قرنٌ يتكلم.. خواطر المؤرخ برنارد لويس (1)
بقلم: محمد عبدالعزيز
| 25 نوفمبر, 2023
مقالات مشابهة
-
ما بعد الاستعمار.. وفتح الجراح القديمة
من الملاحظ أنه في عصرنا، عصر العولمة، نجد أن...
-
اقتصاد الحرب.. ماذا يعني اقتصاد الحرب؟!
لم يوضح د. مصطفى مدبولي رئيس وزراء مصر ماذا يقصد...
-
انصروا المرابطين أو تهيؤوا للموت!
في كتاب الكامل في التاريخ لابن الأثير: عندما...
-
يوميات بائع كتب عربي في إسطنبول (4)
نساء يقرأن الروايات وحكايات عن الكتب الأكثر...
-
لينينغراد وغزة: بين جنون العظمة وتطلعات الحرية
هتلر، المنتحر، المندحر والمهزوم، دخل التاريخ...
-
التواضع في القرآن الكريم .. قيمة أخلاقية تقود إلى الرفعة في الدنيا والآخرة
التواضع من القيم الأخلاقية العليا التي يحضّ...
مقالات منوعة
بقلم: محمد عبدالعزيز
| 25 نوفمبر, 2023
قرنٌ يتكلم.. خواطر المؤرخ برنارد لويس (1)
يستعرض المقال السيرة الفريدة لبرنارد لويس، حيث يشمل رحلته الأكاديمية مع أساتذته واهتماماته البحثية. يسلط الضوء على دوره في التجسس خلال الحرب العالمية الثانية، حيث قام بمراقبة الاتصالات وكان له دور في فك شفرات وترجمة نصوص. يتناول أيضًا علاقاته مع الحكومات العربية وتأثيره في الدبلوماسية الدولية. التصنيفات: سير ذاتية، تاريخ، تجسس. الوسوم: برنارد لويس، حرب عالمية، تجسس، دبلوماسية.
سيرة برنارد لويس: ما بين الأكاديمية والتجسس خلال الحرب العالمية
سأل الصحفي طاهر الطناحي الأديبَ عباس محمود العقاد عن شعوره إذا وصل إلى سنّ المئة، فأجاب: “إنني لا أتمنّى أن أصل إلى سن المئة كما يتمناه غيري، وإنما أتمنى أن تنتهيَ حياتي عندما تنتهي قدرتي على الكتابة والقراءة، ولو كان ذلك غدًا”، ثم أردف العقاد: “وإذا بلغتُ سِنَّ المئة، وتوافرت لي الصحة ولم تضمحل القوة، فإني أكتب كتابًا أسميه (قرن يتكلم) وأعهد بنشرهِ إليكَ!”.
كان العقاد يخاف المرض ولا يخاف الموت، يقول: “إذا فاجأني الموت في وقت من الأوقات، فإنني أصافحه ولا أخافه”، لم يبلغ العقاد مئة عام، وكتب سيرته في كتاب بعنوان “أنا وحياة قلم”، لكن المؤرخ برنارد لويس بلغ مئة عام، فهو من مواليد 1916م وتوفي عام 2018م، وأطلق على مذكراته “هوامش على قرن مضى”.
عشت هذه الأيام مع مذكرات المستشرق برنارد لويس، تلك الشخصية الإشكالية التي تستحق الدراسة، كما يقول مترجم الكتاب الدكتور عبد الله الأسمري: “للرجل مكانة ملتبسة في الشرق والغرب على حد سواء، فهو مؤرخ ضليع بالتاريخ ومؤلف غزير الإنتاج، لكنه أيضًا حاقد على الإسلام أشد الحقد، ومبغض للعرب أشد البغض، ويظهر في آرائه الحَيْفُ والتحامل بما لا يليق بالمؤرخ النزيه”، هكذا مرت بي مشاعر قرائية جديدة عليَّ، إذ القراءة لشخص أبغضه، بل إنه أسهم في تشويه صورة العرب والتحريض عليهم قبل حرب العراق، واستخدم معرفته التاريخية لأغراض استعمارية؛ لكن مذكراته مكتوبة بقلم ممتع وتحتوي على شهادة مهمة وجديرة بالقراءة والتفكير فيها، هكذا تحديت نفسي في قراءة المذكرات وكتابة مراجعة عنها، دون أن أسمح لإدوارد سعيد بالحضور والرد على غريمه برنارد لويس. يتأمل برنارد حياته بعد مضي عشرة عقود انصرمت من حياته، ويشعر كم كان محظوظًا للغاية، إذ كان جنديًّا في الحرب العالمية الثانية ولم يتعرض للقتل أو الإصابة بجروح، وكان يهوديًّا في أوروبا في أثناء القرن العشرين ولم يتعرض للقتل أو الاضطهاد، والسبب في ذلك ولادته في إنجلترا.
سنوات الطفولة
أحب برنارد التاريخ منذ صغره، وعندما كان طالبًا في المدرسة كان التاريخ بالنسبة له يعني التاريخ الإنجليزي، الذي كان عبارة عن سلسلة من الحروب مع فرنسا امتدت لقرون.. من هذا المنطلق ازداد فضوله للتعرف أكثر على التاريخ الفرنسي، ولذا طلب من أبيه أن يُحضر له كتابًا في تاريخ فرنسا مكتوبًا باللغة الإنجليزية، أحضر له والده ما طلبه واستطاع أن يكوّن نظرةً متوازنةً لتاريخ الحروب الأنجلو-فرنسية من وجهتي كِلا الفريقين، ودرس كذلك موضوعات مثل قصة الملك ويليام الفاتح، وريتشارد قلب الأسد والحروب الصليبية. هذه التجربة لم تُهيئه لدراسة التاريخ الإسلامي، بل ربما غرست داخله بذرة من التحيُّز ضد ذلك التاريخ كما يقول في سيرته، وأثارت الحروب الصليبية والمسألة الشرقية فضولًا مشابهًا حول الجانب الآخر من الرواية العربية، وكان ذلك خطوته الأولى على الطريق لكي يصبح مؤرخًا للشرق الأوسط.
على أن والده اعتنى بتوفير الكتب له، إذ يقول: “أحضر لي والدي وأنا في سن الثانية عشرة المجموعة الكاملة من الموسوعة البريطانية، التي بدأتُ على الفور في قراءتها بنهم شديد؛ أتذكر في أثناء القراءة أنني كنت أفكر في أن أصبح عالِم حفريات بسبب مقالة قرأتها للتو عن علم الحفريات، مرة ثانية كنت أقرأ مقالةً في الميتافيزيقا وهذا جعلني أفكِّر في أن أصبح عالمًا في الميتافيزيقا، وهكذا دواليك في كل مقالةٍ أقرؤها”.
والفصل الأول من مذكراته حافل بمواقف الطفولة، ففي المدرسة سأله الطلاب عن الحزب الذي سيصوت له والده، وبدوره سأل برنارد والده: أنصوِّت لحزب العمال أم المحافظين؟ فقال له: “نصوّت للحزب الليبرالي”، ثم عاد برنارد وأخبر الطلاب الآخرين أننا نصوت لليبراليين؛ وتسبب هذا الرأي في بعض الحيرة، لأن الغالبية العظمى كانت في ذلك الوقت إما تميل إلى المحافظين أو إلى العمال.. سأله الطلاب: “لماذا تميل إلى الحزب الليبرالي؟”، عاد برنارد إلى المنزل وطرح السؤال على أبيه: “لماذا ننتمي إلى الحزب الليبرالي؟”، أجاب أبوه دون تردد: “نحن أثرياء مقارنة بما لدى العماليين، ولكننا فقراء مقارنة بما لدى المحافظين”. ويحكي كذلك عن ولع أبيه باقتناء اللوحات الفنية التي تنتمي إلى العصر الفيكتوري، وفي مرة تحدث برنارد مع والده على الهاتف عندما قال له: “لقد اشتريت للتو لوحة جديدة”، سأله برنارد: “مَن رسمها؟”، وذكر والده اسمًا ما لفنان، فقال له: “لم أسمع به من قبل”، أجاب أبوه: “أي شخص سمعت عنه لا أملك المال الكافي لشراء لوحاته”.
حب اللغات عن طريق الصداقات مع النساء
استطاع برنارد لويس أن يكتسب مهارة كبيرة في تعلم اللغات، فقد تعلم الفرنسية مبكرًا، وفي سن الثالثة عشرة قرأ أول كتاب مكتوب باللغة الفرنسية، وكان الكتاب رواية “الكونت دي مونت كريستو”، أعارته إياه زوجة مدير المدرسة التي يدرس فيها، وتعلم الإيطالية كذلك، ثم أتى له والده بمعلم للعبرية، وأحب أن يتمرن عليها وانضم إلى مجموعة كانت تسمِّي نفسها “متحدثو العبرية”.
وهناك تعرف على إحدى العضوات، شابة تُدعى مينا، أصغر منه بعام تقريبًا، وكان هذا أول لقاء له مع الجنس الآخر، ووقع في الحب بطريقة جنونية، وعبَّر عن ذلك الحب في سلسلة من القصائد التي كتبها بالعبرية بجموح، وذلك بهدف جذب انتباهها، كانت علاقتهم بريئة تمامًا، وقصيرة الأمد، لكنها كانت أول لقاء له وتجربة مع “الحب”.. بقيا صديقين حميمَين حتى وفاتها بعد ذلك بسنوات، وعندما التحق بالجامعة كان قد قطع شوطًا كبيرًا في القراءة بالعبرية شعرًا ونثرًا، ومع نجاح التجربة فُتحت شهيته لتعلُّم مزيد من اللغات، وقادته إلى مسار آخر في رحلته المهنية، إذ افتُتن باللغات.
قابل بعدها مصادفة فتاة أثارت اهتمامه بشكل خاص تُدعى إدا، وهي ابنة مفوض سوفييتي سابق كان حينها هاربًا ومنفيًّا، لفتت انتباهه قصة هذه الأسرة التي كانت مقربة من لينين، حتى أن إدا عندما كانت طفلة كان لينين يلاعبها على ركبتيه. كانوا يهودًا، وكان موقفهم من المسألة اليهودية يشي بنوع من الغرابة لبرنارد، إذ كانوا متديّنين جدًّا وملتزمين التزامًا صارمًا، لكنهم كانوا أيضًا مناهضين بشدة للصهيونية، ورفضوا فكرة إحياء اللغة العبرية، كانوا يدركون أن الاهتمام يجب أن ينصرف بشكل كبير إلى اللغة اليديشية، التي رأوا أنها اللغة الأصلية لعامة الشعب اليهودي، وهكذا تعلم برنارد اليديشية وزوّدته صديقته بمؤلفات باللغة اليديشية، وافترقا في النهاية، لكنه يحكي امتنانه لها لإثراء حياته بهذه اللغة المميزة، ومع تعلم اليديشية تمكَّن من فهم العبارات التي تجعل من نكتة يهودية مادة مضحكة.
بدأ برنارد اللغة التركية عند دراسته التاريخ في سنوات الجامعة، والأكثر أهمية مع ذلك أنه واصل تلقي دروسٍ في اللغة الروسية، ووصل إلى المستوى الذي يمكنه من قراءة النصوص الروسية بالدم والعرق والقاموس كما يقول، وكعادته حاول أن يترجم قصائد الشاعر الروسي بوشكين إلى الإنجليزية، وبدأ بدأب أكثر في إلقاء نظرة على المجلات العلمية الروسية والتقارير التي تصدر عن المؤتمرات وما شابه ذلك، وأيضًا حاول قراءة بعض الكتب.
سنوات الجامعة والتعلم من المستشرقين
كان برنارد يتوقع أن يدرس القانون على الرغم من شغفه الكبير بدراسة تاريخ الشرق الأوسط، لكن لم يدُر بخلده في يوم من الأيام أن ذلك سوف يُفضي إلى مهنة يقتات منها، كانت أسرته تعتقد أنه مهيأ أكثر لكي يكون محاميًا يترافع في المحاكم لسبب أنه كان كثير الكلام.
يحكي برنارد لويس تجربته في سنوات الجامعة والأساتذة الذين تتلمَذَ على أيديهم، وكان أهمهم السير هاملتون جيب، وللمفارقة لم يكن السير جيب يحمل شهادة الدكتوراه، ولم يكن الحصول على الدكتوراه من ضرورات الحياة الأكاديمية في ذلك الوقت، كانت شهادة الدكتوراه والحصول عليها أمرًا اختياريًّا، وكان السير جيب حاصلًا على شهادة الماجستير فقط. دَرج الطلاب بعد تعلم قدر لا بأس به من اللغة العربية على نعته بـ”أمير المؤمنين جاب اللّٰه”.
ومن الأساتذة الذين درس برنارد عليهم المستشرق لويس ماسينيون، صاحب الشخصية البارزة، الذي كان مجال تخصصه الدقيق (الطائفية وتاريخ الإسلام)؛ ويصفه برنارد بأنه كان رجلًا متقلب المزاج، وكان يتعامل معه في كل يوم بطريقة مختلفة، وكان متحيزًا ضده؛ ولعل تفسير ذلك كما يقول برنارد هو “يهوديته” ومسألة “صَلب المسيح” و”حرق القديسة جان دارك في تاريخ إنجلترا”. وبدأ لويس ينشر مقالات، كانت المقالة الأولى بعنوان النِقَابات في الإسلام، ونُشرت عام 1937م، وعندما نشرها كان كمَن يحلِّق في السماء السابعة.
الحشاشون
كانت المقالة الثانية لبرنارد لويس حول فرقة الإسماعيلية، التي كانت موضع اهتمامه وكتب عنها كتابًا كاملًا بعنوان “الحشاشون”، ولعل سبب اهتمامه بتلك الحركة بحثه عن حركات المعارضة الراديكالية، وكان الإسماعيليون أهمَّ حركة معارضة راديكالية شهدها الإسلام خلال العصور الوسطى، ويوضح برنارد سبب اتجاهه إلى دراسة الحشاشين، بأنه كان متأثرًا بما كان يدور حوله من أحداث، كصعود الجبهة الشعبية الفرنسية ونشوب الحرب الأهلية الإسبانية، وصعود النازية في ألمانيا، ويفسر ذلك بميل المرء إلى قراءة الماضي من منظور الحاضر، ويخبرنا برنارد بأن الكتاب عاد له زخمه مع عودة ظهور العمليات الإرهابية، التي لا يخجل من نسبها إلى المسلمين، هكذا في المذكرات، دون تدقيق وربط بين المسلمين والإرهاب، حتى إن الناشرين تلاعبوا بعنوان كتابه “الحشاشون” ليربطوه بالحركات الراديكالية المتطرفة الحديثة، مع أن “الحشاشون” يختلفون عن الإسلام السُّني.
يوضح برنارد في المذكرات وجود سوء فهم شائع في الغرب منذ العصور الوسطى، وهو أن غضب الحشاشين وأسلحتهم كانت موجهة ضد الصليبيين، وهذا ليس صحيحًا، إذ كان يوجد عدد قليل نسبيًّا من الصليبيين من بين ضحاياهم، وحتى هؤلاء الضحايا سقطوا نتيجة بعض الحسابات الإسلامية الداخلية، وكانت الغالبية العظمى من ضحايا الحشاشين “من المسلمين”، لأن هجومهم لم يكن موجهًا ضد الخارج، بل بغرض كسب النخب المهيمنة، مثل الحُكام والملوك والوزراء وقادة الجيوش والعاملين في الدواوين، عن طريق القتل باستخدام الخنجر.
المادة الدراسية الأولى التي تولى برنارد تدريسها كانت عبارة عن تطبيق عملي للطلاب حول تاريخ الإسلام في الشرق الأوسط والشرق الأدنى، وكان الحضور من الطلاب أربعة فقط: طالب مصري وآخر فلسطيني وثالث من العراق ورابع من إيران؛ شعر والد برنارد بنوع من الغموض: “لمن تدرّس هذه المادة؟” شرح له، بنوع من التفصيل واقع الطلاب الذين يتولى تدريسهم، فتساءل قائلًا: “لا أفهم كيف لجامعة مثل جامعة لندن أن تدفع لك مرتباً كي تُدرس تاريخ الشرق الأوسط لطلابٍ عرب أتوا من بلاد عربية؟!”.
جاسوس في المخابرات البريطانية
يستمر برنارد في قصّ سيرة حياته، إذ اندلعت الحرب العالمية الثانية وانضم إلى الجيش البريطاني، في البداية جرى استدعاؤه لسلاح الفرسان، ومع معرفته بالعربية استقر الجيش على نقله إلى المخابرات عند نهاية عام 1940م وبداية عام 1941م، وذلك بسبب شغفه باللغات وعدم امتلاكه الكفاءة المطلوبة للعمل في سلاح الدبابات. أمضى برنارد بقية الحرب في أداء أعمال لا يستطيع حتى بعد نصف قرن الإفصاح عن طبيعتها، امتثالًا لقانون السرية، لكنه ذكر عديدًا من القصص حول دوره في التجسُّس على البلاد العربية، كأن تجربته تذكِّرنا بالحدود الفاصلة بين الاستشراق والتجسُّس.
الأعمال التي كان برنارد يؤديها، كثير منها كان إما تلخيصًا وإما ترجمة لنصوص، معظمها من اللغة العربية، وكان بعضها على هيئة رموز مشفَّرة، ومن الأمور التي أدَّاها برنارد مراقبة المملكة العربية السعودية، إذ كانت لها سفارتان في الخارج، واحدة في لندن والأخرى في باريس، ويستغرب برنارد من أن أيًّا من السفراء لم يكن سعوديًّا، فقد كان السفير في لندن حافظ وهبة مصريًّا، أما في باريس فكان السفير هو فؤاد حمزة، سوري، وهذا يدل على عدم معرفته بطبيعة الملك عبد العزيز، الذي استعان بعديد من المستشارين والموظفين من البلاد العربية وضمهم إلى فريقه.
جرت مراقبة الاتصالات بين السعوديين والألمان، إذ كانت بريطانيا مهتمة بشكل خاص بأنشطة الدكتور فريتز غروبا، الذي عمل وزيرًا مفوّضًا لألمانيا لدى المملكة العراقية، كان غروبا خبيرًا في الشؤون العربية، ووظَّف ذلك بالطبع في خدمة الرايخ الثالث، الذي كان على تواصل مكثف ومفصّل مع السفارة السعودية في فيشي بفرنسا، ومن خلالها يمكننا القول إنه كان على تواصل مع العالم العربي بشكل عام.
يذكر برنارد لويس أنهم راقبوا مراسلات السفارة ومكالماتها الهاتفية، إذ كان السفير فؤاد حمزة يبعث التقارير إلى وزير الخارجية السعودي المقيم في مدينة جدة، وكان وزير الخارجية على تواصل مع الملك ابن سعود في الرياض عن طريق الهاتف فقط، ولم يدرك السعوديون أن المكالمات الهاتفية معرضة للاختراق والتنصت، لذا كانوا يُفاجَؤون بمعرفة بريطانيا بدقائق الأمور التي كانوا يفعلونها أو تلك التي يفكرون فيها.
يحكي برنارد كذلك عن كيفية التعامل مع الحكومات العربية الأخرى في أثناء الحرب العالمية، مثل الملك فاروق ملك مصر، الذي طلب من بريطانيا، باعتباره صديقًا وحليفًا، معرفة خططهم العسكرية، وأصرّ على تزويده بالتفاصيل الكاملة، لكن بريطانيا لم تكن تثق به، لذا زوَّدته بخطة مفبركة وقدَّمتها له؛ وعندما استولت بريطانيا على المقر الرئيس للقوات الإيطالية في شمال أفريقيا وجدوا نسخةً من تلك الخطة التي قدَّمتها إليه بريطانيا، مما يدل على تعاونه مع المحور وكراهيته تقدُّم بريطانيا في الحرب.
وإذا كان وزير الخارجية الأمريكي هنري ستيمسون صاح في رعب بأن النبلاء لا يتلصّصون على بريد الآخرين، فقد فعلت بريطانيا ذلك على نطاق واسع خلال الحرب، وكانت هذه الرسائل البريدية المتبادلة مصدرًا للمعلومات لا يُقدَّر بثمن.
يحزن برنارد لويس من أن فرصة ضاعت عليه خلال الحرب للتعرف على رئيس الوزراء ونستون تشرشل، الذي زار الوحدة التي يعمل بها، ولا يُخفي برنارد سعادته عند دخوله مكتب مدير المخابرات وانبهاره به، ويحكي قصة عن تشرشل سمعها في أثناء الحرب، فعندما غزا الألمان الاتحاد السوفييتي عام 1941م، أصبحت بريطانيا فجأة حليفة للسوفييت، لذا أرسل تشرشل مهمة عسكرية إلى موسكو بقيادة جنرال اسكتلندي صارم. لم يخبره الروس بشيء ولم يُظهروا له شيئًا، تماشيًا مع الأسلوب السوفييتي الصارم، وقرر الجنرال أنه لن يرسل أيَّ تقارير ما دام ليس لديه ما يبلغ به بريطانيا، لذلك انزعج تشرشل إلى حد ما، كانت لديه بعثة عسكرية في موسكو، ولم يسمع شيئًا منها، وبأسلوب تشرشل أرسل ببرقية حادة إلى موسكو: “من رئيس الوزراء البريطاني إلى رئيس البعثة العسكرية البريطانية في موسكو، كل ما نعرفه أن المطر ينهمر في موسكو.. هل يوجد مزيد من المعلومات؟”. جاء الرد من موسكو: “من ضابط قيادة في البعثة العسكرية البريطانية في موسكو إلى رئيس الوزراء في لندن، علمنا من رسالتك التي بعثتها أن السماء تمطر في موسكو.. نخبرك بأنه لا يُسمح لنا بالتحديق إلى الخارج عبر النافذة”.
تزخر مذكرات برنارد لويس بتفاصيل كثيرة عن عالم الجاسوسية ومراقبة الخصوم، وزيارته إلى البلاد العربية والقدس في ذلك الوقت، وفي مجمل التجربة يرى برنارد أن مشاركته في الحرب التي امتدت خمسة أعوام لم تكن مضيعةً للوقت، فهو يقول إن أي فرد خدم في الجيش سينشأ لديه فهم أفضل للتاريخ العسكري، الذي يظل جزءًا مهمًّا من دراسة التاريخ. أتذكر مقولة للمؤرخ جيبون عن خدمته وهو متطوع في إحدى المليشيات، إذ قال إنها ساعدته في فهم الحروب الكبرى التي خاضتها الإمبراطورية الرومانية.
وبعد الحرب، وبالتحديد في عام 1950م، سنحت الفرصة لبرنارد للاطلاع على الأرشيف العثماني الذي كان محجوبًا عن العامة، وهي فرصة لا يمكن التفريط فيها، إذ تمكن من دراسة الإمبراطورية العثمانية، التي كان مهتمًّا بها على وجه الخصوص، فماذا رأى وماذا كتب عن تركيا؟ هذه تستحق مقالة قادمة نستكمل بها أهم ما ورد في مذكراته الثرية بالتفاصيل والنزعة الاستعمارية والإعجاب بالغرب، بل إنه كان يستخدم قدراته التاريخية لتبرير الاستعمار وإذلال الشعوب تحت دعاوى فارغة.
أخيرًا، في الترجمة العربية عديد من الأخطاء في أسماء الشخصيات، “جون آراك” في الكتاب هي القديسة “جان دارك”، و”هاليد أديب” التي تأتي في الترجمة العربية باعتبارها زوجة عدنان بك، الأستاذ الذي علَّم برنارد لويس التركية، هي الكاتبة التركية “خالدة أديب”، و”رشيد علي” الذي يأتي اسمه في الكتاب هو السياسي العراقي “رشيد عالي الكيلاني”، لذلك أتمنى من دار النشر تحرير الأسماء في الطبعة القادمة، ولقد استمتعت بالنص الرائق من ترجمة الدكتور عبد الله الأسمري.
مهتم في مجال السير الذاتية والمذكرات
تابعنا على حساباتنا
مقالات أخرى
واشنطن تسعى لمزيد من الشفافية من إسرائيل بشأن خططها للرد على إيران
تتزايد حالة القلق في الإدارة الأمريكية إزاء عدم إطلاعها على تفاصيل العمليات العسكرية الإسرائيلية، خاصة فيما يتعلق بالرد المحتمل على إيران. وتأمل واشنطن في تجنب مفاجآت مماثلة لتلك التي واجهتها خلال العمليات الأخيرة في غزة ولبنان. كان من المقرر أن يجتمع وزير الدفاع...
الحالة العامّة للأسرة والمرأة في الجاهليّة قبيل ولادة النبيّ صلى الله عليه وسلم
عند الإطلالة على حالة عموم النساء في المجتمع الجاهليّ، وما اكتنف الأسرة آنذاك، فيمكننا وصف وتقييم الحالة بعبارة واحدة، وهي: انتكاس الفطرة، وتشوّه معنى الرجولة، وغيبوبة الأخلاق. كان الزواج يتمّ على أنواع عدة، كلّها إلا واحدًا يظهر مدى الانحدار القيمي والظلام الأخلاقي،...
ما بعد الاستعمار.. وفتح الجراح القديمة
من الملاحظ أنه في عصرنا، عصر العولمة، نجد أن الثقافات والهويات العربية أصبحت تتعرض لضغوط غير مسبوقة، لكي تكون مغمورة ومنسية ومجهولة، نتيجة الانفتاح الكبير على العالم، وتأثير الثقافة الغربية وغزوها للعقول العربية، لا سيما فئة الشباب؛ فتأثيرات العولمة عميقة ومعقدة...
0 تعليق