محاولة التهام صديق

بواسطة | ديسمبر 30, 2023

بواسطة | ديسمبر 30, 2023

محاولة التهام صديق

تحكي هذه القصة عن علاقة فريدة ومميزة بين الإنسان والحيوان، تلك العلاقة التي تتطور مع مرور الوقت وتتشكل بأحداث مفاجئة. فكيف يمكن أن يتغير تفكير الإنسان حيال الحيوانات وينشأ رابط عاطفي قوي؟

بداية الصداقة وتطور العلاقة

لا أدري السبب الذي دفع بأبي أن يقترح عليَّ أن أستثمر المال، الذي حصلتُ عليه من الأهل والأصدقاء بمناسبة تفوقي في عامي الأخير بالمرحلة الابتدائية.. وجاء خروف صغير!

لا أعتقد أنه كان يؤمن وقتها بأن وجود حيوان في البيت يساعد في مسائل الصحة النفسية للأطفال، وأغلب الظن أن وجود حديقة كبيرة، وغرفة تصلح سكنى للضيف الجديد، بالإضافة إلى أننا أبناء قرية، وبالتالي يتوفر مرعى مناسب وصحبة صالحة من أغنام الجيران؛ هذه الأشياء ربما كانت هي السبب!

وكان أن استيقظت من نومي في صباح صيفي على صوت خروف يملأ بيتنا، ذهبت مسرعاً إلى الحديقة، لأُفاجَأ بالوافد الجديد الذي علمت أنه فُطم لتوه، وأن سبب بكائه وحشة انفصاله عن الأم؛ فما كان مني إلا أن هرعت من فوري، وأحضرت له الماء والطعام، وأخذت في تدليله، والاعتناء به، حتى استكان واطمأن.

مرت الأيام والشهور، وتطورت علاقتنا بشكل لافت للنظر، إذ إن الخروف – الذي أسميته “فهد” وكنت أصحبه معي في الحقول أثناء مذاكرة دروسي أو اللعب مع الأصدقاء- صار يتعامل معي كصديق؛ ما إن يسمع صوتي حتى يقفز في سعادة، أناديه فيجري نحوي بخفة تحسده عليها الكلاب المدربة، يجلس متى أمرته، ويصمت حين أخبره، ولطالما لعبنا سويا، حتى خُيِّل إليّ أنه يبتسم ويضحك ويحزن.. ويداري خيبة أمل حينما يراني حزينا فلا يستطيع فعل شيء!

حقائق ودروس

لقد كبرت يومها كثيراً، ابن العاشرة وُضع أمام حقيقتين سيوضع أمامهما كثيراً في حياته القادمة، 

الحقيقة الأولى

إن أصعب شيء هو أن تضطر لشرح مشاعرك، فهمت حينها لماذا أسرَّها يوسف في نفسه ولم يُبدِها لإخوته، لأن ما بداخلنا كثيراً ما تعجز اللغة عن إيصاله، ويحتار العقل في شرحه، ويضيق الصدر بإخراجه مرتباً، صارعندي مذ ذاك اليوم صندوق أسود لا يصل إليه أحد، أضع فيه مشاعري الخاصة، وما تبقى من فِكَر وقناعات يضيق بها الناس.. بلى، إن أشد المعضلات توضيح الواضحات، فما بالك إن كان الواضح في يقيني غامضاً في عينيك؟!

الحقيقة الثانية

الحقيقة الثانية التي استقرت في وعيي، أن المصلحة المادية والتفكير البراجماتي سينادياني كثيراً في قادم الأيام، إذ إن دعوتي لالتهام لحم صديقي فهد سيتبعها دعوات كثيرة تبدو منطقية ونفعية وضرورية، مثل الصمت على الظلم ما دام لا يمسني من قريب، والرضا بالذل لأن طيف الكرامة باهظ التكلفة.. لقد عشت ورأيت هذا كثيراً، رأيت كيف دخلت القيم والمشاعر والأحاسيس في فرن المصلحة، وخرجت نفاقاً، وتدليساً!

الحكمة والصمود

وحدي سأرى فهداً صديقاً وفياً، وغيري سيراه لحم ضأن شهي.. وحدي سأرى فلسطين جرحاً نازفاً ووجعاً أبديّاً، بينما الملايين ستراها أزمة بعيدة أو خبراً سياسيّاً.. وحدي سأرى الناس مختبر إيمان المرء ودليل إنسانيته، في الوقت الذي يحسبهم غيري أرقاماً.

نعم، كنت ابن العاشرة حينما أدركت أن المسكين القابع على المائدة، لم يمر في حياتي بقدر ما مر على ضميري، وأن عليَّ إن أردت العيش هانئاً أن أتمسك بما أؤمن به، سواء أخفيته في صندوق أسود أو عبّرت عنه متحملاً ضرائب هذا الإعلان.

تعلمت أن قوانين الدنيا ليست أهم من قانوني الذي أملاه عليَّ ضميري، سواء فهمه الناس أم جهلوه.. تقبلوه أم سخروا منه.. رأوه نبلاً أو (عبطاً).

كل هذا لا يهم؛ ما يهم حقاً أن أنام آخر اليوم مرتاح البال، متّسقاً مع ذاتي، وأن أرحل في آخر العمر مرفوع الرأس، متجهزاً بإجاباتٍ عجز الخلق عن فهمها، غير أن الخالق يعلم مبدأها ومنتهاها ..وألا أَطعَم لحم صديقي أبداً، حتى وإن كان صديقي هذا خروفاً!

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من...

قراءة المزيد
Loading...