ضابط روسي في طرقات المدينة المنورة

بواسطة | مايو 7, 2023

بواسطة | مايو 7, 2023

ضابط روسي في طرقات المدينة المنورة

تعتبر الرحلات التي يقوم بها الرحالة بأطيافهم ومذاهبهم ومشاربهم مصدرا من مصادر دراسة التاريخ وتوثيقه، ولعل الوثيقة التي كتبها الضابط الروسي (دولتشين) أواخر القرن 19م، عن الوضع السياسي والعالمي في المدينة المنورة ومكة المكرمة، خلال فترة الحج 1898، مرآة مهمة في فهم طبيعة السكان والأحوال في ذلك الزمان، وخصوصا أحوال الروس المقيمين في الحجاز، من التتر والقرغيز وغيرهم.
وقد تسمى الضابط الروسي بــ (عبد العزيز)، لإيهام من يلقاه من عرب الحجاز وغيرهم،  بأنه مسلم من بلاد الروس، حتى يتسنى له دخول المنطقة المقدسة بكل يسر وسهولة، دون ممانعة من السلطات الحاكمة أنذاك. وقد تمت كتابة هذا التقرير، ثم نُشر بعد فترة طويلة من الزمن، كونه تقريرا سريا ذا طبيعة استخباراتية، في أواخر الحكم القيصري. وقد استفادت منه الثورة البلشفية بعد قيامها، لفهم الطبيعة العلاقاتية التي ستكون مع الديار الحجازية العربية لاحقا.

من ملاحظاته في مكة المكرمة، أن غالب البيوت في مكة في أواخر القرن 19م، قبيل ضم الحجاز إلى حكم الملك عبدالعزيز آل سعود، كانت من ثلاثة طوابق في غالبها، ويُجعل الدور السفلي مستودعا وممرا للهواء والتبريد

ولد عبد العزيز دولتشين في 24 يونيو 1861م، لعائلة تتمتع بنفوذ سياسي؛ حيث إن والده كان يشغل مناصب عليا في روسيا، وقد قاده ولعه باللغات العربية والتركية إلى أن تستفيد منه السلطات الروسية في تجنيده، بعد تخرجه من الكلية العسكرية، وأن يكون عينا للروس في بلاد الحجاز، لدراسة أحوال الجاليات الروسية في مكة والمدينة، من القرغيز والتتر وغيرهم.
ومن ملاحظاته في مكة المكرمة، أن غالب البيوت في مكة في أواخر القرن 19م، قبيل ضم الحجاز إلى حكم الملك عبدالعزيز آل سعود، كانت من ثلاثة طوابق في غالبها، ويُجعل الدور السفلي مستودعا وممرا للهواء والتبريد، ولهم فناء (حوش) يجلسون فيه ويتحادثون، وكانت النوافذ بلا زجاج. وكان في مكة الكثير من (التكيات) للقوميات الروسية في مكة، وكذلك تكيات لقوميات أخرى، كالهنود والأفغان والماليزيين وغيرهم.
وعند حديثه عن التعليم في مكة المكرمة، ذكر بشكل سلبي  اقتصار التعليم على القراءة والكتابة والعلوم الشرعية الدينية فقط؛ فلم يكن لأهل مكة في بداية القرن الـ 20 الميلادي اهتمام بالفلسفة والعلوم الطبيعية والفكرية واللغات، وغلبت على سكانها الأمية، وكانوا يتبعون المذهب السني.
أما الطرقات فكانت مرتعا للكلاب الضالة والمشردة، ولم يكن فيها شوارع مرصوفة، ولا وجود للرش والإنارة، إلا إذا قام أحد السكان المحليين في مكة بالقيام بذلك، ووضع المصابيح أمام بيته.

ذكر وجود شوارع رئيسة في المدينة، مليئة بالدكاكين والمحلات التجارية، التي تبيع البضائع المتنوعة؛ وقد كانت الشوارع مرصوفة، والإنارات معلقة في الزوايا والجدران، وهذا جعل المدينة متفوقة على مكة من حيث تنظيم البنية التحتية.

أما عن المدينة المنورة، فقد أكثر دو لتشين من ذكرها، وجعل له النصيب الأوفر من التوثيق، فذكر أنها شملت أجناسا وأخلاطا من البشر على دوام العام، على غير حال مكة التي كانت تنشط في مواسم الحج فقط.
فمن مرئياته عن المدينة، أنها كانت مطوقة بسور حجري تم بناؤه سنة 942 هــ/ 1535م، ثم تجديده بعد سقوط الدولة السعودية الأولى على يد إبراهيم باشا، بإشراف من السلطة العثمانية آنذاك؛ وجُعلت له أبراج وزوايا، وأربع بوابات تنظم حركة الدخول والخروج لزوار المدينة المنورة.
وذكر وجود شوارع رئيسة في المدينة، مليئة بالدكاكين والمحلات التجارية، التي تبيع البضائع المتنوعة؛ وقد كانت الشوارع مرصوفة، والإنارات معلقة في الزوايا والجدران، وهذا جعل المدينة متفوقة على مكة من حيث تنظيم البنية التحتية. ولا تتميز بيوت المدينة بوجود (الأحواش) والفناءات التي يُجلس فيها، وإنما جعلت الطوابق السفلية ومداخل البيوت ممرات لمجرى الهواء والتبريد فقط.

يقول أيضا عن سكان المدينة: إن العرب الذين فيها بشوشون مبتسمون ودودون مضيافون، مستعدون لتقديم العون والمساعدة للغرباء، فهم بذلك ألطف من سكان مكة، الذين ليس لديهم هذا الود الكبير مثل أهل المدينة.

وذكر الضابط الروسي أسبابا لتفوق المدينة على مكة في البنية التحتية، ومنها أسباب عجيبة مثل القرار الذي اتخذته السلطات المحلية في المدينة، بمنع دخول (الجمال) إلى المدينة، وكذلك الحمير والبغال؛ وقد خُصص لها مستودع خارج المدينة، تحت إشراف السلطات.
ويقول أيضا عن سكان المدينة: إن العرب الذين فيها بشوشون مبتسمون ودودون مضيافون، مستعدون لتقديم العون والمساعدة للغرباء، فهم بذلك ألطف من سكان مكة، الذين ليس لديهم هذا الود الكبير مثل أهل المدينة. ولعل هذا -كما يقول المؤلف- لما ورد في التراث الإسلامي من وجود بركة نبوية، ما زالت تشمل أهل المدينة وسكانها.
وعن العائلات الروسية، التي سكنت المدينة في أوائل القرن 20م، ذكر أنها كانت 31 عائلة روسية، وغالبهم يعملون في خدمة الحجاج والمعتمرين والزائرين للمدينة المقدسة.  
كُتب هذا التقرير بما يحتويه من انتقاص للإسلام والمسلمين، وبإشادته أحيانا بما لديهم من تعاملات وسلوكيات في الحجاز. ونُشر الكتاب بعنوان (الحج قبل مئة عام)، في بيروت سنة 1993م، وما ذلك إلا لانتهاء سريته، بعد أن مر على توثيقه عدة عقود من الزمن.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من...

قراءة المزيد
Loading...