سـلِّ صـيامك

بواسطة | مارس 18, 2024

بواسطة | مارس 18, 2024

سـلِّ صـيامك

قبل البدء في كتابة هذه المقالة كان عليَّ قراءة وردي اليومي، وأظنه كان رسالة لي كي أكتب في هذا الموضوع، حيث مررت على الآية “137” في سورة الأنعام {لِيُرْدُوهم ولِيلْبِسوا عليهم دينَهم}، وقرأتها مراراً وكأن جوارحي تبصرها للمرة الأولى!

فهذه الآية الكريمة اختزلت بأقل العبارات أعظم الغايات، وترجمت الواقع المعاصر الذي يريد بشتى الطرق أن يجرِّد كل ما هو ديني وأخلاقي من معناه الحقيقي، لخلق صورة يريدها الإعلام الغربي المسموم، الذي يؤمن بأنَّ الحرب خدعة وليست دوماً بالسلاح الذي نعرف! بل هناك أسلحة دمار شامل وراجمات صواريخ من نوع آخر قادرة على استهداف العقول، وهدم القدوات، وتشويه وجه الحقائق، والتشكيك بالقيم، وتفريغ الإسلام من قيمته بتمييع صورته وتفريغه من محتواه من مسافة صفرية.

وينطبق نص الآية القرآنية على المساعي التي يبذلها كل كاره للإسلام لترسيخ سياسة تفريغ الإسلام من مضمونة، بالإبقاء على اسم الإسلام مع تشويه مضمونه وتجريده من عظمته، ولتحرير أركانه من قيمها، وذرِّ الرماد في العيون حتى لا تبصر جوهره. فعلى سبيل المثال لا الحصر.. رمضان، هذا الشهر المليء بالمعاني السامية، صار ألصق به كل ما هو مناف لجوهر الصيام، بدءا من تجريده من سكونه في صخب الخيام الرمضانية، مروراً بشياطين الإنس وقيامها بالوكالة بدور شياطين الجن المصفدة، التي تتفنن  باختزال حكمة مشروعية الصيام في زينة رمضان، ومسلسل رمضان وموائد رمضان.

وما يحدث فسَّر لي الدافع لفتاة من إحدى دول الغرب تقطن في دولة خليجية، كي تظهر على منصة اجتماعية لتقول بفيديو مصور لها: “على الرغم من أنني لست مسلمة فإنَّ رمضان أحب أشهر السنة لدي، لأجواء السهر بالخيام الرمضانية”! والحقيقة أنني  لم أرَ ما قالته أمرا مستهجنا، بل إن ما قالته جعلني أضرب كفا بكف على الصورة المختزلة في ذهنها عن رمضان، وكان من الواضح أن ما نشرته على صفحتها قد حصل على عشرات آلاف المشاهدات من أخوة مسلمين، وكانت تعليقاتهم تنم عن تفاعلهم الإيجابي لما قالته، معتقدين أنَّ هذا يندرج تحت بند التسامح الديني ومناهضة ازدراء الأديان! لكن الأمر للمتمعن في حقائق الأشياء ليس كذلك، ومع أن حديثها – من وجهة نظر الكل- كان عفويا، فإنني خجلت مما قالته لأنه يبرهن على أنَّ المؤامرة في هذا المشهد لم تكن نظرية كما كنا نعتقد، بل إن الخطة التي سعى لها الغرب قد نجحت في اختزال العبادات – وشهر رمضان نموذج- في مائدة وخيمة مزركشة ومزينة بعدد من الأهلَّة.

ولعلي أستذكر في هذا السياق ما كان يتحدث به خبراء وعلماء الاجتماع عن الحرب في أنَّ أجيال الحروب أربعة: القتال بالسلاح الأبيض، القتال بالأسلحة النارية، القتال بالسلاح النووي بدون مواجهة، والسلاح الرابع أن تترك عدوك يحارب نفسه بنفسه باستخدام الطابور الخامس، وباستثمار الصراعات الفكرية والدينية وتأجيجها بسبب ضعف العقيدة، وترهيب المسلمين من إسلامهم، وتشكيك الجيل بمبادئ دينه عند تغليب الترهيب على الترغيب، والتعصب الأعمى على الوسطية، والبدعة على السنة، التي بات أعداء الدين ينعتونها بالتشدد.

هذا الأمر لم يعد سراً، بل بات واضحا وضوح الشمس في كبد السماء، فمع اقتراب رمضان في كل عام، يبدأ سباق المغرضين ممن تُظهِر شهادات ميلادهم أنهم مسلمون على الورق، لرمي سهامهم المسمومة وتوجيهها إلى عقول المسلمين من خلال قنواتهم التي تعاقدت مع الشيطان طيلة شهر رمضان لبث الغث، لتزيد الهُوة بين عقل وقلب كل من أراد أن يفتح صفحة جديدة في مسيرة حياته، معاهدا الله على سلك طريق النور متخذاً من رمضان نقطة الانطلاق، سيما وأنَّ ما يعرض في رمضان تبثه أشهر القنوات الفضائية، خاصة ذائعة الصيت تلك، لإلهاء فئة لا تزال تحبو نحو دينها، وتسير على حبل يصل بين جبلين شاهقي العلو، وهي تحتاج إلى ما يعينها على الطاعة والفضيلة لا المعصية وطاعة الشيطان.. وتكتمل سلسلة الفتنة بالخيمة الرمضانية، وكل مافيها من طرب ومجون مستمر حتى أذان الفجر، تحت بند “سلِّ صيامك”؛ فالخيمة هذه لا تحمل من رمضان سوى الاسم، وهو البريء منها وممن ألصق به هذه المظاهر حتى قيام الساعة.

وقبل الختام، من الضرورة بمكان الإشارة إلى ما أفتى به علي جمعة، مفتي مصر السابق وعضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف، في أحد البرامج التي جمعته بعدد من الأطفال للرد على أسئلة، لا ندري أهي من الأطفال بالفعل أم من الإعداد أمام إجاباته المسمومة، وفي ردوده قال “إنَّ الجنة ليست حكراً على المسلمين”، كما وأباح العلاقات العاطفية بين الذكور والإناث دون ضوابط!. إنه لأحد وجوه تمييع الإسلام، ودلالة على التأثر بفكر الغرب الهدام، فبين هذا وذاك ضُيّعت أكثر الواجبات واتُّبعت الشهوات، وفُرّغت العبادات من قيمتها، وزاد الطلب على الدنيا والتعلق بها مع تناسي هاذم اللذات، فكانت النتيجة أن تسلط أعداء الدين من الكفار والمنافقين على المسلمين.. قال صلى الله عليه وسلم: “يوشِكُ الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها”، فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل! ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن”، فقال قائل: يا رسول الله وما الوهن؟ قال صلوات الله وسلامه عليه: “حب الدنيا وكراهية الموت”.

ختـامـا

قال أمير المؤمنين عمر الفاروق رضي الله عنه: “إنا كنا أذلَّ قوم، فأعزنا الله بالإسلام، فمهما نطلب العزة بغير ما أعزنا الله به أذلَّنا الله”، ما يعني أنَّ التمسك بالدين والتعلق بهدي النبي صلوات الله وسلامه عليه رفع  من شأن السابقين وأعلى من مكانتهم، وتوالت عليهم الفتوحات وازدادت الانتصارات وهابهم أعداء الدين، لكن مع مرور الأعوام وانقضاء خير القرون، بدأ الضعف والهوان يدخل ويتغلغل في دول المسلمين رغم كثرتهم بسبب البعد عن الدين والتمسك بالبدع والمحدثات، التي أصبحت ذات مذاق سائغ عند من ظن أنه سينال العزة بدون الإسلام.

2 التعليقات

  1. HUSSAIN MOHD

    أصبتي يا أستاذتنا مقال أكثر من رائع كالمعتاد

    الرد
  2. Lady Gaga

    كاتبتنا العزيزة
    أصاب قلمك كبد الحقيقة ، و أدمى قلوبنا حسرة على ما آلت عليه أمتنا .
    انشغلنا بالدنيا عن الآخرة ، باللعب عن الطاعات ، و أخذنا طول الأمل بعيداً جدا عن تحقيق الغاية و الأصل مو وجودنا .
    هي جريمة كبيرة و تم التخطيط لها منذ سنوات ، لقد غزى الغرب حياتنا بكل قوة و دخل في أدق تفاصيل حياتنا ، تغيرت المفاهيم و المعتقدات و أصبحنا أمة مسخ تنتظر المزيد من التشويه على أمل ارضاء سادتنا من الغرب ، فقدنا هويتنا و لم و لن نرضيهم .. كما قال الله تعالى( وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) .
    والأهم من كل هذا بأننا خسرنا أنفسنا و خسرنا رضا الله عز وجل .. و هذا السبب الرئيسي في تأخر النصر .أسأل الله أن يطهر قلوبنا و يعيد لنا أمتنا الإسلامية التي لا تُقهر .

    الرد

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من...

قراءة المزيد
Loading...