على مفترق طرق

بواسطة | مايو 17, 2024

بواسطة | مايو 17, 2024

على مفترق طرق

“احترزوا من الأنبياء الكذبة الذين يأتونكم بثياب الحملان، لكنهم من الداخل ذئاب خاطفة، من ثمارهم تعرفونهم..”

شكلت هذه العبارة التي تُنسب إلى المسيح عيسى عليه السلام جزءًا من الحصانة التي أمضي بها في الحياة، هناك لا ريب من يُبطِن عكس ما يُظهر، ولا يحق لي أن أجزع كلما قابلت أحدهم، أو أن أُضيع وقتي في الشكوى والتذمر؛ خصوصًا وأنه – عليه السلام- أوضح لنا طريقة يمكننا من خلالها أن نكشف مثل هؤلاء، وهي ثمارهم التي لا ريب ستنبت مع الوقت، وتظهر في سلوك وأفعال تنبئ عن حقيقتهم المخبوءة.

بيد أن هناك إشكالية أخرى ظهرت لي، معضلة توقَّف ذهني لبعض الوقت في محاولة لفهمها واستيعابها، وهي مشكلة هؤلاء الأمناء الشرفاء الشجعان، الذين قضوا من أعمارهم شطرًا غير هيِّن في تسويق أنفسهم كأصحاب فضائل، ثم نراهم فجأة يبيعون كل ماضيهم ويسيرون في عكس الاتجاه!.

نعم أتعجب – وحق لمثلي العجب- إذ أرى الأمين يخون، والشجاع يجبن، والصادق يكذب.. لماذا ضرب هؤلاء صفحًا عن فضائلهم السابقة، واختاروا لأنفسهم طريقا آخر؟!. وتزيد حيرتي إذ يرفض عقلي فكرة الكذب أو الرياء، هؤلاء بلا شك لم يراؤوا الناس بفضائلهم، إنهم ليسوا من طائفة “الأنبياء الكذبة”، فثمارهم طوال أعمارهم  تنبئ عن أصالة، وقناعة بما يحملون، وصدق في توكيد ما يدعون إليه، وبعضهم دفع ثمنًا قد يجبن أحدنا عن دفعه في سبيل الدفاع عن المبدأ الذي نكص عنه اليوم وصار معاديا له! فما الذي حدث؟!.

غالب الظن أن القضية كلها تكمن في أمرين ..

أما الأول فهو الفارق الكبير بين الرجل الشريف والرجل الذي يتحلى بالشرف!. بين من تصبح القيم هي دمه وروحه وجوهر وجوده، وبين من يرى ثمة ميزات في القيم فيختار أن يكون فاضلًا ليجنيها.. الفارق بين من يتعامل مع الفضائل كوسيلة مواصلات جيدة، يركبها حين يحتاج إليها وينزل عنها حينما يجد وسيلة أخرى أكثر ملاءمة، وبين من كانت الفضيلة هي قدمه، تمضي به في ثبات نحو ما قرر وأراد.

هذه الفرضية تضعنا أمام فكرة قد تبدو غريبة نوعا ما، وهي أن إنسانًا قد يحارب مناصرًا قضية ليست قضيته الحقيقية، هو فقط مُعجب بها، أو قد يجد التقدير والثناء من الناس حينما يدافع عنها، فيطيب له الاستمرار فيها.. لكن صاحبنا في لحظة ما – وغالبا ما تكون هذه اللحظة محورية وحاسمة- ينقلب على كل ماضيه! وما بين دهشة بعض الناس، وألم واستهجان ومهاجمة بعضهم الآخر، لا ينتبه الجميع إلى أن الرجل في حقيقته لم يكن منتميا للقضية بالشكل الكافي، كل ما في الأمر أنها قد راقت له ردحًا من الزمن، ثم انتهى الأمر!.

تأمل معي جيدًا نماذج عدة ممن انقلبوا على مبادئهم، وما أكثرهم حولنا الآن!. الصحفي، وعالم الدين، والسياسي، والمفكر، والأستاذ الجامعي، والقاضي.. نماذج لن يتعب ذهنك في استحضارها، ستجد أنها ناضلت كثيرًا وطويلًا من أجل الحق والحرية والكرامة، بينما هي اليوم لا تجد حرجًا في الدفاع عن عكس كل هذا. صدقني، بعض هؤلاء لم يكونوا كاذبين، كانوا مُعجبين بإعجابنا بهم.. ثم انتهى الأمر.

ذا تفسيري الأول.. أما تفسيري الثاني فيذهب إلى أن هؤلاء – أو بعضهم- كانوا عظماء، وشجعانًا، لأنهم لم يُختبروا ..!

نعم.. فكل البشر أمناء شرفاء صادقون حتى يُختبروا، وعند الاختبار يظهر المعدن الأصلي، تصبح الصورة أكثر وضوحًا. والاختبار قد يكون فتنة سراء أو ضراء، سوط جلاد أو شيكًّا على بياض، تهديدًا بالسجن أو وعدًا بكرسي وزارة.. المهم هنا أنه خاطب فيهم نقطة الضعف التي عاشوا دهرًا يخفونها عنّا.

قالوا قديما: “لا تحكم على طباع أحد حتى تجربة وقت الغضب”.. فحسن المعشر واللطف أمور يسيرة حال صفاء البال، لكنها بعيدة عن الرجل الغاضب، اللهم إلا إذا كان لديه من الانضباط والنضج الشيء الكثير. وعليه أقول: ولا تحكم على شخص حتى تراه حال الفتنة، فحينها يظهر المخبوء من الضمير.

بقي أن أقول ..

إننا لا نحكم على الناس بقدر ما نتعلم من دوران الدهر عليهم، وتبدل أحوالهم.. ولذا صار لزامًا علينا أن نعي جيدًا أهمية أن لا نحسن الظن في أنفسنا كثيرًا، أن يكون لدينا نوع من الخوف المحمود من أن تكسرنا فتنة فنبيع يومًا ما عشنا دهرًا نحارب من أجله، وأن علينا أيضًا أن نراجع صدق دوافعنا وحقيقة إيماننا بما ندعو إليه .

فإننا في زمن العجائب هذا.. لسنا في مأمن والله!.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من...

قراءة المزيد
Loading...