاوي سيادة قيم العدالة والمساواة في عقلية المواطن الأوروبي، وتعريز تلك القيم في كل ميادين الحياة، بمساندة من الأنظمة السياسية.
أما اهتمام العامة في أوروبا بالقراءة والكتابة، وجعلهما من عاداتهم، فقد جعل العقل الأوروبي متطورا باحثا عن الجيد من الحلول، وساعيا إلى صناعة المثل والقيم العليا وتبنيها وانتهاجها، وأصبح لأهل القلم والعلم ولأصحاب الكتابة الحظوة والنفوذ في الوجود السياسي الأوروبي.
ومن طريف ما يذكر عن الشعوب الأوروبية، أن عدم ظهور علامات الشيب والشيخوخة وتأخرها لدى الأجيال الأوروبية دلالة على الشعور بالأمن والأمان؛ لاستقرار القانون وسيادته، وقلة القلق من وجود تقلبات للأمزجة السلطوية، منعا لتخبطها في قراراتها وما يسببه من تأثير على إدارتها للشعب والدولة.
إلا أن التقدم الحضاري وسيادة القانون ورقي العلوم، كل ذلك لا يعني بالضرورة تطور الجانب الإنساني والاجتماعي؛ فقد شوهدت حسب مرئياته وشواهده وتوثيقاته عدة مظاهر سلبية في الجانب الاجتماعي والإنساني لدى الشعوب الأوروبية، وهي برأيي ما زالت قائمة حتى في زماننا؛ ويذكر منها التفكك الأسري، وانتشار حالات الانتحار، والدعارة المقننة وغير المقننة؛ فقد كانت النساء في الأوساط الأوروبية بعد الانتهاء من العمل يعرضن أنفسهن للمارة عند أبواب بيوتهن، يعرضن أجسادهن ويبرزن مفاتنهن رغبة بحفنة من الجنيهات. كما أن من تلك المظاهر السلبية زيادة فجوة الفروقات في الجهالة والوعي بين المدن الكبرى والقرى والأرياف، وزيادة الجرائم والسرقات، وتفشي عادة أكل الميتة، وغيرها من الممارسات السلبية الاجتماعية.
لذلك نتعجب من أمة أكرمها الله بعوامل التنمية الدنيوية فكرا وتنظيما وسلوكا، فجعلت دستورها المقدس على رف مهجور وارتأت أخذ كل ما جاء من الغرب دون تمييز بين القبيح والنافع منه، متناسية أن قصص سيادة القانون ومحاسبة السلطة التي يعرفها الغرب، شكلت في تاريخها العربي والإسلامي معجزة نتعجب منها.
إن من تراثنا مقولة الصديق أبي بكر (إن أخطأت فقوموني)، تلك المقالة التي طالما طالعها قارئ التاريخ. ولكن، يبدو أننا في بلاد العرب سمعناها: (إن أخطأت..  فطبلوا لي).

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من...

قراءة المزيد
Loading...