كلاب الحراسة!

بواسطة | أكتوبر 6, 2023

بواسطة | أكتوبر 6, 2023

كلاب الحراسة!

تحكي القصة أن فاجعة أصابت قوما، فشتت جمعهم، وتقطعت بهم سبل النجاة حتى شارفوا على الهلاك، وإذ بهم يرون رجلا يحمل في يمينه شعلة، ويمضي بخطو ثابت وبثقة ظاهرة، في اتجاه بعينه؛ راود بعضهم الأمل أن حامل الشعلة يعرف طريقا للنجاة .. فتبعوه.
مضى صاحبنا مسرعا والحشد من خلفه يكبُر، انتبه لهم فالتفت، فرأى في أعينهم الأمل، فأكمل سيره؛ هو يعلم جيدا أن لا بوصلة معه، ولا يعرف طريقا ولا يملك أملا.. كل ما هنالك أنه كان يمضي بائسا غير أن بؤس القوم كان أكبر، فأخطؤوا الظن، وهو.. استمرأ الأمر! فمشهد الجماهير وهي تتبعك ساحر، وتعلُّق العين بك يعطيك قدرا من الشعور بالعظمة، ومن يدري ما يخفيه القدر، أليس من الممكن أن يكون هذا طريق النجاة!؟
مضى صاحبنا حاملاً شعلته والجماهير من خلفه، وإذ به بعد طول مسير يبصر خندقا أمامه، أُسقط في يده، ارتبك، لم يدرِ أي الخيارين أسلم.. أيصرخ في الناس أن توقفوا، فيُكشف أمره وتفتك به الجماهير الغاضبة المخدوعة، أم يستمر في السير، ويهلك الجميع بالتدافع؟.. صاحبنا ربما بدأ مشواره التعس بحسن نية، ربما أراد أن يعطيَ الأمل لأناس أهلكهم اليأس، وربما راقه موقع القيادة، كل هذا لا يهم، المهم أنه هلك .. وأهلك من معه.
لقد غلبه الهروب إلى الأمام فلم يدرك أن حشد الجماهير خطر، والمضي بدافع الحماسة مرعب، وأن الحشود الهادرة لا تسمح لك بمراجعة خطواتك، ولا مراجعتهم؛ لاسيما إن كان عقدك معهم لا يتضمن إلا شرطا واحدا مفاده.. أغمضوا أعينكم واتبعوني.
هذه الحكاية لا نقرؤها في قصص الأطفال فحسب، إنها مأساة أُمّة ابتُليت بقادة ورموز ودعاة وأحزاب سياسية وجماعات دينية، استخدموا الخطابة أسلوبا، وقصف الجبهات منهجا، وادعاء الصواب خديعة ومَكرا؛ فصار الأتباع أشبه بكلاب حراسة، يحرسون الرمز والفكرة، ويتغذون كل يوم على ضحية جديدة يلقيها لهم صاحبهم.
ومع الوقت يصبح هو نفسه في خطر، لكنه مضطر للاستمرار في طريقه حتى وإن بدا له أن لا نهاية مشرقة في نهاية المشوار، ولا قيمة متحققة ستحدث.. إن صارحهم بما استجد في تفكيره سيصبح وجبتهم القادمة، إذ إنه وهو يربيهم أسقط من حساباته تربيتهم على مبادئ الحق وشرف الحقيقة، على أنه ليس نبيا، وفكرته ليست مقدسة، واجتهاداته ليست معصومة، ومنهجه ـالذي صار منهجهم- محل نقاش وأخد ورد.
عندما تعجَّب المسلمون مما حدث لهم في معركة أحد، جاء القرآن الكريم ليوقظهم، ويهزهم، ويصدمهم بالحقيقة بلا تلاعب بالألفاظ، فلا مهرب من تحمل المسؤولية؛ فأكّد أن الهزيمة واردة، ومراجعة النفس فريضة، ومواجهتها أمر لا مناص منه، يقول ربنا جل اسمه: {أَوَلَمَّا أصابَتْكم مُصِيبةٌ قد أصبْتُم مثليها قلتم أنَّى هـذا قُل هو مِن عند أنفسكم إنَّ اللّهَ على كلّ شيءٍ قدير}. [آل عمران:165]
لم يجامل ربنا الفئة المؤمنة الوحيدة على سطح الأرض، لم يسمح لهم بادعاء المظلومية، ولم يفتح الباب أمامهم كي يهربوا من مصادمة النفس وإدانتها، وعليه فقد تعلموا الدرس، ليس فقط الدرس المباشر في أهمية طاعة القائد، وإنما أيضا درسا آخر مفاده أنه حتى وإن كنت في الجانب الصحيح ـ كما ترى وتدعي ـ فهذا لا يعصمك من الخطأ، ولا يعطيك مبرراً كي تخفي أتربة أخطائك تحت سجادة الأوجاع!
لقد اشتقنا لقائد أو زعيم أو رئيس يعتذر، لداعية أو عالم أو مفكر يخرج علينا معلنا خطأ آرائه ومواقفه وأفكاره، لنسمع عن حزب سياسي يعلن خلل رؤيته أو منطقه أو سياساته، عن جماعة تطرح مراجعاتها وتصحح مسارها الذي أصابه عطب، أو جمود، أو تهور.. لكن هذا لا يحدث عندنا، لأننا ألقينا خطاب المنطق واستبدلنا به خطاب الحرب، وفي الحرب لا مجال للالتفات إلى الخلف، المضي قُدُماً دائما هو الحل هاهنا، حتى وإن تأكد لنا عوار منطقنا وعوج ما نفعله؛ فقد وضعنا أنفسنا بين مطرقة الأتباع المندفعة، وسندان الأعداء الشامتة.
إن جزءا غير هين من بلاء هذه الأمة منبته غطرسة الكبار، الذين يدَّعون وصلاً بالإسلام غير أنهم لم يتعلموا منه أدبيات الاعتذار، يدَّعون الاقتداء برسوله دون أن يتأملوا تواضعه ـ وهو النبي ـ إذ يستمع لكل رأي، ويحترم كل فكرة، ويستشير كل صاحب نظر، ولطالما راجعه أصحابه في قرار أو أكثر، وهو راضٍ وممتنّ.
لا حل لمأزقنا إلا بتربية الناس على أن الاتّباع الأعمى خطر، والسمع والطاعة دون وعي لا يقدمان حلاً ولا ينيران طريقا، وأن الحقيقة هي المقصد والغاية، وما دونها أسباب ووسائل.. لا حل إلا بتعظيم قيمة الاعتذار في النفوس، نفوس القادة قبل نفوس الأتباع.. وأن نربي أحرارا، لا كلاب حراسة!
لقد عاتب ربنا نبيه -وهو الحبيب- على خشيته من صدم الناس بقرار قد لا تتحمله نفوسهم قائلاً سبحانه: {.. وَتُخْفِي في نفسكَ ما اللَّهُ مُبْدِيه وَتخشى النّاسَ واللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تخشاه..}. [الأحزاب: 37]
لا مندوحة إذا من فهم هذا الدرس، ولا أعذار تبيح التقصير.. وإن الحق هو الهدف، والحقيقة هي الغاية.
هذا إن أردنا أن نعيش شرفاء، ونُعذر أمام الله.. حتى وإن لفظتنا الجماهير.
وعلى الله قصد السبيل..

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من...

قراءة المزيد
Loading...