المجلة التي وضعت الكويت على الخارطة العربية قبل استقلالها

بواسطة | يناير 6, 2024

بواسطة | يناير 6, 2024

المجلة التي وضعت الكويت على الخارطة العربية قبل استقلالها

تأسست مجلة العربي في عام 1958 بهدف توظيف العائدات النفطية للكويت توظيفًا تنمويًا وثقافيًا. شهدت المجلة تأثيرًا كبيرًا في العالم العربي، لكنها تراجعت تدريجياً بسبب التحولات الثقافية والأحداث السياسية، خاصة بعد الغزو العراقي للكويت في 1990.

المجلة الثقافية “العربي”: تاريخ تأسيسها وتأثيرها على الثقافة العربية

عادة ما تُعرف البلدان في العالم في ظروف حرب أو أزمة سياسية أو اقتصادية أو كارثة طبيعية، لكن العالم العربي عرف الكويت في عام 1958 عن طريق مجلة ثقافية هي “مجلة العربي”، التي تمر الذكرى الخامسة والستون لإصدارها الأول في هذه الأيام، لتصبح هذه المجلة رمزاً ثقافياً وقوة ناعمة كويتية، استمرت لعقود في العالم العربي.

أوضِح في هذه المقالة تاريخ نشأة “مجلة العربي” وكواليس تأسيسها والأهداف التي أُسست من أجلها، من خلال تتبع أحاديث مؤسسيها، وأَستعرض تحوُّل المجلة إلى حالة ثقافية في بلد عربي لم يكن له إرث ثقافي كبير، مقارنة بحواضر الوطن العربي آنذاك مثل دمشق والقاهرة، ثم تضاؤل الاهتمام بها وصولاً إلى حالتها اليوم؛ إذ إنها رغم صدورها المستمر أصبحت منسية لا تأثير لها على الثقافة العربية.

أهداف التأسيس

جاءت نشأة مجلة العربي، بحسب ما يقول الشيخ صباح الأحمد الصباح، الذي كان مديراً للمعارف والنشر في  لحظة تأسيسها، مدفوعة بتأكيد أن “الكويت لا تُصدّر النفط فحسب، بل تسعى لتوظيف عائداتها توظيفاً تنموياً يتجاوز حدود بلادنا، ومجلة العربي هي نموذج لهذا التوظيف الثقافي التنموي”.

كانت هذه الكلمات التي كتبها الشيخ صباح الأحمد في مقالة له، بمناسبة الذكرى الخامسة والعشرين لتأسيس مجلة العربي، إفصاحاً عن البواعث التي دفعت حكومة دولة نفطية صغيرة على شطآن الخليج العربي، لم يتحقق استقلالها عن الحماية البريطانية بعد، ولم تكن الحركة الصحفية فيها ظاهرة، لأن تُنشئ “مجلة ثقافية لكل الوطن العربي”.

يمكن إجمال أسباب إنشاء مجلة العربي في الكويت ضمن عوامل محلية وعوامل خارجية وعوامل ذاتية، وذلك بحسب الشهادات التي كتبها المساهمون في تأسيسها مثل المثقف والسياسي الكويتي بدر خالد البدر – صاحب فكرة إنشائها عام 1954- والشاعر والأديب الكويتي أحمد السقاف الذي ساهم في إنشائها، ثم الشيخ صباح الأحمد.

تتمثل العوامل الخارجية في موجة القومية العربية التي ضربت المنطقة آنذاك، خصوصاً بعد ثورة يوليو في مصر عام 1952، والتي كانت الجماهير العربية – بما في ذلك الشعب الكويتي- مؤيدة لها بشكل كبير، ما جعل الحكومة في الكويت تتوجس قلقاً منها، لكن علو الموجة وارتباط الأفكار القومية بقضية فلسطين وتعاطف الشعوب معها جعل الحكومة الكويتية تسير معها. وكانت مجلة العربي واحدة من الأدوات الثقافية التي تُعرّف العالم العربي بإمارة “قومية” اسمها الكويت، لتؤكد أنها ليست إمارة “رجعية نفطية تحت الحماية البريطانية” كما كان الإعلام القومي يصوّر الدول الملكية في الوطن العربي.

أما العوامل الداخلية فتتلخص بالرغبة في دمج المثقفين الكويتيين، الذين عادوا إلى الكويت بعد ابتعاثهم للدراسة في البلدان العربية أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي، في مؤسسات الدولة ليساهموا في بنائها، بدلاً من تحويلهم لأعداء لها كما حدث في دول عربية أخرى.

ولا يمكن إنكار العوامل الذاتية، أي رغبة الشيوخ الشباب في الكويت آنذاك – ومنهم الشيخ صباح الأحمد الصباح ثم الشيخ جابر العلي الصباح اللذان توليا إدارة قطاعات الثقافة والفكر على فترات في الكويت- في تسجيل إنجازات شخصية لهم، والحصول على مجد في الأوساط الأدبية والإعلامية الثقافية العربية.

مرحلة التأسيس

بدأت فكرة مجلة العربي عام 1954، كملحق أدبي لجريدة الكويت الرسمية “الكويت اليوم”، التي تعلن عن القرارات الحكومية؛ لكن هذه الفكرة البسيطة تقاطعت مع العوامل التي ذكرناها أعلاه في أهداف التأسيس، ونمت خلال أربع سنوات من الاستشارات لكبار المثقفين العرب، لتصبح تأسيساً لمجلة ثقافية مستقلة موجهة في المقام الأول للوطن العربي.

يقول بدر خالد البدر، مدير دائرة المطبوعات والنشر آنذاك، إن الفريق الكويتي المشرف على إصدار المجلة بدأ بعقد الاجتماع تلو الاجتماع، وكان أعضاؤه يستشيرون كل من يزور الكويت من المثقفين والأدباء والصحافيين العرب حول شكل المجلة المقترح بعد أن يوضحوا لهم أهدافها، وذلك لتلافي أي نقص أو خلل بسبب حداثة التجربة على البلاد فيما يبدو.

أحد الذين كانوا يزورون الكويت أثناء الإعداد لانطلاقة مجلة العربي كان الصحفي اللبناني سليم اللوزي، الذي توفي مقتولاً فيما بعد عام 1980 أثناء الحرب الأهلية اللبنانية.. اطلع سليم اللوزي على الفكرة وحاول جاهداً أن يصدر العدد الأول من المجلة باسمه ليضيف إلى المجلات التي أصدرها مجلة جديدة في سيرته الذاتية، لكن مسؤولي المجلة الكويتيين رفضوا محاولات اللوزي جر المجلة إليه، فلم يكونوا يريدون مجلة صفراء على طراز مجلات اللوزي، مثل الحوادث والمصور، بل كانوا يريدون شيئاً رصيناً وراسخاً يقدم الفائدة ويمتد لفترة أطول، كما يروي أحمد السقاف الذي تولى مهمة البحث عن فريق تحريري يدير المجلة.

 استصعب اللوزي فكرة الكويتيين بإقناع كبار الأدباء العرب ترك العواصم العربية الكبيرة آنذاك والعيش في الكويت لتحرير المجلة، لكن السقاف كان مصرّاً على تنفيذ رؤيته.. سافر السقاف عام 1957 إلى عدد من المدن العربية، وكان في ذهنه اسمان لإدارة تحرير المجلة هما فؤاد صروف وأحمد زكي، فذهب إلى بغداد والتقى بعدد من المثقفين العراقيين واستكتبهم للمجلة، وكان منهم المؤرخ عبدالعزيز الدوري ومحمد بهجة الأثري وحارث طه الراوي، ثم انطلق إلى بيروت والتقى بمنير بعلبكي ونقولا زيادة، وعرض إدارة المجلة على فؤاد صروف الذي اعتذر بسبب انشغاله، وأثنى على اختيار أحمد زكي لإدارة المجلة؛ كما التقى بسهيل إدريس، الذي أبدى استعداده للعمل في المجلة إذا كانت تنطلق من بيروت، لكن أحمد السقاف رفض الفكرة، وأكد أن مقرها سيكون في الكويت. والتقى السقاف أثناء زيارته في دمشق بعلي الطنطاوي وسعيد الأفغاني وأمجد الطرابلسي، فأثنوا على فكرة المجلة وأعجبوا بها، ثم كان ختام الرحلة في القاهرة، حيث التقى بأحمد زكي وكانت البداية.

كان أحمد زكي قد بلغ في مصر ما بلغ من العلم والجاه والحظوة، ووصل إلى رتبة الباشوية قبل ثورة يوليو 1952، وكان متهيباً من ترك القاهرة – عاصمة العرب آنذاك- والذهاب إلى بلد صغير اسمه الكويت، فلم تكن الكويت بلداً مترفاً كما هي عليه اليوم، إنما كانت في بدايات ظهورها ونهضتها، وكان لأحمد زكي زيارة سابقة للكويت، فهو يعرف ما سيجد فيها.. لكن أحمد زكي وافق بعد إقناع السقاف له بمشروع “العربي”، وشرع السقاف باختيار الكوادر التحريرية والفنية للمجلة؛ فتعاقد مع أشهر مصور آنذاك وهو أوسكار متري، والمخرج الفني سليم زبال من جريدة “أخبار اليوم”، وهو ما دفع بمصطفى أمين لمعاتبة السقاف “برقة” كما يصف.

ثم كانت البقية من التاريخ ..

طبعت مجلة العربي 30 ألف نسخة في أول عدد لها، وانتشرت انتشاراً مدوياً في العالم العربي، وجاءت الرسائل من كل حدب وصوب تثني على المجلة وتطالب بالمزيد، حتى وصل عدد النسخ المطبوعة من كل عدد في عام 1990 إلى مائة ألف نسخة في مصر وحدها!. لكن فتور الهمة الثقافية، وسوء الإدارة البيروقراطية، وغياب الأفكار التجديدية في المجلة، وعدم لحاق الكويت بركب الثقافة العربية الناتج عن حالة الإحباط من الأفكار القومية بعد الغزو العراقي للكويت عام 1990، أدى إلى تضاؤل المجلة شيئاً فشيئاً.

ورغم أن العربي لا تزال تُطبع وتُوزع من الكويت، فإن وهجها الأدبي والفكري والثقافي، ودورها كمحرك رئيس في الثقافة العربية، قد توارى بشكل كبير.

خالد تركي

حاصل على درجة الماجستير في العلوم السياسية والعلاقات الدولية

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من...

قراءة المزيد
Loading...