لغوٌ إعلامي يلغي العقل

بواسطة | أبريل 24, 2024

بواسطة | أبريل 24, 2024

لغوٌ إعلامي يلغي العقل

مع الانتشار الوبائي للبث التلفزيوني الفضائي، احتشد الأثير العربي بقنوات الشعوذة والدجل، وبأخرى تبث برامج تنقض الوضوء، وقد توجب الغسل لكونها تخاطب الغرائز على نحو مباشر أو مُلتوٍ، وصار نجوم تلك القنوات شخوص ببغاوات يرددون معلبات لفظية منتهية الصلاحية، ولا يحسنون سوى اللغو بلهجات عامية، تجد قبولا من العوام البسطاء، الذين ينفرون من القنوات الرسمية المخصصة لمسح الأجواخ وغسل العقول، وتصوير الغربان على أنهم حمائم.

قبل أعوام قليلة استضافت مقدمة برامج في قناة تلفزيونية فضائية عربية مطربا كويتيا، وفي سياق الحوار معه طلبت يده للزواج، وبالتأكيد فإنها لم تكن جادة في سؤال ضيفها ما إذا كان مستعدا للزواج بها. بالمواصفات التي رأيتها بها (من حيث التضاريس)، لو كتبت في تويتر “بدي عريس” لتقدم للزواج بها آلاف المليونيرات، من بينهم دونالد ترامب (زوجته الحالية ميلانيا ترتيبها الثالث بين زوجاته، والعاشر بين الزوجات والـ”غيرل فريندات”، أي الصديقات اللواتي عاشرهن لسنوات طوال).

حكاية المذيعة هذه مع ضيفها الكويتي لا تنم فقط عن استخفاف بالمؤسسة الزوجية، بل هي دليل على أن الإعلام العربي – وعلى وجه الخصوص القنوات التلفزيونية التجارية- تستخف بالجمهور المتلقي؛ وما هو حادث في مجال التلفزة العربية منذ نحو ثلاثة عقود، هو تعريب البرامج التلفزيونية الأمريكية، ثم إيكال تقديمها لأشخاص عارين من الموهبة، ويحسبون أن خفة الروح تأتي من خفة العقل.

وهكذا كان التفشي الوبائي لشخصيات تقدم برامج تلفزيونية تافهة وسخيفة بلغة سوقية؛ ولأن المَهرب من هذه الفئة من مقدمي البرامج، يكون باللجوء إلى القنوات العربية الرسمية، المتخصصة في الإفك والتدليس، فقد وجد المشاهد العربي نفسه بين أمرين أحلاهما مر.. وبداهة، فإن اللغو المشوب بالهذر والتهريج والطرب، أخف على النفس من اللغو الهادف إلى إلغاء واحتقار العقل، ولهذا انتصرت القنوات التلفزيونية التجارية على رصيفاتها الرسمية.

وشيئا فشيئا صارت نسبة عالية من جمهور التلفزيون في الدول العربية خفيفة العقل، وصار مهند التركي، بطل مسلسل “نور” المدبلج، معشوق المراهقات العربيات، وصارت النساء العربيات يعايرننا بأننا لسنا رومانسيين كما مهند؛ ونحن فعلا لسنا رومانسيين لأن مواطننا الأصلية في آسيا وأفريقيا. (الرومانسية مشتقة من رومانس، وتعني أصلا جنس القصص التي تدور حول الحب وجمال الطبيعة، وجذر الكلمة لاتيني، وهناك عصر كامل للأدب الأوربي يسمى بالـ”رومانسي”، جاء كترياق مضاد للقبح الذي لازم الثورة الصناعية، وكان جوهره تمجيد جمال الطبيعة من ماء وشجر ونسيم وحجر، وبعبارة أخرى فإن الرومانسية لا تخص رجال أو نساء الغرب أو العرب، أو العلاقة العاطفية بين الجنسين).

وصنعت التلفزيونات العربية أيقونات أخرى، معظمها من أهل الطرب والتمثيل والرقص، لدرجة أن استطلاعا للرأي شمل آلاف العرب، تضمن سؤالا عن الشيخ محمد عبده، فكان أن أبدى غالبية من استُطلعت آراؤهم العجب، لأنهم لا يعرفون متى تحول محمد عبده  من مطرب إلى شيخ، وصار بعض مقدمي البرامج التلفزيونية “نجوما” رغم أن ما يأتونه على الشاشات يوحي بأنهم قرود في سيرك، وللناس في ما يعشقون مذاهب، وهكذا فجماهيرية عمرو دياب في مصر أعلى من جماهيرية عمرو موسى، الذي لم يسمع به عرب كثيرون، إلا بعد أن أعلن  شعبان عبد الرحيم عن  حبه  له، وكرهه لإسرائيل.

وإليكم المثال الكلاسيكي عن النجومية الزائفة التي صنعتها الفضائيات العربية.. برنامج “من سيربح المليون”، الذي هو أصلا بريطاني الجنسية “Whowants to be a Millionaire?”، ثم صارت له نسخة أمريكية، ثم تم تعريبه وتكليف جورج قرداحي بتقديمه عبر قناة إم بي سي الأولى، وحظي البرنامج بمشاهدة عالية جدا لأمرين؛ أولهما أن جلسة تنتهي بحصول شخص ما على المليون، أو جزء من المليون، مشوقة للغاية، وثانيهما أن كثيرين ممن جلسوا أمام  قرداحي ليجيبوا على أسئلة، وأمامهم أربعة “خيارات” للجواب الصحيح لكل سؤال، مستندين إلى ما في أدمغتهم من معلومات، أو مستعينين بالجمهور الموجود في الاستوديو لحظة تسجيل البرنامج، أو بالاتصال الهاتفي بمن يأنسون فيهم القدرة على الإتيان بالأجوبة الصحيحة، كانوا على درجة رفيعة من الجهل والغباء.. ما هي عاصمة السودان: استوكهولم – الخرطوم – البلعوم – أم  كلثوم؟ وتكون الإجابة بعد حك الراس والاستعانة بالجمهور الحضور هي “البلعوم”.

والشاهد ليس في برنامج “من سيربح المليون” في حد ذاته، بل في مقدمه جورج قرداحي، الذي كان كل دوره أن يطرح أسئلة قصيرة، ثم – وبعد أن يقدم المتسابق إجابته على كل سؤال- يضع إصبعا على شفتيه لزهاء 30 ثانية (تشويق)، ثم يصيح: “إجابة صحيحة/ خطأ”، ويذكّر المتسابق بين الحين والآخر أن من حقه الانسحاب من البرنامج، بما كسب من مال، أو المجازفة بأن يخسر كل ما كسب، إذا لم يفلح في أن يقدم إجابات صحيحة على الأسئلة التالية.

هذا القرداحي، حسب أنه صار “رجلا بمليون رجل”، وأنه ليلة القدر، وكأنما المبالغ التي يفوز بها المتسابقون تخرج من جيبه الخاص، وهكذا وبالاتفاق مع شركة أوربية أنتج عطرا يحمل اسمه وصورته. “المشكلة” في ذلك العطر أنه كان رجاليا، أي أن قرداحي حسب أنه “معبود” الرجال، في حين أن الرجل السوي الذي يعتقد أنه في منتهى الحلاوة شكلا وروحا، يميل إلى الاعتقاد بأنه ساحر النساء. وقرداحي وسيم الملامح والتقاطيع، ولكن اعتقاده بأن ذلك يجعل الرجال منجذبين إليه، ليتهافتوا في الحصول على عطر يحمل اسمه وصورته، ينم عن خفة عقل، وحسن ظن بالنفس وصل حد النرجسية، وسوء ظن بالرجال، وكان بدهيا أن يعاني قرداحي من تضخم الأنا، فكان أن شايع أسد سوريا في بطشه بمواطنيه، ففقد عمله في قناة إم بي سي، ولكن عوضه الله خيرا، فقد صار وزيرا للإعلام في لبنان، ولكن لـ64 يوما ما بين سبتمبر وديسمبر 2021.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من...

قراءة المزيد
Loading...