صناعة الأصنام بالأقلام

بواسطة | أغسطس 16, 2023

بواسطة | أغسطس 16, 2023

صناعة الأصنام بالأقلام

خلال العقود السبعة الماضية، ظهرت أنظمة حكم قمعية شرسة هنا وهناك في العالم العربي، وواكب ذلك ظهور صحافة مدجنة تطبّل وتزمّر لرموز تلك الأنظمة، ثم جاءت ظاهرة الأعمدة الصحفية المفروشة بكلمات الملق الطنانة الرنانة، التي يتصاعد من ثناياها بخور يطرب له الحاكم بأمره، الذي يفوز بنسبة 99,9% من أصوات المواطنين، في انتخابات يخوضها الرئيس المفدى ضد نفسه، فقد استن بعض الرؤساء العرب ما أسموه بالاستفتاءات، لإضفاء قدر من الشرعية على حكمهم، وفيها يكون الناخب مطالبا بأن يقول (لا)  أو (نعم) لتجديد ولاية الرئيس في غياب أي منافسة؛ فكان مثلا أن فاز الرئيس السوري بشار الأسد بأصوات جميع الناخبين ما عدا 19 منهم في ذات استفتاء، ما يعني أن سوريا لم تشهد وفاة أحد من المقيدين في السجل الانتخابي عبر السنين، ولا منع المرض أو الإعاقة أكثر من 19 شخصا من الإدلاء بأصواتهم (طبعا لم يكن واردا تسجيل أن هؤلاء الـ 19 صوتوا بـ”لا”)
ظهر مصطلح عبادة الفرد/ الشخصية خلال المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفييتي، بعد أن آلت رئاسة الدولة لنيكيتا خرتشوف، خلفا للطاغية ستالين، الذي لم يرحم خصوم الحزب ولا أنصاره، وصار المصطلح يعني التملق والتطبيل المفرط لرأس الدولة في النظام الشمولي وصولا إلى تأليهه؛ ويكون ذلك باستخدام قوة اللوبي الإعلامي ووسائل الدعاية (البروباغندا)، والتظاهرات والمسيرات والمواكب “الجماهيرية”، وقد برعت الأنظمة الشيوعية في مجال تقديس شخص القائد؛ ففي الصين كان ماو تسي دونغ يعتبر منزها عن الخطأ، وفي كوريا الشمالية ما زال مؤسس النظام الشيوعي فيها (كيم إيل سونغ) يعتبر- بأمر الحكومة- في مصاف الآلهة، وتسنم كرسي الرئاسة بعده ابنه كيم جونغ إيل، ثم رئيسها الحالي كيم جونغ أون، وهو حفيد المؤسس؛ وفي رومانيا حكم ليو تشاوتشيسكو ما بين 1965 و1989 بالحديد والنار، وكان تقديسه فرض عين على المواطنين.
وعلى الضفة الأخرى المناهضة للشيوعية كان هناك الديكتاتور فرانكو، الذي حكم إسبانيا من عام 1939 إلى عام 1975، صاعدا على جماجم عشرات الآلاف من مواطني بلده، وأضفى عليه الإعلام المنافق لقب (كوديو) أي (نعمة الله)؛ وفي إيطاليا أطلق الإعلام على الديكتاتور موسوليني لقب الدوتشي (القائد)، وجرت دماء الطليان في عهده (1922-1943) أنهارا، ثم قاد بلاده إلى الهزيمة في الحرب العالمية الثانية، وتم إعدامه بتعليقه في المقصلة مقلوبا، أي رأسه الى أسفل، باعتباره خائنا (منكس الرأس).
 ومعلوم أن الرئيس السوري بشار الأسد ورث كرسي الرئاسة عن والده في يوليو من عام 2000، وأدار الأمور بمثل قبضة والده الحديدية، ثم -اعتبارا من عام 2011- صار شمشون مثله الأعلى، وشرع يدك مدن وقرى سوريا، عملا بـمقولة “عليَّ وعلى أعدائي”، وكان الأسد الأب وزيرا للدفاع خلال حرب 1967، وقام بسحب الجيش السوري من هضبة الجولان بهدوء، قبل أن تطلق إسرائيل قذيفة واحدة في اتجاهه، ثم حكم سوريا لأكثر من ثلاثين سنة، وأضفى عليه الإعلام العربي لقب “بطل الصمود والتصدي”، دون أن يحدد كيف ولِمن تصدى وكيف صمد، وهو الذي وضع لبنان تحت الوصاية السورية، وهلهل نسيجه الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، وشق صفوف المقاومة الفلسطينية باحتضان قيادات مرتزقة “أبو موسى”، أنيطت بها مهمة تصفية قيادات من حركة فتح والجبهتين الشعبية والديمقراطية، مع التحذير من اللعب بالنار على جبهة الجولان.
وكان الإعلام العربي معجبا بالزعيم الليبي معمر القذافي (رغم أن كان زعامته كانت من باب: زعم يزعم)،  وكان الإعجاب بتصريحاته وخطبه، التي كان  يكتبها أشخاص من نفس طينة من يكتبون ما يحسبونه شعرا غنائيا لشعبان عبد الرحيم (شعبولا)، وكانت عبارته الأشهر “طز في أمريكا” واسعة التداول، باعتبار أنها تصدر عن قائد فذ، يملك الشجاعة لتحدي أمريكا، والغريب في الأمر أن القذافي هو الوحيد  من بين الثيران التي وقعت منذ عام 2011، الذي تكاثرت عليه السكاكين، أما الأصنام التي تهاوت قبل وبعد تلك السنة فلا يسبق اسم كل منها سوى كلمة (الراحل)، التي – في تقديري – لا تقال على استحياء، بل بكل قلة حيلة.
في مثل هذا يقول الشاعر اليمني، عبد العزيز المقالح:
ويخرج الأعراب من ليل إلى ليل
من صنم جاءت به المصادفات
نحو آخر جاءت به المؤامرات
والشعوب تحت وطأة الذهول
لا يشغلها سوى رص النعوش في الساحات
أو إطالة الإمعان في قوائم الضحايا.
يا للأسى!
ألم نعد نرى أنفسنا؟
هل جفت الأضواء في بلادنا
واختفت المرايا؟!.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من...

قراءة المزيد
Loading...