سياحة الروح وسؤال الوجود

بواسطة | يناير 14, 2024

بواسطة | يناير 14, 2024

سياحة الروح وسؤال الوجود

يستعرض المقال تجربة الكاتب في ولاية كيلينتان الماليزية، مبرزًا تعايش الشعب الماليزي والتحديات التي تواجه فكر النهضة في ظل القيم الإسلامية.

بين التعايش والنهضة الإسلامية

قمت قبيل صلاة الفجر متحفزاً، رغم أني كنت أظن أنه ستصعب عليَّ المبادرة بما جال في ذهني ليلة قدومي لكلينتان، إحدى أهم الولايات الماليزية ذات الأغلبية المطلقة للمالايو في الدولة، وهي ذات سمت ديني قديم ويحكمها الحزب الإسلامي، الذي أُنشئ في عهده تمثال ضخم لـ (بوذا الجالس) مراعاة لشركائهم في الوطن، رغم أنهم أقلية صغيرة.. حجم التمثال كان ضخماً بحيث يُقلق بعض المسلمين، خشيةً من تحوله إلى صورة ذهنية مستقبلية، تُستخدم ضد مسلمي الملايو، كما جرى في الهند في مذابح حزب مودي؛ وليست المعارضة هنا مطلقاً لإنشاء المعابد ودور الصلوات البوذية لسكان المنطقة الأقدمين، ولسنا في وارد مناقشة هذه المسألة.

تعايش الأديان في ذات الإنسان الماليزي

لكن ما يعنينا هنا هو مفهوم التعايش، الذي يسري في ذات الإنسان الماليزي، فيتكرر في موقف الحزب الإسلامي المحافظ الذي يُراعي الجوار التايلندي، وحقيقة أن هذه الثقافة – بغض النظر عن التماثيل والموقف الشرعي المتحفظ- تُشكِّل ظاهرةً سلوكية تقديرية عالية في إنسانيتها، في زمن انهارت فيه مبادئ دول عديدة في الشرق والغرب، توحشت لديها العنصريات، وأُسقطت قيم الدولة المدنية الحديثة، فانتكس نموذج الحداثة الرافض للروح، وتحول إلى غول عنصري غالبُ ضحاياه من المسلمين. كما أن مهرجانات الكراهية والعنصرية، تمارس أيضا من دول مسلمة، وقد بدأت بلغة الخطاب والاستعلاء والاحتقار، ووصلت حتى التصفية الدموية.. فماليزيا اليوم قلعة تعايُش يُمثّل صمودها حالة نادرة في التاريخ الاجتماعي الحديث، تُطمر في معاهد الغرب وقراءة الحضارة المقارنة.

المساجد والتراث

وصلتُ كوتا بهارو عاصمة الولاية، وفي المطار البسيط بدأت الفكرة تتشكل عن كيلينتان، وخاصة في ضعفها التنموي.. وكعادته كان الصديق العزيز، الشيخ زيدي بن حسين، قرب الفندق مقر إقامتي؛ ومع روحه الجزلة بالحفاوة مثّلت علاقاته المتوازنة جسراً حيوياً لتنظيم لقاءاتي في كيلينتان، لكن المبتدأ دوماً يتجه إلى المساجد، وحيث مصطلح “دار الإسلام” منطبع في مدن أمم الملايو.

اصطحب الشيخ زيدي معه الشيخَ فوزان، الباحث الشرعي في مكتب مفتي كيلينتان، فكانت الفقرة الأولى – وقد حلّ وقت صلاة المغرب- المسجدَ الكبير في العاصمة كوتا بهارو؛ ومنذُ أقبلتُ عليه شعرتُ بمفهوم عالمية الإسلام، في الاندماج مع الجغرافيا الاجتماعية لشعوب الأرض، وحين زرتُ مع الشيخ زيدي مسجد كامبونج التاريخي – وهو أقدم مسجد في ماليزيا- رأيتُ كيف صُمّم مبناه الخشبي الجميل منذ مئات السنين، كما نراه من مبانٍ في تاريخ الصين والشرق الآسيوي القديم.. هذا المسجد، ومِثله شقيقه في جاوا أندونيسيا، مثّل خارطة تواصل للأمم المالاوية، وبُنيت أسقفُهُ ونُصبت أعمدته بمساهمة الفيلة، حيث كانت تُساس لحمل الأخشاب وتثبيتها، وهناك في لوحة المسجد شرح مفصل لتاريخ البناء، ورحلة النهر الذي يصل كلينتان ببقية أرخبيل الملايو.

دخلتُ مسجد (محمدي)، ومحمد صلى الله عليه وسلم يكادُ حضور اسمه أو صفته يكون في كل زاوية وتوقيع، في تعريف الهوية الاجتماعية لمسلمي شرق آسيا؛ فكان المسجد كالحرم الصغير، وهو يمثل معهداً شرعياً تقليدياً، من خلال كم الدروس والحلقات، حيث يتقاطر عليه الشباب وكبار السن، فكان مبهجاً في حضور الناس وفي هندسته الداخلية.

تحديات النهضة الإسلامية والبُعد الروحي

ووقفتُ مع الشيخ زيدي و د. فوزان على موقع الطبل الكبير، الذي كان يتدلى في أحد زوايا المسجد، وكان سدنة المسجد يستخدمونه للدعوة لبعض الصلوات أو المناسبات، حيث كان الأذان في العهود القديمة لا يصل إلى مساحة كبيرة، وخاصة أن كوتا بهارو محاطة بالغابات والسواحل، ولذلك يُقرع الطبل أيضاً كإنذار للفيضانات، ويؤكد هذا المعنى البسيط قوة الاشتباك الاجتماعي، وعبور نموذج الفطرة الإسلامي لأمم الأرض.

ولذلك، حين عدتُ للفندق سألتُ طاقمه الخلوق عن مسجد قريب، فقالوا إن لديهم باص نقل صغير لصلاة الفجر، فسارعتُ إلى الوضوء والخروج إلى المسجد المحمدي، قال لي السائق “إنها تمطر سيدي، ولدينا مظلة تقيك المطر ويمكنك إعادتها بعد استخدامها”، والمطر هناك صديق دائم، قلتُ “لا.. شكراً، لا بأس لو غشينا بعض القَطْرِ الخفيف من السماء”، وكانت موجة المطر الشديد قد توقفت، فخرجتُ وشعرتُ بهالة من النور حولي وعلى مد بصري.. دخلتُ قبل الأذان، فلم أكن أمشي بخُطاي، لكن روحي التي استشعرَت الضوء السماوي حملتني، نودي بالأذان في نخبة من العمائم الأزهرية، وتتابعت الصفوف فكنتُ أعيشُ اللحظة وأرتفع بها، ولم أكن أجدُ سياحة أجمل منها.

يقولون إن الدين، أيّ دين – حتى الطقوس التي ينصبها الإنسان لذاته- قد يُسعِد المرء روحياً حين يسكن إليه، بسبب أن أصل خلقته نشأت في حضن الروح لا العدمية المصمتة؛ ولذلك يُقرُّ الوجوديون بالعجز أمام سؤال الروح، ويرفض الفلاسفة الأخلاقيون مرجعية المادة الصلبة للإنسان، فلا يوجد مطلقاً لهذه النزعة تفسير مادي، يصمد علمياً. لكن الفارق هنا أن روح البعث الإسلامي وترانيم صحفه ليست عارضاً مؤقتاً، تلتمسه كل روح تعبت من صلف المادية، ولكنهُ فيضٌ من نور يسعى بين القلب والجسد، فتطمئن به الأركان وتستقر به الحياة وتَهدي الذات إلى النجاة، وكلما تقدَّمتَ في رواق الروح الممتد، الذي ينطلق من صدرك إلى قداس السماء، اقتربتَ من الحقيقة، واستشعرتَ سعادة لا يملكها أثرياء العالم.. هنا الفارق لنداء الروح في الإسلام، كما أُحدّث به أبنائي وبناتي من شباب الشك، فهو نور ثابت رشيد يملأ حياتك، وليس لحظة أنس عابرة تعود بعدها إلى التيه، وقد يسقط عليك سقف الحياة المادية خلال الحيرة القاتلة.

المفهوم الإسلامي للعمران ومستقبل المجتمعات المسلمة

نعم، إن للحياة سعي ضرورات بين أمور الدنيا واحتياجاتها، لذلك زجر عُمَر ذلك الشابَّ المتعبِّد بالنية المعطِّلة لجوارحه في طلب الرزق، فقال: “قم، إن السماء لا تمطر ذهباً، والأرض لا تنبت فضة”. فاحمل فأس العمران تجد الرزق، وإن الشعوب أيضا تجد النجاحَ بفكرة السعي وفق سنن الله في كونه؛ وهنا مفصل مهم أكدَته لي زيارة كيلينتان وهو في الجدل الكبير اليوم، بشأن علاقة الفلسفة الإسلامية ومفهوم النهضة فيها مع معنى العمران المعطل، في ظل ثنائية متناقضة.. بين تقليد الغرب، وبين حالة الانغماس الجديدة في استدعاء التراث ورفض أدوات التنظيم العمراني للعدالة السياسية الاجتماعية.

 واعتقاد البعض أن الحل بالعودة إلى التراث والدوران فيه، لا في مقاصد الشريعة وحرث الأرض بها، هو ما أسميناه ظاهرة الردة عن فكر النهضة؛ فحيث كانت الحضارة الأخلاقية وجدنا الإسلام المحمدي الأصيل، لا النسخ المقلدة، فأين نحن اليوم من هذه الحقيقة؟!

كانت المفاجأة في دليل قوي من تجربة كيلينتان، قد يكون نموذجاً حزيناً، لكنه يأتي اليوم في عمق أزمة التقدم النهضوي في حياة المسلمين.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من...

قراءة المزيد
Loading...