علي شريعتي.. سيرة سياسية لمعلم الثورة الإيرانية

بواسطة | ديسمبر 23, 2023

بواسطة | ديسمبر 23, 2023

علي شريعتي.. سيرة سياسية لمعلم الثورة الإيرانية

في مقالتي السابقة تحدثت عن مذكرات إحسان نراغي “من بلاط الشاه إلى سجون الثورة”، وأتوقف في هذه المقالة مع مثقف إيراني هو علي شريعتي، الذي اعتبره البعض الأب المنظِّر للثورة الإسلامية الإيرانية..

يستعرض هذا المقال حياة المفكر الإيراني علي شريعتي، الذي كان له دور بارز في الثورة الإسلامية الإيرانية. سنتناول نشأته، وتحوله إلى مفكر ديني ثوري، وتأثير أفكاره على الشباب الإيراني والمجتمع. كما سنلقي نظرة على كتاب “علي شريعتي.. سيرة سياسية” للمؤلف علي رهنما، الذي استعرض فيه حياة شريعتي وتأثيره السياسي.
ويعرض رحلته الفكرية والسياسية، ويسلط الضوء على فترة إقامته في باريس وتأثيرها على تطوُّر أفكاره ومواقفه الثورية.
ويروي السيرة الحافلة للدكتور علي شريعتي قصة حياة استثنائية، حيث تجسدت رحلته من مجال التدريس في إيران إلى التحول الفكري والنضال السياسي. تعتبر سيرته ملهمة ومحفزة لفهم الأحداث التاريخية والتطورات الثقافية في إيران. يُسلط الضوء في هذا المقال على مراحل حياته المثيرة، انطلاقًا من بداياته في وزارة التعليم إلى لحظات الحظر والمقاومة، وصولًا إلى رحيله الغامض وتأثيره البارز.

نشأة علي شريعتي – وتحوله إلى مفكر ديني ثوري

ليست سيرته سيرة شخصية فحسب، بل إن حياته تعكس حالة الاضطراب التي رزح تحتها المجتمع الإيراني في مواجهة رياح التغيير والغرب. قضى الكاتب علي رهنما خمس سنوات في دراسة حياة علي شريعتي السياسية (1933-1977)، وأصدر كتابًا بعنوان “علي شريعتي.. سيرة سياسية” بترجمة جميلة ومتقنة للمترجم العُماني أحمد حسن المعيني، إذ تناول نشأة شريعتي وسنوات دراسته في باريس، وتطوره إلى مفكر ديني ثوري على خلاف دائم مع نظام الشاه والمؤسسة الدينية.
كانت كتابات شريعتي طرحًا جديدًا، فقد مثَّل غرابة فكرية وكَتَب بطريقة شاعرية، ولقي فكره قبولًا لدى طيف واسع من الشباب الإيراني، بل تعدَّى أثره خارج بلاده.

علي شريعتي.. سيرة سياسية

استطاع شريعتي بشخصيته الساحرة ومزجه بين الإسلام والفكر اليساري أن يحشد جيلًا كاملًا من الشباب الإيراني، ولفت نظري عنوان الكتاب باعتباره سيرة سياسية، وتذكرت كتاب نيكي كيدي المميز عن سيرة جمال الدين الأفغاني السياسية، فقد ركزت على تجربة الأفغاني السياسية؛ وقريب منه سيرة شكيب أرسلان، التي أبدع فيها وليام كليفلاند.. وكلها سِيَرٌ تركز على الجوانب السياسية من حياة المفكرين.

حين كان مؤلف الكتاب علي رهنما يجمع المعلومات في إيران، التقى شابًّا يبيع الكتب، وحين عرف أنه يبحث عن أي شيء له علاقة بعلي شريعتي، قال له: “قيل كثير عن شريعتي، لكنني صدقًا لم أستطع أن أفهم هذا الرجل، أكان قديسًا أم شيطانًا؟ مكافأتي الحقيقية ستكون لو أنك استطعت أن توضح شيئًا مما استشكل عليَّ في ما قيل عن هذا الرجل”.. ولهذا الرجل يكتب رهنما كتابه عن شريعتي.

في أواخر عام 1933م وُلد علي شريعتي في إحدى قرى محافظة مشهد الإيرانية لأسرة متدينة معروفة برجال العلم والدين؛ كان والده محمد تقي شريعتي، أحد أبرز الشخصيات التي تحاضر في مركز نشر الحقائق الإسلامية، وفي مراهقة شريعتي انكبَّ على قراءة كتب التصوف، وعاش هائمًا في سماوات بعيدة، لكن إعصارًا مفاجئًا هزَّه من مقعد عزلته الهادئ، ولم يكن ذلك الإعصار سوى تأثير رئيس الوزراء محمد مصدق فيه، فقد كان مصدق صاحب أجندة قومية وأراد تأميم النفط الإيراني،
بعد ذلك طوى شريعتي كتب الفلسفة والتصوف واتجه إلى السياسة، وسأل: ما العمل؟. يقول شريعتي: “دفعتني ظروف معيشتي، وتعليمي وفِكَري، وبالأخص روحي، إلى أن أشيخ باكرًا في طفولتي”. كان الحدث الأهم في حياة شريعتي ظهور محمد مصدق الذي أمم نفط إيران، ما أدى إلى تنظيم انقلاب عليه بدعم من الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا؛ ففي صيف عام 1953م عُزِل محمد مصدق من رئاسة الوزراء بقرار من الشاه محمد رضا بهلوي، في ذلك الوقت كان شريعتي في سنِّ العشرين، يخرج في جنح الظلام مع أحد رفقاء النضال ويكتب شعارات داعمة لمصدق، ومناهضة للشاه على جدران في مدينة مشهد.

دراسته في باريس – والتفاعل مع السياسة في إيران

درس شريعتي الأدب الفارسي في الجامعة، وانجذب بأحلام الشباب البريئة المثالية إلى ما كانت تحمله الأحزاب السياسية من شعارات، واعتُقل لأول مرة في حياته عام 1954م بعد مشاركته في النشاطات التي كانت ترفض الانقلاب. بعدها بفترة قصيرة خرج شريعتي أكثر تصميمًا على مواصلة النضال ضد نظام الشاه، ويحكي بنفسه عن هذه الفترة، فيقول: “إعصار هبَّ فجأة، فعكَّر صفو العالم، اندفعت فورات من النضال في كل ركن، ولم أسلم في عزلتي من تلك الهزة، وبدأت الحكاية”.
اعتُقل شريعتي مرة ثانية عام 1957م بتهمة إهانة الشاه، ويبدو أنه كان قد أصبح شخصية معروفة في سجن “قزل قلعة”، فقد كان الجنرال تيمور بختيار، رئيس جهاز السافاك، يبحث عن شريعتي بين المعتقلين الجدد، وعندما رآه هزِئ به وقال له: “أنت شريعتي الذي يتحدثون عنه! كنت أظن أننا اصطدنا فيلًا”. تزوج شريعتي بعد خروجه من السجن من زميلته في الجامعة، بوران شريعت رضوى، التي تتذكر خفة دم شريعتي، فقد كانت معجبة بأدبه ودماثة خُلُقه وأسلوبه في الانتقال بسلاسة من المواضيع الأدبية والاجتماعية الجادة إلى الفكاهة والتعليقات الطريفة..
كان تعارفهما قد توطَّد أكثر في جماعة الآداب والفنون بالكلية، وقرأتْ ذات مرة قصيدة غزل لحافظ الشيرازي، ولم تمضِ فترة طويلة حتى أهدى إليها شريعتي نسخة من كتابه المنشور حديثًا آنذاك عن الصحابي أبي ذر الغفاري. يقول علي رهنما، مؤلف سيرة شريعتي، إن شريعتي الشاب قرر أن يعبِّر عن عاطفته لفتاة بكتاب سياسي اجتماعي مشحون، فهذا يعني أنه رأى فيها فتاة تتمتع بنباهة سياسية واجتماعية، ومن الطريف أن زوجته بوران قالت: “كنت أشترط للزواج ألا يكون أصلعًا ولا مدخّنًا، ثم أحببت علي وتزوجته، وقد كان يجمع الصفتين: كان أصلعًا ومدخنًا”.

حصل شريعتي على منحة دراسية من الدولة لإكمال مشواره الدراسي في فرنسا، وفي باريس عاش أجمل فترات حياته كما عبَّر عن ذلك ذات مرة، كانت باريس يومها قِبلة المثقفين والمفكرين في العالم، كانت فرصة ذهبية للشاب القادم من مدينة صغيرة أن يرى النقاش الفكري والنقاشات الأيديولوجية الساخنة على مقاهيها الوجودية بين عمالقة من أمثال ألبير كامو، سيمون دو بوفوار؛ وفي عام 1962م حضر شريعتي محاضرة لجان بول سارتر عن كتاب (معذّبو الأرض) لفرانز فانون. فرنسا كانت أيضًا مأوى عديد من التيارات الثورية حول العالم، لكنها كانت تضيق بنشاطاتهم ذرعًا، فقد كانت تحظر الكتب وتمنع المظاهرات التي تعارض سياساتها الاستعمارية في أفريقيا، وتعاون شريعتي مع الجبهة الوطنية لتحرير الجزائر، واعتُقل على خلفية إحدى المظاهرات، ما جعله يعيد تقييم فكرة الحرية عند الغرب وممارساتها. وفي باريس،

تعرَّف شريعتي إلى المستشرق الشهير لويس ماسينيون، الذي كان يكتب سيرة للسيدة فاطمة بنت النبي محمد، صلى الله عليه وسلم، فتعاون شريعتي مع ماسينيون في توفير المصادر الفارسية المكتوبة عن السيدة فاطمة.. ترك ماسينيون أثرا مؤكدًا في علي شريعتي، فقد ترجم مقالة ماسينيون عن سَلمان الفارسي، ولكن المقالة لم تعجب المتدينين، أما اليساريون فغضبوا منها، وأرسل له صديق ماركسي برسالة ساخرة: هل هذه هي الهدية التي جئتنا بها من أوروبا بدلًا من أن تترجم رأس المال لكارل ماركس؟

حياته الشخصية ولقائه بالمتسشرقين والمشاركة في الثورة

العجيب هو أثر شخصية لويس ماسينيون في كثير ممن قابلهم، ذكرتُ في مقالة سابقة علاقة ماسينيون ببرنارد لويس، ونجده حاضرًا بقوة في سيرة مالك بن نبي، وفي مذكرات عبد الرحمن بدوي، لو جُمعت ذكريات المثقفين مع هذا المستشرق لخرجت لنا مادة طريفة ومميزة. هكذا زادت تجربة السفر إلى باريس ما يعتمل داخل شريعتي من تيارات متعارضة، فقد كان يرى ضرورة التوليف بين العَصْرنة والدين كحلٍّ لمشكلات بلاده، وفي سنوات غُربته في باريس شعر بالشوق إلى نوع سجائر محلي كان يدخنه، وإلى البطيخ الإيراني، لكن علاج الشوق كان عبر قراءة كتاب مثنوي جلال الدين الرومي مع رفيقه في باريس.

شهدت إيران في يونيو/حزيران عام 1963م انتفاضة دموية برز فيها الخميني رمزًا للمعارضة، وتركت هذه الانتفاضة انطباعًا قويًّا لدى شريعتي، فقد اهتزت سُلطة الشاه، وكان شريعتي سعيدًا بوعي الناس حين سمع أن من بين شعارات المنتفضين “مصدق زعيمنا الوطني، والخميني زعيمنا الديني”، وكتب شريعتي افتتاحية في صحيفة “إيران آزاد” مشحونة للغاية قائلًا: “نعم، لقد حانت نهاية النضال السلمي، ولكي نضمن حيوية الثورة وندافع عن شعاراتنا القومية، التي أهمها إسقاط محمد رضا شاه، فعلينا من الآن أن نرد على طوفان الحديد والنار بلغة البنادق وقوة الحرب”.

أسَّس شريعتي فرع حركة “حرية إيران” في باريس، لذلك وقبل أن يغادر باريس، تعرف إلى أبو الحسن بني صدر، الذي وصل من إيران مُوفدًا من حركة “حرية إيران” ليحل محل شريعتي في باريس، وأصبحا صديقين يقضيان ساعات طويلة في مناقشة الإسلام.. أبو الحسن بني صدر أصبح لاحقًا رئيسا لإيران الثورة عام 1980م، قبل أن يتمرَّد على الخميني ويترك إيران. أنهى علي شريعتي دراسته في فرنسا، وقرر العودة إلى إيران بعد أن حصل هو وزوجته على شهادة الدكتوراه في علم الاجتماع، لكنه ما إن وصل إلى الحدود التركية الإيرانية حتى اعتُقل مجددًا من المخابرات الإيرانية.. بعد خمسة أعوام من الغياب والغربة وأمام أعين زوجته وطفليه اعتُقل، وُجِّهت إليه التهمة المعتادة، وهي التحريض ضد الأمن القومي، التي كانت تُوجَّه إلى معارضي الشاه، لكن بعد ستة أسابيع من اعتقاله أُطلِق سراحه في 18 يوليو/تموز عام 1964م.

العمل البحثي وتأثير الأفكار والمحاضرات

كان على شريعتي أن يجد عملًا وأن يبدأ فصلًا جديدًا من حياته، لكن الطريق لم يكن معبَّدًا، ولن تكفي شهادة دكتوراه من جامعة السوربون لتمهيد طريقه إلى الجامعات الحكومية.. وُظِّف شريعتي بدايةً في وزارة التعليم الإيرانية باحثًا، وفي عام 1966م عمل أستاذًا مساعدًا في قسم التاريخ، وشعر ساعتها أن بوسعه استئناف ممارسة ما يعتبرها مهمته في الحياة.
لمع اسم الدكتور علي شريعتي بعد فترة وجيزة من بدئه التدريس في مشهد، واكتظت قاعة الدرس في محاضراته التي اشتُهرت باستمرارها ساعات طويلة دون انقطاع أو ملل من الحضور، كانت شخصيته وقدراته الخطابية تسحرهم، كانت تلك المحاضرات حَجَرًا كبيرًا أُلقي في مياه الحركة الفكرية في إيران. لم تكن محاضرات شريعتي تمرُّ دون لفت انتباه المخابرات الإيرانية التي استدعته للتحقيق، لكنها مع ذلك سمحت له بالاستمرار في نشاطاته، ما أثار حفيظة كثيرين من أفراد المعارضة الإيرانية، الذين بدأت تدور في أوساطهم شائعات عن تعاون خفي بين شريعتي والسافاك.

مع ازدياد شعبية شريعتي بدأت تصل إليه دعوات من جامعات مختلفة في إيران من أجل إلقاء المحاضرات، إذ دُعي في أواخر عام 1968م إلى إلقاء أول محاضرة له في حسينية الإرشاد في طهران، وهي الحسينية التي كان يخطب فيها والده بشكل منتظم، وأصبحت في ما بعد مسرحًا لأكثر الأحداث حرارة في حياة شريعتي؛ لكن لم تمض فترة طويلة على نشاط شريعتي في إيران حتى أصدر السافاك قرارًا رسميًّا بمنع شريعتي من تقديم أي محاضرة عامة.
كانت رؤية شريعتي الدينية مختلفة كثيرًا عن النسق العام، حتى إن خصوم شريعتي أطلقوا على حسينية الإرشاد لقب “يزيدية الإضلال”.. لم يستمر حظره طويلًا، فبعد سبعة أشهر عاد علي شريعتي إلى حسينية الإرشاد، واكتست نبرته ومحتوى محاضراته بطابع نضالي شرس.

كان مطلع عام 1971م ساخنًا مع تفجُّر المقاومة المسلحة ضد نظام الشاه، وانعكس ذلك على خطاب شريعتي في حسينية الإرشاد، التي غدا جمهورها أكثر تقبلًا للآراء الثورية، ومع نهاية الفصل الدراسي وبداية الصيف تلقَّى شريعتي نبأ وقفه عن التدريس في الجامعة.

الصراع السياسي وفترة ما بعد الاعتقال

أخذت أعداد متزايدة من رواد حسينية الإرشاد تنضم إلى العمل العسكري المسلح، كانت خطب وكتابات شريعتي عاملًا حاسمًا في تحول رواد الحسينية نحو مزيد من العنف الثوري، وأصدرت السلطات الإيرانية في نوفمبر/ تشرين الثاني من عام 1972م قرارًا بإغلاق الحسينية، نفذته الشرطة بالقوة، ما خلَّف عددًا كبيرًا من الجرحى والمعتقلين، إذ صدر الأمر باعتقال شريعتي، الذي توارى عن الأنظار، فاعتقلت المخابرات والده، محمد تقي، ليسلّم نفسه، وبالفعل جرى اعتقاله ووُضع وحيدًا في زنزانة منفردة. حكى شريعتي أن اللواء زندي بور، مدير السجن، سأله يومًا: “هل شاركت في الاغتيالات التي حدثت؟”، فقال له: “نعم، كان لي دور في قتل هابيل على يد قابيل”، فسأل مدير السجن: “ما قضية قتل هابيل وقابيل؟”!
بعد 18 شهرًا أُطلق سراح علي شريعتي في عام 1975م، ليجد نفسه ممنوعًا من مقابلة أحد، فقط نزيل الإقامة الجبرية، ومع خروجه من السجن راجع فكره، وشعر بعُقم النضال الثوري؛ وعن ذلك يقول: “أبدو في الظاهر قد أصبحت حُرًّا بعد التخلص مما كنتُ مُكبَّلًا به من الأغلال، لكن الحقيقة هي أن نوع سجني قد تغيَّر فحسب، وأنني قد انتقلت من سجن حكومي إلى سجن البيت، وأن سجَّاني قد تبدَّل، وغدت سجَّانتي هي زوجتي بوران”.

انقسمت المعارضة الإيرانية المسلحة إلى ماركسيين وإسلاميين، لكن لهيب الصراع لم يستثنِ أحدًا، وغَدَا وابل الرصاص طائشًا كما لم يكن من قبل، وفي ذروة الأحداث أخذت جريدة “كيهان”، المحسوبة على الحكومة، تنشر سلسلة مقالات لعلي شريعتي تحت عنوان: “الإنسان والإسلام والمذاهب الفكرية الغربية”؛ كان مضمون المقالات مجموعة من الردود على الأفكار الماركسية اليسارية، لتثور عاصفة جديدة من الاتهامات ضد علي شريعتي باعتباره يتعامل مع السافاك. أثار فكر علي شريعتي عديدًا من ردود فعل رجال الدين ومن اليسار، خصوصًا محاضرته عن التشيُّع العَلَوي والتشيُّع الصَّفَوي، ما جعل آية الله مطهري يطلق على دور شريعتي أنه “تسويد لصفحة رجال الدين”،
وحذر أنصاري قمي الحكومة والشعب ورجال الدين من أنه “في القرن الماضي لم يشهد الإسلام والشيعة قط عدوًّا أكثر خطورة وغطرسة من علي شريعتي”. لقد سيَّس شريعتي الإسلام وهاجم الذين فرّغوه من سياسته، كان ينهل تارة من المفاهيم الغربية، فتستاء منه المؤسسة الدينية، ويتكئ تارة على الخطاب الديني، فينفر منه المثقفون اليساريون، خصوصا أنه سحب البساط من تحت أقدامهم وجذب الشباب إليه.

بعد ذلك، سُمح لعلي شريعتي بالعيش دون عمل أو محاضرات، كانت هذه أصعب فترة في حياته، فقد كان اسمه مدرجًا بقائمة الممنوعين من السفر، لذلك طلب جوازَ سفر جديدًا باسم عائلته، ليصبح محمد علي المزيناني، واستطاع أن يغادر بلاده بهذا الاسم غير المشهور، متجهًا إلى أوروبا في مايو/أيار عام 1977م، وفي الفترة نفسها أصدر السافاك أمرًا بمنع سفره، لكن الطير قد طار من القفص كما يقول المثل الفارسي، ولم تستطع عائلة عليّ اللحاق به، فقد مُنعت زوجته من السفر في المطار في يونيو/حزيران 1977م، ولم تمض أيام حتى وجدت بِنتا شريعتي أباهما مُستلقيًا على ظهره عند باب غرفته ميْتًا في بريطانيا. تقول التقارير الطبية الرسمية إنه مات نتيجة فشل قلبي، في حين يقول محبوه إنه قد قُتل على يد السافاك، فيما امتنعت السلطات الإيرانية عن إدخال جثمان شريعتي ليُدفن في مسقط رأسه، ونُقل جثمانه إلى دمشق في منطقة السيدة زينب..

الرحيل والإرث والتأثير

رحل ولمّا يبلغ الخامسة والأربعين، لكنه ترك إرثًا إشكاليًّا في عالم الفكر. كان علي شريعتي إنسان عصره وابنًا بارًّا لحقبة الستينيات التي غلت بحركات التحرر الوطني والثورات، وصحيح أنه لم يشهد سقوط الشاه على يد الخميني والثورة الإسلامية بعد سنتين من رحيله، لكن صدى صوته وكلماته كان حاضرًا وبقوة، فهو الذي قال: “لا تستهِنْ بالكلمة، فهي كائن حي وحسَّاس وساحر”. لقد سافرتُ إلى طهران ومررتُ بمشهد، لم يكن ذلك عبر طائرة، بل عبر دفتي كتاب سيرة علي شريعتي السياسية، التي أتقنها علي رهنما، وهي سيرة تكاد تكون كتابًا مظلومًا بسبب حجمه الضخم الذي يخيف القُرَّاء، فهو يقع في 800 صفحة من القطع الكبير، لكنه سيرة مكتوبة بمتعة وتتبُّع دقيق ودراسة لحياة شريعتي وفكره، مع سلاسة في الشرح وجمال التعبير.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من...

قراءة المزيد
Loading...