على أطلال الديمقراطية

بقلم: د. جاسم الجزاع

| 27 أغسطس, 2023

بقلم: د. جاسم الجزاع

| 27 أغسطس, 2023

على أطلال الديمقراطية

لقد ناضلت الشعوب قديما وحديثا من أجل الوصول إلى تحكيم مرادها ورغباتها، فذلك مطلب شعبي على مر التاريخ والأزمان؛ فكان أن وجد الناس في الديمقراطية ملاذهم، لأنها استطاعت أن تحقق الرفاهية لكثير من الشعوب، وأقرت العديد من الحقوق، فأقبلت عليها تلك الشعوب، ولم يعد من اليسير أن تتخلى عنها، بل قاومت من حاول أن ينتزعها منها!. ومن هنا ينشأ بعد هذا الطرح تساؤل هو الآتي: هل فقدت الديمقراطية رونقها وجاذبيتها؟.
الديمقراطية هي حكم الشعب لنفسه من خلال اختيار ممثلين للشعب عن طريق الانتخاب؛ وقد عرَّفها الدكتور طه حسين بأنها: “مظهر من مظاهر الحياة السياسية، ولون من ألوان الحكم، ونوع من أنواع النظم، يجعل الحكم للشعب، يختار الشعب لنفسه وبنفسه من يحكمه”.
ويرجع منشأ الديمقراطية في العالم إلى مدينة (أثينا) ببلاد اليونان، وكان ذلك في القرن الخامس (ق.م.)؛ فقد مارست شعوب أثينا الديمقراطية المباشرة، وذلك عن طريق قيام مواطنيها -باستثناء النساء والعبيد- بتنظيم أنفسهم في جمعية، فوضعوا القوانين واختاروا الحكام. وبعد عدة قرون بدأت تتشكل الديمقراطية التمثيلية؛ حيث ينتخب الشعب ممثلين عنه لاتخاذ القرارات، وهذه الديمقراطية تعرف بالديمقراطية النيابية؛ ثم تطورت الديمقراطية تطورا كبيرا مع ظهور عصر النهضة في أوربا.
مما لاشك فيه أن أي نظام سياسي له مميزاته وعيوبه، وهذا الكلام ينطبق على الديمقراطية أيضا، ولذلك قيل عنها: “إن لها أنيابا ومخالب، وإنها قد تكون أشرس من الديكتاتورية!.”.
 إن من مميزات الديمقراطية أنها تجعل الحكام تحت المجهر، يقومون بمسؤولياتهم ويؤدون واجباتهم أمام المحكومين، أما المحكومون فيحصلون على كافة حقوقهم، مثل حرية التعبير والرأي، وتكوين الجمعيات وحرية التنقل، وغيرها من الحقوق والمصالح التي تزيد في رفاهيتهم؛ وانطلاقا من الشعور بالمسؤولية فإن الحكام يبذلون قصارى جهدهم أمام الشعب خوفا من المحاسبة والمراقبة، ولضمان إعادة انتخابهم.
كما أن من الممكن في النظم الديمقراطية تغيير الحكام، والقوانين، والدساتير، بما يتوافق مع حالة الشعب ومصالحه وطموحاته وزمانه، وكل ذلك يتم بالطرق السلمية من خلال الاستفتاء أو الاقتراع، دون اللجوء إلى المظاهرات أو الثورات أو العنف، فالديمقراطية نظام يحقق السلم والأمن في الداخل والخارج، ويؤدي إلى استقرار المجتمع ونموه وتطوره، وبالتالي يتم تجديد قوة المجتمع دون حدوث أي اضطراب في نظام الحكم.
والديمقراطية تقوم على الحوار والمناقشة، والأخذ والرد والإقناع، ومداولة ومراجعة الآراء والمشاريع، وهذا المناخ يسمح بظهور الكفاءات والكوادر البشرية التي تتيح لها الديمقراطية الوصول إلى المناصب المهمة في البلاد، وفي اتجاه مغاير للدكتاتورية التي تقوم على الاستبداد وعدم تشجيع الآراء، وإغلاق الباب أمام الشعب لمنعه من المشاركة في الحكم تنفيذا واقتراحا.
والناظر للديمقراطية يجد أن جوهرها يتفق مع جوهر الإسلام؛ فالديمقراطية يقوم جوهرها على أن يختار الناس من يحكمهم، وألا يُفرض عليهم حاكم يكرهونه، وأن يكون لهم الحق في محاسبة الحكام إذا أخطأوا وعزلهم إذا انحرفوا؛ وجوهر الإسلام يؤكد أيضا على ضرورة اختيار الناس من يحكمهم، وألا يُفرض عليهم حاكم يكرهونه، وأن الحاكم في الإسلام مسؤول أمام الناس، وخاصة أمام النخب الفاعلة، وهم أهل الشورى وأهل الحل والعقد، فإذا اجتمع أهل الشورى على رأي كان لزاما على السلطان ألا يخالفهم في ذلك.
ولكن دعونا نقر بأن منظومة الديمقراطية منظومة بشرية، ومنهاج قاصر يعتريه ما يعتري البشر من النقائص، فمن عيوب الديمقراطية أنها غير مقيدة بأي أصل من الأصول، وغير ملتزمة بالقيم والمبادئ، فليس لها أي مرجعية أخلاقية أو قيمية؛ إذ تستطيع الديمقراطية عن طريق النظام النيابي، والذي ينوب فيه نواب منتخبون عن الأمة (ممثلو الشعب) أن تُقرر كل ما يريده الشعب، حتى لو اشتمل على الأمور المنافية للمعتقدات والقيم والأخلاق ومنظومة العادات والتقاليد، وقد تكون مصادمة لتشريعات شرعية ثابتة، لمجرد أن الديمقراطية قادرة على أن تُحرم الحلال وتُحلَّ الحرام بطلب من أغلبية الشعب فقط. ولذلك قيل عن البرلمان الإنجليزي: إنه يستطيع أن يقرر أي شيء وكل شيء.
في أمريكا أباحت الديمقراطية شرب الخمر، والقوانين الهادمة لثبات العائلة، وزواج الرجال بالرجال والنساء بالنساء، كما أباحت الربا والاحتكار ومساوئ الممارسات الاقتصادية ذات النفعية الخاصة الحادة، ولذلك تمكنت أقلية من خلق نفوذ وثروة على حساب الطبقات الفقيرة في المجتمع، كما سمحت بالآراء الإلحادية والمنافية للأطروحات السماوية والمثل العليا، وأباحت الانحلال الخلقي والأفكار الهدامة وانتشار المادية والشذوذ المحض.
فالتشريع في النظام الديمقراطي هو تشريع بشري؛ إذ السيادة في التشريع للشعب والأمة، والإنسان في النظرة الغربية هو سيد الكون، أما في الشورى الإسلامية فإن السيادة في التشريع هي لله سبحانه وتعالى، والإنسان في نظام الشورى الإسلامي له سلطة الاجتهاد فقط فيما لم ينزل به شرع سماوي، شريطة أن يكون محكوما بإطار الحلال والحرام، فالله سبحانه وتعالى في النظرة الإسلامية هو سيد الكون وله الخلق والأمر؛ قال تعالى: ﴿ألا له الخلق والأمر﴾ (الأعراف:54). أما الإنسان فهو خليفة هذا السيد، وهذا الخليفة محكوم بالشريعة الإسلامية.
ومن عيوبها، أي الديمقراطية، أن الانتخابات في النظام الديمقراطي قد تُخترَق بالمال السياسي وشراء الذمم، وخداع الجماهير وإثارة العنصرية بينهم، والسعي إلى كسب الأصوات بالنغمة العنصرية والفئوية والمصلحية، دون النظر إلى سواسية الناس، ودون اهتمام بإيصال الكفاءات التي تخدم مستقبل تلك الأوطان؛ كما أن كثرة الانتخابات قد تؤدي إلى عدم استقرار الحكومات، وصعوبة تنفيذ جميع خطط التنمية، ما يؤثر على مشاريع التنمية وخاصة المشاريع المستدامة التي قد تحتاج إلى حكومات مستقرة. كما أن قِصر مدة وجود الوزراء وكبار الموظفين في مناصبهم قد يدفعهم إلى استغلال السلطة للحصول على الثراء والكسب السريع، ومن ناحية أخرى قد يحول بينهم وبين تحقيق طموحاتهم التنموية في حالة الرغبة في ذلك.
 ومن عيوب الديمقراطية قلة المشاركين في الانتخابات، وضعف ثقة الناس بالمخرجات بشكل عام، وهذا الإقبال المنخفض من الناخبين يؤدي إلى التشكيك في شرعية الحكومات المنتخبة، فتكون بعض المجالس النيابية مجالس مستبدة. وقد يصيب بعض الناخبين العجز عن اختيار أفضل المرشحين لينوبوا عنهم في أمور الحكم، لقلة إدراكهم أو ضعف مرشحيهم، لذلك قد تأتي الانتخابات برجال ليسوا على درجة عالية من الكفاءة، أو قد تأتي بمجموعة فوضوية ساذجة ليس لها دراية بشؤون الحكم والسياسة.
لذلك أقول إن الديمقراطية قد تصلح في زمان ولا تصلح في زمان آخر، وقد تفيد شعبا بينما لا يستفيد منها شعب آخر، وقد تنجح في بعض البلاد وتفشل في بلاد أخرى؛ فمما لا شك فيه أن الديمقراطية تحتاج إلى بيئة سياسية ملائمة، وتحتاج إلى أفراد يتمتعون بدرجة عالية من التعليم والثقافة والوعي السياسي والحس الوطني، حتى يستطيعوا التمييز بين الناخبين من حيث برامجهم الانتخابية، وأهدافهم السياسية والأيديولوجية؛ لذلك تحتاج الجماهير إلى الثقافة والتوعية، وهنا يأتي دور مؤسسات المجتمع المدني والإعلام والصحافة الحرة في توعية وتثقيف الجماهير.
ومن مساوئ الديمقراطية أحيانا أنها قد تؤدي إلى انقسام البلاد إلى فئات، وجماعات، وأحزاب، ما يؤدي إلى زيادة التناحر والأحقاد والانقسامات، وهذا بدوره يؤدي إلى حدوث تصدع في جدار الوحدة الوطنية للبلاد. وتطبيق الديمقراطية في بلاد غير مؤهلة للديمقراطية، ومع أفراد غير مؤهلين للممارسة الديمقراطية، قد يؤدي إلى زيادة التمرد على السلطة الحاكمة طالما ضعف الرادع، وتحرر الإنسان من القيود.
وفي النظام الديمقراطي قد يغيب مبدأ الفصل بين السلطات الثلاثة: التشريعية، والتنفيذية، والقضائية، وذلك بسبب سيطرة من يكون في سدة الحكم على البرلمان، وحدوث تقارب بين السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية، وخضوع السلطة التشريعية لهيمنة السلطة التنفيذية.
وختاما أقول: إن الديمقراطية لها ما لها وعليها ما عليها، وعلينا أن نقتبس منها مع ما يتفق مع منظومتنا الحكمية والفكرية والعقائدية والشعبوية، وننطلق منها لإحياء المنظومة السياسية العربية الإسلامية القائمة على الشورى في الحكم والرشد في اتخاذ القرارات.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

مع الهمجية ضد التمدن

مع الهمجية ضد التمدن

يراوح روسو نظرته النقدية الصارمة للتمدن مقابل التبسط، والفلاحة والريف مقابل التجارة والصناعة، وهكذا يُثني على قصة شعوب أوروبا البسيطة القديمة، بناء على مخالفتها للمدنية التي تحدث عنها في إميل، ولا بد من ربط رؤاه هنا، لوضع نموذج الشعب البسيط غير المثقف، في السياق...

قراءة المزيد
الطّفلُ المرعوب.. الجَمِيع يُشاهِدون

الطّفلُ المرعوب.. الجَمِيع يُشاهِدون

بجسدٍ نحيل، لطفلٍ لم يتعرّف إليه أحد، وببنطالٍ لا يُعرَف له لون لأنّ الطّين غَطّاه كُلَّه، وبجسدٍ عارٍ حال لونُه الطّبيعيّ إلى اللّون المُعفّر، وفي شارعٍ مُجَرّف جرى فيه صوتُ الرّصاص والقذائف فحوّله إلى خطٍّ ترابيّ تتوزّع عليها بقايا أبنيةٍ أو محلاّتٍ مُهدّمة، رفع...

قراءة المزيد
أطفال غزة يصافحون الموت

أطفال غزة يصافحون الموت

إنَّ الحرب الجائرة على سكان قطاع غزة لم تخلق أزمة إنسانية فحسب، بل أطلقت العنان أيضا لدوامة من البؤس الإنساني، الذي يدفع فاتورته بصورة يومية أطفال غزة الأموات مع وقف التنفيذ.. فإسرائيل في عملياتها العسكرية- جوية كانت أم برية- في قطاع غزة والضفة الغربية لا تستثني...

قراءة المزيد
Loading...