كيف انتصر روسو للتاريخ الإسلامي

بواسطة | يوليو 2, 2023

بواسطة | يوليو 2, 2023

كيف انتصر روسو للتاريخ الإسلامي

مجدداً يعود روسو* للتاريخ بعد أن رفضه في المرحلة الأولى لعمر الطفولة لإيميل، ويسرد عدة قواعد مهمة جداً ذات وعي موضوعي بشأن ماهية التاريخ الذي نحتاجه لمرحلة التأهيل للفتيان، وكيفية تحويل حوادثه وسير شخصياته لموضع التحفيز الإيجابي.
هذا يطرح سؤالاً آخر عن مرجعية التأهيل التي يسعى لها روسو، وهو يعلن رفضه لقانون المساواة المدنية لأنها -حسب رأيه- خيالية فارغة، فهي تُفرّغ لصالح القوى المتمكنة في النظام السياسي الاجتماعي، وتسحق الضعيف؛ وبذلك يَعتبر روسو النظام المدني، حسب اصطلاحه، أداة وصول لهذا التناقض بين المعلن والممارسة، الذي يُكرّس وضع الأغلبية كضحية للأقلية. وبالتالي، فإن روسو لا يتحدث في مشروعه التصحيحي عن القانون المكتوب فقط، ولكن أيضاً عن الوعي المطلوب زارعته في روح المواطنة؛ ولذلك يُطلق رحلته الأولى في دراسة التاريخ عبر البحث عما أسماه (القلب البشري) لزرع القيم بين الناس، في جيل إميل وما بعده. (كتاب إيميل في التربية)

يثير روسو طريقة التعاطي مع الأسطورة، ورغم دعوته لإعادة طرحها فإنه يكره أن تنتهي إلى فكرة تُعظّم الذات الشريرة، بسبب فقدان النشء قدرة القياس واستخلاص الحكمة التي تُستقى من الأسطورة

هذا التساؤل في البحث عن القلب الطبيعي يعود اليوم بقوة في تقييم بنود القيم الدستورية والقانونية، فإلى أين تتجه في عالم اليوم؟ وهل تحقق معياراً إنسانياً يتكرس في حياة البشرية؟ أم إنهُ يَنقضُ ذاته بذاته؟.
رحلة روسو تجسّدت جغرافيتها في أوروبا الحديثة، وتأثرت بها بقية جغرافيا أمريكا الشمالية. ولذلك فذات المبدأ يحتاج إلى صناعة تفكيك وتفكير في السعي للوصول إلى هذا القلب الذي يدافع عنه روسو، ويدافع بقوة عن بشريته واقترابه من الطبيعة. وإن ما يجري في عالم اليوم منذ عقود وأكثر هو العكس.
نتحدث هنا عن تطبيقات القانون الدستوري في الغرب، وعن خضوع الأمم المتحدة والمنظمات الدولية له، لا عن تعامل الغرب ذاته مع العالم الجنوبي؛ فهذه الموازين مهدومة منذ الغرب القديم إلى آخر نسخة من مشروع الغرب الحديث ورأسماليته، وازدواجية المعايير تحكم علاقاته مع الأمم الأخرى. ولذلك نسأل: أين حقوق الإنسان (الطبيعي) في عالم الآلة والتسليع والجندر؟. وأين تقترب الطبيعة أو تُغتال في تطورات هذا العالم؟ وبالتالي، ما هو موقف روسو منها لو بُعث بيننا؟.
يثير روسو طريقة التعاطي مع الأسطورة، ورغم دعوته لإعادة طرحها فإنه يكره أن تنتهي إلى فكرة تُعظّم الذات الشريرة، بسبب فقدان النشء قدرة القياس واستخلاص الحكمة التي تُستقى من الأسطورة، وتحديد معاييرها، إذا تُرك للفتى الاستنتاج دون إملاء من أحد.
يؤطّر روسو مساراً مهماً، في فرز التاريخ توقفت عنده بعمق، وهو أن التاريخ يسلط الضوء على الوقائع الكبرى والحروب، وليس على حياة المجتمعات وقياس الخيرية فيها، أو تحليل الحياة الاجتماعية للناس، وروح القيم وحضور القلب الطبيعي الذي يُساوي بين الناس وينحاز للإحسان في تاريخ هذه الشعوب. ويهوي روسو على أرشيف التاريخ في الغرب، حتى أنه يصل لسنة 45 بعد الميلاد، حيث لا يرى أحداً جديراً بمقصده من التاريخ بعد بلوطرخرس (بلوتارك)، وكتابه (السير المقارنة لعظماء الرومان واليونان).
ودافع هذا الانتخاب عند روسو أن بلوتارك يتعقب السيرة الذاتية والحياتية لشخصياته، فيعطينا صورة أكثر دقة وحقيقة من التاريخ الذي تُكتب وقائعه بناء على الأحداث وحسب رؤية المؤرخ، وقد تتناقض الرؤية لذات الحدث حين تُصاغ من مؤرِخَيْن لكل منهما منظاره الخاص، فضلاً عن مصداقية الواقعة؛ وهذا اعتراض مهم صحيح، لكنه لا يعني بالضرورة نسف القصة الكبرى في الحدث، ولا يُعمَّم ذلك على كل المؤرخين.
وفي الحقيقة، إن أهم ظُلم وقع في جانب الاستدعاء القيمي والحضاري للتاريخ كان على تاريخ المسلمين أنفسهم، الذي صِيغَ – باستثناءات قليلة- من مؤرخين مسلمين؛ فلو طبقنا قاعدة روسو، لوجدنا أن جزءاً كبيراً واسعاً من تاريخ المسلمين، قد تاه في زوايا الحروب والصراعات الداخلية؛ وأول من حدّثَ العالم عن هذا الجانب، وأنه لا يمثل منهج الإسلام ولا رسالة الوحي، هو النبي -صلى الله عليه وسلم- في تحديده لتاريخ الفتن والحكم الجبري، وسيطرة سلاطين التاريخ على رقاب المسلمين.

رغم أن المقصد التشريعي الغربي كانت أرضيته تتجه لقانون عدالة دستورية، فإنها نَقضت روح الإنسان رويداً رويداً، فهي لا تعترف بالقلب الطبيعي الذي يبحث عنه روسو، بل بالقلب الصناعي الذي أنشأ إمبراطوريته الإنسانوية تحت المطلق المادي

ولو طبقنا منظار روسو لأعدنا تحرير تاريخ الإسلام بصورة مختلفة، وأنا لا أنفي هنا وجود روح منهجية رشيدة في بعض مصادر التاريخ، ومحاولات تصحيح له، لكن الكتلة الكبرى لا تزال تجثم على الموقف التاريخي للمسلمين، ويعاد ترويجها بأدوات منحازة كلياً في الشرق والغرب.
 كما أن إشارة روسو إلى أن ذكر الحرب أو المعركة، دون الغوص في دوافعها أو ميزان اشتعالها، أسقط القدرة على تقييمها بميزان العدالة الإنسانية، التي يُسمّيها هنا طبيعية، وهذا منسحب كذلك على ضجيج الاحتفاء، الذي يحيط بعض المسلمين به بعض الحروب في تاريخ السلاطين، وهي في أصلها بغيٌ وانحراف وإسقاط لعدالة التشريع الإسلامي.
والمفاجأة الثانية هنا، هي أن روسو قد طبق هذه القاعدة في حديثه عن تاريخ النبي -صلى الله عليه وسلم- والخلفاء الراشدين تحديداً، وذلك في الفصول الأخيرة من العقد الاجتماعي*، في ظل ما وصله من هذا التاريخ، ففَعّل فيه هذا المجهر، ووصل إلى مدح هذا التاريخ والثناء عليه، ثم قال إن ذلك قد نُقض بعضه أو أكثره، مع تطور الإمبراطورية الإسلامية واتساع رقعتها في عهود السلاطين المختلفة.
وهذه القاعدة ذاتها تعيد فهمنا لحياة المجتمعات المسلمة، حتى في عهود المستبدين الأوائل، وتبين أن صناعة الحضارة سادت جغرافيا العالم، وحقيقة التعايش رسخها حضور مفهوم التقوى الإسلامية في ضمير الناس وفي سلوكهم وفنونهم، وهذه التقوى (الجوانية)، هي إحدى مصطلحات الدلالة لفهم الفرق بين حضارة الإنسان والعمران الأخلاقية في فلسفة الإسلام، وبين حضارة الآلة والمبنى والمصلحة المادية التي انطلقت في الغرب، ووصلت إلى أزمتها في الحداثة المادية المعاصرة.
رغم أن المقصد التشريعي الغربي كانت أرضيته تتجه لقانون عدالة دستورية، فإنها نَقضت روح الإنسان رويداً رويداً، فهي لا تعترف بالقلب الطبيعي الذي يبحث عنه روسو، بل بالقلب الصناعي الذي أنشأ إمبراطوريته الإنسانوية تحت المطلق المادي، فأضحت المادية الشرسة مفسرة للروح والجسد، فطُمر الإنسان المعذّب تحتها.
________________________________________
* جان جاك روسو 1712 – 1778 م فليسوف فرنسي من أبرز شخصيات فلاسفة التنوير في تاريخ الغرب
● كتاب إميل في التربية لروسو
● العقد الاجتماعي لروسو ألفه 1762 م وهو من أهم كتب الفقه الدستوري في التاريخ الغربي، أثر في مقدمات الثورة الفرنسية وغيرها، من حركات الرفض الاجتماعي للعهود الملكية في الغرب.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من...

قراءة المزيد
Loading...