غزة ومأزق الإنسانية الأخلاقي

بواسطة | نوفمبر 14, 2023

بواسطة | نوفمبر 14, 2023

غزة ومأزق الإنسانية الأخلاقي

لقد كشفت أحداث غزة الأخيرة عن تناقضات الغرب، حيث يظهر التناقض بين الرسمي والشعبي في مواقفهم من الصراع الفلسطيني. يبرز التحول الثقافي والديمقراطي في المجتمع الغربي، في حين يكشف الصمت الرسمي عن تفاهمات غير معلنة. الأزمة تعزز دور وسائل التواصل الاجتماعي في كسر السرديات الرسمية وتقديم وجه حقيقي للأحداث. المقال يستجلي التحولات الأخلاقية والسياسية المستمرة ويطرح تساؤلات حول الأخلاق والقانون في وجه مأزق إنساني عالمي.

تناقضات الغرب في ظل أحداث غزة – بين الرسمي والشعبي

لقد شكل يوم ٧ أكتوبر الماضي، مرحلة مفصلية ونقطة تحول كبرى، ليس في مشهد الصراع الفلسطيني الإسرائيلي فحسب، وإنما أيضا في المشهدين الإقليمي والدولي ثقافيا وأخلاقيا على حد سواء، لحجم التأثير البالغ والصدمة الكبيرة التي تركتها هذه العملية الكبيرة والاستراتيجية، التي ملأ دويها أسماع العالم كله، وأعاد الأحداث لمسارها الأول ولحظتها الأولى.
ليس من قبيل المبالغة ما أقوله هنا، وأي دعاية هنا هي أقل بكثير من أن تحيط بحدث بهذا الحجم، مع تداعياته السياسية والاقتصادية والثقافية والنفسية، التي أحدثها منفذو هذه العملية التي يغلب أنهم هم أنفسهم تفاجؤوا بحجم تداعياتها وما جرى بعد ذلك، تلك المفاجأة التي رسمت ردات الفعل لدى جميع الأطراف دون استثناء بدءا بدولة الكيان الصهيوني وليس انتهاءَ بالمنظومة الدولية كلها، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية.

لقد وضعت عملية الـسابع من أكتوبر الإنسانيةَ كلها أمام اختبار أخلاقي حقيقي، وربما لأول مرة في تاريخ العالم، ويقف في مقدمة المُختَبرين بهذا الحدث، العرب والمسلمون، الذين يربطهم بهذه القضية ليس مجرد وحدة الدم والأرض والعرض، وإنما أيضا قدسية هذه القضية، وما تحمله من أهمية لأولى القبلتين وثالث الحرمين، مسرى الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم.
 فقد عرّت هذه العملية الجميع وكشفت عن معادن الناس وقيمهم، ومدى إيمانهم بأبسط القيم الإنسانية التي لا يسع أي إنسان جهلها، ويتأكد ذلك بإلحاح عندما يكون هذا الإنسان عربيا مسلما، يحثه دينه وثقافته على نصرة المظلوم ونجدة الملهوف، فكيف به إذا كان هذا المظلوم أخاه في الدين والوطن؟.

لقد كشفت هذه العملية عن مدى الاختراق الكبير الذي وصلت إليه الصهيونية، وتمكُّنها من التأثير على قرارات كثير من القيادات والزعامات العربية والإسلامية، التي عجزت عن أي فعل تجاه المجزرة والإبادة التي تُرتكب بحق الغزيين بكل أنواع الأسلحة المحرمة دوليا، دون أن ينبس أحدهم ببنت شفة، والأخطر في زاوية هذا الاختبار هو أن كانت القيادات متورطة بعلاقات ما بشكل مباشر أو غير مباشر مع دولة الكيان الصهيوني، إلا أن ما لم يمكن فهمه هو حالة الصمت الشعبي الذي لا يستطيع أن يعبر عن حالة غضبه مما يجري.
لا أريد أن أخوض كثيرا في واقع العرب اليوم، فحالهم يغني عن الحديث عنهم وما هم فيه من انبطاح وتشرذم ومسكنة رغم كل إمكانياتهم وقدراتهم، وحضورهم في المعادلة الدولية اقتصاديا على الأقل، فهم يشكلون اليوم ثقلا سكانيا هائلا، وثقلا اقتصاديا كبيرا، وبشكل خاص منهم الدول النفطية، لكن المشكلة تكمن أن هذه الورقة اليوم بدل أن تكون أحد عوامل قوة العرب تحولت إلى ورقة إعاقة لهم، وعامل إرباك كبير عندهم.

أما الاختبار الأخلاقي الكبير والأهم فهو للمجتمعات الغربية الديمقراطية، هذه التي ملأت الكون ضجيجا على مدى أزيد من نصف قرن بالكلام عن الديمقراطية وحقوق الإنسان والحرية والكرامة الإنسانية، وصحيح أننا كعرب نعرف جيدا أن مثل هذه الشعارات هي حصرا للتداول المحلي الغربي عمليا، ويُمنع تصديرها خارج الجغرافيا والسياق الثقافي الغربي، لكن ما نراه اليوم شكّل أزمة حتى للسياق الغربي الداخلي، ووضعه أمام تحدٍّ ومأزق أخلاقي كبير لا يمكن الفكاك منه أو تجاوزه ونكرانه.
فمنذ ما يقارب من شهر كامل وجدنا الشارع الغربي يعيش حالة من الاحتجاجات الدائمة التي تكبر ككرة الثلج، هذه الحالة الاحتجاجية التي كشفت عن غرب مدني آخر، مختلف تماما عن الغرب الرسمي، وقدمت لنا صورة نقيضة عن الغرب الذي كنا نتصوره، وعرفنا أنه ليس كتلة صماء واحدة فضلا عن أن يكون تابعا مطيعا لحكوماته المتورطة بصفقات ولوبيات مصالح خفية ومتعددة، وتحيزات ثقافية كما يسميها المفكر الكيني علي مزروعي، ولا يمكن تجاهل تأثيراتها لدى صناع القرار الغربي مطلقا.

إن حالة  التناقض الكبيرة بين غرب شعبي مدني حر وغرب رسمي مسكون بالروح الكولنيالية، التي لم يستطع مغادرتها بعد، واضحة للعيان، هذا  التناقض الذي نرى صوره ماثلة أمامنا كل يوم، في فلتات ألسنة الساسة الغربيين، التي لن تكون نهايتها بتصريحات وزيرة الداخلية البريطانية المقالة سويلا برافارمان، والتي اعتبرت المظاهرات المنددة بالعدوان الإسرائيلي على غزة مسيرات كراهية وأن القائمين عليها والمشاركين فيها مجرد رعاع، هذا التصريح الذي دفع بالشعب البريطاني الحر أن يضغط لإقالتها من منصبها، في أول إجراء من نوعه في تاريخ السياسة البريطانية تجاه العالم الإسلامي.
فالمتتبع للمشهد الغربي الرسمي يهوله حجم الدعم الذي تجاوز مرحلة التصريحات إلى الفعل، فرأينا لأول مرة في التاريخ أن يأتي رئيس وزراء بريطانيا ريشي سوناك وعلى متن طائرة عسكرية، جنبا إلى جنب مع الأسلحة والمعدات القتالية التي زود بها دولة الكيان، أما أمريكا فقد  أرسلت أهم ما لديها من حاملات الطائرات والغواصات والمدمرات وشاركت في العملية العسكرية على غزة من أول لحظة، هذا الاندفاع الواضح غربيا للوقوف مع دولة  الكيان الصهيوني نحن ندركه جيدا على أنه وقوف مع قاعدتهم العسكرية والوظيفية على أرض فلسطين، ولكنه ما كان متصوَّرا أن يصير بهذه البجاحة في التعبير المباشر عنه، ما يعني أننا اليوم أمام الحقيقة العارية وجها لوجه، أننا أمام غرب كولنيالي استعماري لا يمكن أن تستره كل شعاراته المرفوعة.

في المقابل إن كل هذه التحولات في المشهد المدني الغربي ليست قطعا وليدة هذه اللحظة، وإنما هي نتاج تراكم كبير في الرأي العام الغربي، وخاصة في ظل تراجع سطوة الإعلام الرسمي وصعود سطوة الإعلام الاجتماعي، الذي تمكَّن من كسر السردية الغربية وتقديم سردية حقيقية للواقع اليوم، بعيدا عن السردية الرسمية المفبركة، التي ظلت تقدمها الحكومات الغربية لشعوبها على مدى عقود طويلة.
 وفي القلب من هذه السردية سردية الشعب اليهودي المظلوم، والأكاذيب المؤسِّسة له، التي ألّف فيها المفكر اليهودي إشلومو ساند كتابه عن اختراع الشعب اليهودي، وقبلها الأساطير المؤسسة للدولة اليهودية للفيلسوف الفرنسي روجيه جارودي، لكن الجهد الأكبر في مسار تحول الرأي العام الغربي، أتت به بلا شك القيم الثقافية والديمقراطية في ظل فضاء إلكتروني ساهم في تواصل الشعوب وإيصال الحدث بالصوت والصورة حول كل ما يدور في العالم.
ويبقى سؤال وإشكال المأزق الأخلاقي للإنسانية اليوم، قائما ومنكشفا أمام ما يجري في غزة من إبادة، في ظل حالة الارتداد الغربي الرسمي عن كل ما حققته الإنسانية من قوانين وأعراف ومواثيق ومعاهدات دولية تتعلق بحفظ كرامة الإنسان وصون حقوقه، وترسم قواعد اشتباك لحالات حروبه وسلمه، ولكن ما يجري اليوم في غزة هو تجاوز لكل هذه القوانين والأعراف، وهو دَوْس عليها في ظل تواطؤ أممي رسمي فاضح، ما يضعنا أمام لحظة كونية فارقة فيما يتعلق بمصير هذا الإنسان على هذا الكوكب الذي يتطلب قوانين وأعراف تحمي بعضه من بعض.

ختاما، لقد عرَّت غزة الجميع، وتركتهم بلا أي غطاء أخلاقي أو سياسي أو ثقافي يتلفعون به، في الوقت الذي بقيت غزة هي الحامل الأخير لمفهوم المدونة السلوكية والأخلاقية والقانونية للإنسانية جمعا اليوم، وفي هذه الحرب تحديدا، لمدى ما قدمه مقاومو غزة من صورة إنسانية راقية في تعاطيها مع ملف الأسرى والمختطفين وقواعد الحرب والاشتباك، وهذا باعتقادي هو سر صمودها وسر خروج العالم كله تأييدا لها وتنديدا بالعدوان الصهيوني ضدها، وما ذلك إلا لعدالة القضية وأخلاقية الفعل التحرري المقاوم والمكفول بكل الأعراف والقوانين والموازين الدولية عبر التاريخ.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من...

قراءة المزيد
Loading...