عن الخروج “غير الآمن” للطغاة

بواسطة | مايو 25, 2023

بواسطة | مايو 25, 2023

عن الخروج “غير الآمن” للطغاة

لا يتعلم الطغاة من التاريخ، ولو تعلموا ما طغوا وما ظلموا وما أفسدوا. هذا ملخص خبرتنا مع الحكام المستبدين والطغاة الذين حكموا بلادنا خلال نصف القرن الماضي. حيث يبدو جليا أن هؤلاء الطغاة لم يتعلموا شيئا من التاريخ القريب أو البعيد، لأسلافهم الذين سقطوا غير مأسوف عليهم؛ وذلك كما حدث في مصر وليبيا واليمن والسودان والجزائر والعراق وغيرها خلال العقدين الأخيرين.
فما لا يفهمه الطغاة أن نهاية طغيانهم ليست فقط حتمية، ولكنها أيضا مأساوية، وبقدر استبدادهم وطغيانهم يكون خزي نهايتهم؛ ورغم ذلك يرتكبون الأخطاء نفسها، التي وقع فيها من سبقهم من الطغاة، سواء من الذين تم التخلص منهم قتلا كما حدث مع لويس السادس عشر أخر ملوك فرنسا الذي قُطعت رأسه أواخر القرن الثامن عشر، مرورا بطغاة القرن العشرين وأهمهم نيوكولا تشاوشيسكو رئيس رومانيا، الذي تم إعدامه هو وزوجته رميا بالرصاص في أحد الميادين بالعاصمة الرومانية بوخارست، عقب الثورة الرومانية التي اندلعت عام ١٩٨٩، مرورا بالقذافي وعلي عبد الله صالح، ومن قبلهما صدام حسين؛ أو من أولئك الذين جرى خلعهم وسجنهم، كما آلت إليه الحال مع حسني مبارك وعمر البشير، وغيرهما من جنرالات الانقلابات في بعض بلدان أميركا اللاتينية وإفريقيا.

يقرأ الطغاة من كتاب الاستبداد نفسه، ويكررون كتابة سطوره نفسها دون إبداع أو تجديد.. يبدأون عهدهم بطِيب الكلام عن الإصلاح والتغيير، واحترام الدستور، وإطلاق الحريات، و… إلخ. وبعدها بسنوات قليلة يبدأ البطش

صحيح أن بعض الطغاة والمستبدين أفلتوا من الحساب والعقاب، ولكنهم تركوا بلدانهم في حالة فوضى عارمة وأشبه بخرابات، تحتاج الكثير من الأموال والأنفس من أجل إعادة التعمير والبناء؛ ناهيك عن تدمير النسيج الاجتماعي وقيم العيش المشترك، وذلك كما حدث في العراق بعد صدام حسين، وفي سوريا تحت حكم حافظ وبشار الأسد، وما حدث بعد سقوط القذافي في ليبيا، وصالح في اليمن، وما حدث في السودان تحت حكم البشير، وما يحدث حاليا في مصر التي أصبحت غارقة في الديون حتى أذنيها، وهي تسير باتجاه سيناريو الدولة الفاشلة المعتمدة على الخارج بشكل كبير، والعاجزة عن تلبية احتياجات مواطنيها الأساسية من مأكل ومشرب ومسكن، و…إلخ.
يقرأ الطغاة من كتاب الاستبداد نفسه، ويكررون كتابة سطوره نفسها دون إبداع أو تجديد.. يبدأون عهدهم بطِيب الكلام عن الإصلاح والتغيير، واحترام الدستور، وإطلاق الحريات، و… إلخ. وبعدها بسنوات قليلة يبدأ البطش، فيتراجعون عن وعودهم، وينقلبون على تعهداتهم، ويخدعون من أوصلهم إلى السلطة، سواء كان الشعب أو من يمثله، ثم تبدأ الحاشية والأتباع في الترويج لبقائهم الأبدي في الحكم تحت ذرائع مختلفة، وذلك إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا؛ وإذا قام الشعب وثار على حكمهم، اتهموه بالتآمر عليهم، و”العمل لصالح أطراف خارجية”، وإذا “دقت ساعة الحقيقة”، كما قال القذافي ذات مرة، رفعوا شعار “إما نحن أو الفوضى!”.
وهذا المسار اتخذه مبارك عندما جاء للسلطة عقب اغتيال السادات (والذي كان أيضا قد بدأ حكمه بإصلاح سياسي عرف بثورة التصحيح، وقام بإطلاق سراح المعتقلين وخاصة من الإسلاميين، ثم انتهى إلى اعتقال كل رموز الطبقة السياسية أوائل الثمانينات)، فقد فتح مبارك السجون وأخرج المعتقلين وأطلق بعض الإصلاحات السياسية التي  تراجع عنها بعد ذلك سريعا ليبدأ عهدا جديدا من القمع والفساد؛ ولا تزال عبارته الشهيرة “الكفن ملوش جيوب” (في إشارة إلى رفضه للفساد) من الأقوال التي يتندر بها المصريون عليه، فقد بلغت أمواله عند خلعه، حسب بعض التقديرات، حوالي نصف مليار دولار مودعة في بنوك أجنبية.
وكذلك فعل بن علي أواخر الثمانينات حين وعد بإصلاحات سياسية بعد نهاية حقبة الحبيب بورقيبه، ودعا إلى انتخابات جديدة، كان هو أول المنقلبين على نتائجها، وقام باعتقال معارضيه وإغلاق المجال العام بالضبّة والمفتاح، كما يُقال؛ وبعد إسقاطه اكتشفنا الحجم الهائل للأموال والذهب، مما كان يحتفظ به في قصره الرئاسي بضاحية سيدي بوسعيد، ناهيك عما تم تهريبه عبر حسابات سرية له ولزوجته ليلى الطرابلسي وعائلتها.

لا يوجد مخرج آمن دوما للطغاة من السلطة. فقد أغلقوا بأيديهم كل أبواب التوبة والعودة عن الاستبداد، والتكفير عن جرائمهم، ولم يتركوا لأنفسهم أمام شعوبهم فرصة تضمن لهم مخرجا يحفظ عليهم أمنهم وحريتهم بعد أن أصبحت نهايتهم معروفة

وكذلك فعل أيضا الجنرال السوداني عمر البشير، الذي حكم السودان ثلاثين عاما قبل سقوطه، حيث ظل يتلاعب بشعبه ويعده بالإصلاح والوفرة والرخاء، مطالبا إياه بالصبر معه على “الظروف الاقتصادية الصعبة والتحديات الخارجية”، ومستنجدا بحلفائه وأتباعه من الأحزاب الكرتونية، التي تداعت من أجل الدفاع عن بقائه في السلطة تحت يافطة “الحوار الوطني” حتى سقط وانتهى وترك السودان للجنرالات، ينهبون خيراته ويدمرون مقدراته كما نرى حاليا.
لا يوجد مخرج آمن دوما للطغاة من السلطة. فقد أغلقوا بأيديهم كل أبواب التوبة والعودة عن الاستبداد، والتكفير عن جرائمهم، ولم يتركوا لأنفسهم أمام شعوبهم فرصة تضمن لهم مخرجا يحفظ عليهم أمنهم وحريتهم بعد أن أصبحت نهايتهم معروفة، ومصائرهم متوقعة بين العزل أو السجن أو النفي أو القتل. ولن يكون ضربا من الخيال قولنا إن مصائر الطغاة الحاليين لن تختلف كثيرا عن مصائر من سبقوهم، حتى وإن تمت إعادة تأهيلهم ودمجهم في المنظومة العربية، كما حدث مؤخرا مع بشار الأسد.
يتعلم الطغاة من بعضهم كيف يستبدون ويمارسون طغيانهم، لكنهم لا يتعظون من مصائر بعضهم، ويتغافلون عما قد تنتهي إليه الحال إذا ما استمروا في طغيانهم؛ ولو أنهم تعلموا لما طغوا ولما ظلموا ولما استبدوا، ولكنها سنة الله؛ ولن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من...

قراءة المزيد
Loading...