من سرق المنبر؟!

بواسطة | مايو 8, 2024

بواسطة | مايو 8, 2024

من سرق المنبر؟!

ليس محض موضعٍ يرتفع عليه الخطيب ويعلو عليه صوته؛ بل هو عنوان ارتفاع المبدأ وعلوّ العلم، وسيادة الفكرة وارتقاء العقل، وعروج العاطفة ورشد التفكّر، وتعلّق البصر بمواضع البصيرة.

والمنبر رمز لأصالة الدعوة قبل أصالة الابتكار، وجماليّة المضامين قبل جماليّة المظهر الفنّي، والتحلّق حول الهدف الجامع قبل الجلوس بين جدران المسجد الجامع.. بناه رسول الله صلى الله عليه وسلّم من أعواد بسيطة، فصنع من على درجاته أمّة عظيمة، فكان أداة تعليم مبادئ الإسلام الكبرى، وقضاياه الكليّة، وقيمه السامية، ووسيلةً للتدخّل العلاجيّ العاجل لتصويب أيّ انحراف عن المنهج، ومُرتقىً منه تُدار عمليّة الشورى الحقيقية، التي لا ترتقي الأمّة إلّا بها.

الطغاة أوّل من سرق المنبر

في عصر الاستبداد السياسي سرق الطغاة المنبر، فحولوه من أعظم وسيلة ترسّخ دوران الجماهير حول الفكرة إلى أداة لتكريس دوران الشعوب حول الشخص، وأي شخص؟! إنه شخص المستبدّ المتألّه، الذي حوّل المنبر من وسيلة لتعظيم الخالق وتقديسه في نفوس العباد، إلى وسيلة لتقديس الحاكم وتمجيده وتعظيمه في نفوس الرعيّة، وصار المنبر في عهد الاستبداد السياسي يجمع بين مدح الشريعة الطاهرة، التي تحرّر العقل والروح من علائق الاستبداد والخضوع لغير الله، ومدح الحاكم المستبدّ والدعاء له باسمه وآله وعياله وآبائه وأعوانه، وترسيخ الاستعباد، في تناقضٍ يربّي المسلم على تديّن مشوّه، يجمع التربية على الحرية والكرامة إلى الدعاء لمن يُخضع بالاستبداد رقاب الخلائق.

وفي أحطّ أدوار الاستبداد السياسي اغتُصِب المنبر، فتمّ التعامل معه بوصفه ملكيّة خاصة لوليّ الأمر؛ فغدت وزارات الأوقاف في بعض البلدان تفرض على الخطيب ما يقوله عليه ابتداءً بحمد الله تعالى وانتهاءً بحمد الحاكم المُلهم، وتوزّع على الخطباء خطبةً موحّدةً يقرؤونها في أنحاء البلاد بوصفهم آلات تسجيل، فمن زحزح عنها قيد حرف استُدعي وأُنّب، وتلقّى درسًا من محقّق صغير في أهمية طاعة وليّ الأمر.

وفي عصر الاستبداد السياسي في أردى مراحله، يغدو المنبر وسيلة للترويج لسياسات الحاكم، وإلباسها الثوب الشرعي مهما كانت تتناقض مع الإسلام ومبادئه، وتجميل الخضوع للظلم، وتدجين الشعب على القبول بالفقر واعتباره من الفضائل، وشكر الحاكم على مكرماته وعطاياه بوصفها منّةً شخصيّة منه على الشعب لا حقًّا مفروضًا.

لم يغتصب الاستبداد المنبر ويسرقه فحسب، بل مسَخه وشوّهه، وشوّه من خلاله الشريعة بتغييب كل ما لا يروق له منها، وسعى في تشويه أفكار المتديّنين ومسخ حقائق التديّن.

وهؤلاء سرقوا المنبر

ليس الطغاة والمستبدّون وحدهم من سرقوا المنبر؛ فلقد سرقه أيضًا من ارتقوه بغير كفاءة فضيّعوا وأضاعوا، وضلّوا وأضلّوا.

لقد سرق المنبر كثير من الكسالى الذين لا يكلفون أنفسهم عناء التحضير، ويستهترون بأنفسهم قبل استهتارهم بالمستمعين إليهم؛ فهم يعرِضون عقولهم على الناس، وفيهم أهل العلم والمعرفة والفكر والأدب، فتسقط هيبتُهم وهذا ليس بالأمر الجلل؛ لكنهم يُسقطون هيبة المنبر من نفوس الناس، وهيبة الشعيرة التي شُرعت لتحقيق تعظيم الشعائر في النفوس.

 كما سرق المنبر كَسيحُو اللّغة مشلُولو الفكر، الذين يؤذون الأسماع بنشاز ألفاظهم ولغتهم العرجاء، وعقيم أفكارهم المنحرفة أو الخاضعة لعصبيّاتهم الفكريّة والحزبيّة، ولمشاربهم ومدارسهم وتوجّهاتهم، ويتّخذون من المنبر ميدانًا لتفريغ عقدهم النفسية وضيق نفوسهم بالآخرين من المسلمين، بالصّراخ حينًا وبالهجاء والشتائم حينًا آخر.

لقد سرق المنبر من يقفون عليه كما الروبوت لتأدية مهمةٍ ثقيلة وهم في عجلة من أمرهم، يخرجون الأوراق من جيوبهم فيقرؤون الخطبة برتابةٍ تُنيم اليقظان وتميت الروح التوّاقة، ولا يستيقظ النيام إلّا عند صرخة من الخطيب لا محلّ لها في السياق، ولا معنى لها سوى الفهم الشائه لمعنى الإلقاء المؤثّر.

لقد سرق المنبرَ أيضًا أولئك الذين باعوا عقولهم بثمن بخس لأجهزة الأمن، فلا يرَون أنّهم يقفون على الوسيلة التي اتّخذها رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وورّثها لهم ليكونوا واقفين مكانه قولًا ومنهجًا وفعلًا؛ فهمّهم هو رضى المخبر عنهم، وغاية مُناهم أن يرضى عنهم فرع الأمن الموكّل بمتابعة المنابر والتأكّد من خضوعها لوليّ الأمر.

لقد سرق المنبر المنفصلون عن الواقع، الغرباء عن حياة الناس؛ الذين جعلوا المنبر في وادٍ بينما حياة الناس في واد آخر، فلا تجدهم يعرفون عن مستجدّات الحياة شيئًا، ولا عن مشكلات الناس المتجدّدة إلّا قشورها، ولا وجود عندهم لقضايا المسلمين وجراحهم الثّاغبة ومقدّساتهم المنتهكة ولو على مستوى الدعاء، فهم فاشلون في التشخيص وفاشلون في طرح العلاج، فصاروا أضحوكة، وحوّلوا المنبر إلى مساحة للتندّر بين الناس.

إنّ المنبر المسروق يتطلّع لاستعادته اليوم في زمن التيه والسيولة والضياع والهوان أكثر من أيّ وقت مضى ، ولن يستعيد المنبر المسروق إلّا رجالٌ علموا أنّ هذا المنبر هو ميراث رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فحملوا ميراثه من العلم المتين والمنهج القويم، والفهم العميق والحكمة البالغة والثبات الرّاسخ.

لن يستعيد المنبر المسروق إلّا رجالٌ رساليّون واسعو الأفق، كبار العقول والقلوب، كبار النفوس والأرواح، أحرارٌ حقًا؛ نفوسهم حرّةٌ كريمةٌ فلا تخضع لباطل ولا طاغية ولا مستبد، وعقولهم حرّة فلا يخضعون لهوى ولا تعصّب ولا انتماء ضيّق على حساب الانتماء الأرحب للإسلام؛ رجالٌ قال عنهم مصطفى صادق الرافعي: “ألا ليت المنابر الإسلامية لا يخطب عليها إلا رجال فيهم أرواح المدافع، لا رجال في أيديهم سيوف من خشب”.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من...

قراءة المزيد
Loading...