من يافا بدأ المشوار.. مذكرات شفيق الحوت

بواسطة | أكتوبر 8, 2023

بواسطة | أكتوبر 8, 2023

من يافا بدأ المشوار.. مذكرات شفيق الحوت

مع غروب شمس يوم الرابع والعشرين من شهر أبريل/نيسان عام 1948م، كانت يافا قد غابت تماما عن ناظر الشاب شفيق الحوت؛ ووصل قاربه إلى شواطئ لبنان بعدما أجبرته النكبة على مغادرة فلسطين.. كان رحيلا دائما بلا عودة، فقد عصفت به نكبة فلسطين وشعبها عام 1948م، فاستُلبت الأرض، واقتُلع الشعب، وتحوَّل المواطن لاجئا.
في هذه الأجواء عاش شفيق الحوت طفولته وغادر بلده فلسطين، وظل حنينه الدائم إلى يافا، حتى أطلق اسمها على مذكراته »بين الوطن والمنفى: من يافا بدأ المشوار».. ويسجل الحوت ذكرياته على الرغم من أن الجرح ينزف، والإحساس بالمرارة قائمٌ مما جرى لموطنه، لكن الذاكرة تقاوم النسيان بالكتابة.
تصف بيان نويهض زوجها شفيق الحوت وهو يكتب مذكراته بقولها: »كم كانت فرحتي كبيرة عندما أمسك بالقلم وبدأ يكتب مذكراته، وهو من عادته أن يكتب بأناقة، فإن أراد شطب فقرة أو تعديلها يرفض تشويه الورقة بالأسطر اللاغية أو بالمحو، بل يبدأ حالا بالكتابة على ورقة بيضاء من جديد، فهو من أعداء ما يُعرف بالمُسودة، وأما الكومبيوتر فكان أيضا من أعدائه، ويرفض التعامل معه، لكنه مع الأيام أصبح ودودا تجاهه، خصوصا بعد أن تعايش مع حسناته، وأنا مَن كان ساعي البريد بينهما، أي السكرتيرة الطابعة… كنت أسحب الورقة بعد أن ينتهي من كتابتها دون أن يشعر، ثم أذهب لطباعتها بهدوء، بينما هو مستمر في الكتابة، وكانت ساعات الليل الهادئة هي الأفضل.. ومر عام وأكثر.. وهو يكتب».
اعتبرتْ هذا العام هو الأجمل في حياتها مع رجل عاشت معه عمرها: «غير أنني في ذلك العام عشت معه عمره، عرفتُه في سويعات أحاديثنا عن هذه الصفحة أو تلك الفقرة أو ذلك العنوان، أكثر مما عرفتُه عبر عشرات السنوات، فمذكراته ليست مجرد أحداث وآراء ومواقف، بل هي مرآة للمشاعر وبوح من الأعماق، وهي تجليات الفكر في أتون نضال لا يهدأ، حتى لو هدأ. أما الأروع في مذكراته، فهو ما اكتشفتُه بعد أن صدرتْ في كتاب، وأنا من كنت أعلم حق العلم وأنا أطبع كل صفحة بخط يده، أنها مذكرات عن تجربة عمرٍ في النضال، عن جيل وثورة، عن شعب ما بين وطن ومنفى».
ثم نلمس أثر قراءة المذكرات في نفسها، وهي زوجته وشريكته في النضال ورحلة الحياة: »غير أنني وأنا أقرؤها بين دفَّتي كتاب، رحت أقرأ ما بين السطور كأنني أقرأ هذه الصفحات لأول مرة، ورحت أشاهد ما وراء الاجتماعات والنقاشات والخلوات، وهكذا عرفت شفيق الحوت أكثر، أو ربما عليَّ أن أقول إنني أصبحت على يقين أكثر مما عرفته عبر تراكم السنوات وتداعي الذكريات.. هو ذلك الإنسان المناضل الصادق، والمؤرخ العادل، وصاحب الكلمة النابعة من العقل والوجدان، مهما تتغير الأزمان… لم يعتبرها مذكراته الخاصة، ولم يجعل منها منبرًا للرد على من أساء يوما ما إليه، ولم يذكر شيئا عن الذين حاولوا الوقوف عثرة في طريقه في أي مرحلة من حياته، أو الذين أطلقوا الشائعات المغرضة ضده، ذلك لأن همّه الأكبر كان تقديم الصورة الحقيقية لإنجازات منظمة التحرير وإخفاقاتها».. وهذا الوصف جميل، وينضم عندي إلى وصف زوجات الأدباء والمناضلين، مثل زوجة المترجم سامي الدروبي، وهنرييت عبودي، زوجة الكاتب جورج طرابيشي.
وتعود بيان إلى وصف علاقة شفيق الحوت بالقراءة بقولها: »وهكذا، كانت من أبرز صفاته الرغبة في الحوار والبراعة في الحديث، غير أن هاتين الصفتين لا تنفيان حالة أُخرى بعيدة كل البعد عن الحوار، فهو لم يكن يجد الأمان إلا حين يتمكن من الاختلاء بنفسه محتضنًا الكتاب.. فهو الرفيق الذي لا يُبارى.. ومن أصعب أيام حياته كانت تلك التي تمر وهي مزدحمة بالعمل واللقاءات المتواصلة، إذ لا تسمح له بالمطالعة كما يرغب، وأكثر أيامه هناءً كانت تلك التي يتمكن فيها من مطالعة ما يشاء».. هكذا تعلَّق الحوت بالكتاب رغم كل شواغل الحياة.
خفة الروح ونكتة «بايخة» مع عبد الناصر
عندما قرأتُ سيرة الحوت توقفتُ أمام بعض الطُّرَف التي حكاها، فهي تعكس روحه الجميلة على الورق، ويبدو أن هذه الطريقة قد ألِف استخدامها مع أهل السياسة، لتخفيف الأجواء وبث الضحكة خلال الأحاديث الجادّة المتجهمة، أحكي بعضها الذي ورد في سيرته. فقد تعددت لقاءات شفيق الحوت مع عبد الناصر، وهو الزعيم الأقرب إلى قلب شفيق، الذي التقى معظم قادة العرب وحكامهم، لكنه لم يشعر مع أي من هؤلاء بالراحة والثقة والاطمئنان مثلما شعر مع ناصر، إذ كان يقول ما يشاء معه وبلا تحفُّظ أو رقابة ذاتية.. ففي إحدى الجلسات مع عبد الناصر، قال الحوت: «قالوا لي إن سيادتك بتحب النكتة.. وبمناسبة حديثنا أستأذنك في طُرفة شائعة عندنا».
وراح شفيق يروي لعبد الناصر قصة الرجل الذي كان يتوهم أنه «حبة قمح»، ولما عجز الأطباء بالمُهدّئات ومحاولات إقناعه بأنه إنسان، لا حبة قمح، لجؤوا إلى ضربه في كل مرة يساوره هذا الوهم حتى تاب، لكنه ذات يوم فوجئ وهو يتمشَّى في حديقة المستشفى بدجاجة تسير في اتجاهه، الأمر الذي دفعه إلى الهرب، فأمسك به أطباؤه، وجاؤوا بالعصا، فصرخ مستغيثا: لا تضربوني، أنا والله مقتنع أني إنسان، لكن من يؤكد لي أن الدجاجة مقتنعة بذلك!
وعلى الرغم من «سآلة» هذه الطُّرفة وما توحي به كما أحسُّ بها الآن، فإن عبد الناصر استمر في ابتسامته الرقيقة، وقال: «لا أنا ماضربش بالعصا، وأنا قلتلك على كل حاجة، وانت حر بقى».
ورغم جمال السيرة التي كتبها الحوت، فقد وقع في أسْر كاريزما عبد الناصر، فلم يقدِّم قراءة نقديّة لعهده، فقد كان الحوت من أسرة مجلة الحوادث، وهي ناصرية الهوى، وكان بين زملائه الصحفي أحمد شومان، وهو معروف بالهجاء في معظم ما يكتب وعمّن يكتب، ولم يكن عبد الناصر قد نجا من قلمه قبل انضمامه إلى الحوادث، وأراد مدير الحوادث، سليم اللوزي، “تطرية الجو” وطيّ صفحة الرجل الهجائية بالنسبة لعبد الناصر، فقدّمه إلى ناصر في لقاء جمعه بصحفيي المجلة بطريقة فكاهية فيها تورية، إذ قال: «هذا أحمد شومان يا سيادة الرئيس، لا شوم واحد»، فتلقَّف عبد الناصر الدعابة وضحك، ثم التفت إلى عبد الحميد السرّاج، وقال له: «الله! ما تضحك ويّانا يا عبد الحميد، ما خلاص»، فضحك الأخير، وحدثت المصالحة.
هيكل و«يا فاطر رمضان»
قصة أخرى تأتي على لسان الحوت عن الصحفي محمد حسنين هيكل وعبد الناصر، ففي عام 1963م، وفي منتصف شهر رمضان، اتصل الأستاذ محمد حسنين هيكل بشفيق الحوت يدعوه إلى زيارة العراق لمعرفة تفاصيل انقلاب البعث على عبد الكريم قاسم، وبعد زيارة بغداد، عاد الحوت إلى القاهرة، وأرسل إليه هيكل رسالة: «الريّس عايز يشوفك اليوم».
وبالفعل توجَّه الحوت مع هيكل إلى منزل ناصر، وقبل دخول الموعد توقَّف هيكل أمام المنزل للتدخين قبل الدخول على عبد الناصر، ومن المهم مطالعة وصف الحوت لهيكل، إذ اتضح له لحظة دخول منزل ناصر أن هيكل من أهله، يتصرف بحرية ويدخل مكتب الرئيس دون انتظار في الصالون، ولما دخل عبد الناصر حرّك أنفه كمَن يستطلع رائحة الدخان، وسارع الحوت بالقول: «والله يا سيادة الريّس أنا معذور، لأني على سفر وعدّتي من أيام أُخَر»، وتطلَّع الحوت إلى هيكل، فقال: «إنما هيكل ليه فاطر ما عرفش؟!»، فضحك ناصر من القلب وقال: «والله أنتم أحرار، بس أحب أقولكم حاجة، فوق عند ربنا مافيش وسايط وما حدش يقدر يتكلم».
وحوش في السودان
في مذكرات شفيق الحوت شهادة مهمة حول مؤتمر الخرطوم، الذي عُقد في أغسطس بعد هزيمة يونيو 1967م، إذ أطلقت اللاءات الثلاثة «لا صلح ولا تفاوض ولا اعتراف بإسرائيل»، وفي خضم مناقشات حول مشاركة أحمد الشقيري، ممثل منظمة التحرير الفلسطينية في اجتماع يُدعى له وزراء الاقتصاد والمال والنفط العربي لبحث الإجراءات الانتقامية ردًّا على ما حدث في هزيمة 1967م، أُثيرت الشكوك في صحة دعوة المنظمة، بحجة أن ليس لدى الفلسطينيين أي اقتصاد أو مال أو نفط.
طار الحوت إلى الخرطوم لمقابلة رئيس الوزراء السوداني محمد أحمد محجوب، وبنَزَقٍ مُحبَّبٍ حَسَم المحجوب موقفه ووافق وقال: «خلاص بكرة الصبح تصل دعوة الشقيري إلى المؤتمر»، فقال الحوت على الفور: «ولماذا إزعاج سفارتكم، من الممكن إبلاغ ممثلنا في المنظمة بالخرطوم»، فردَّ محجوب: «واسم ممثلكم إيه؟»، فقال الحوت: «السبع، سعيد السبع»، وحبكت النكتة مع المحجوب فقال: «هو إيه ده سبع وحوت؟!… هو إحنا ناقصنا وحوش في السودان؟!».
زوجة الحوت تطلب الطلاق
عندما تقابَل شفيق الحوت مع حافظ الأسد في أحد اجتماعات القيادة الفلسطينية، انتهز الحوت فسحة من الوقت ابتعد خلالها عن الكلام الرسمي، فقال للأسد كما يحكي لنا: سيادة الرئيس، أرجو أن تأذن لي بدقيقتين أطرح فيهما عليك مشكلة شخصية، فابتسم الأسد مندهشا، وقال: خير إن شاء الله.. ويتابع الحوت رواية ما جرى: «…فقلتُ له: زوجتي تريد أن تطلّقني! واتسعت ابتسامة الأسد وازداد فضوله، فأردفتُ: وبيدك وحدك إنقاذ الموقف، وأخذ الجميع ينظرون صَوْبي بدهشة حقيقية، إلى أن سمعوني أقول: يا سيدي، لقد سمحت لي بالعودة إلى موقعي في لبنان من البوابة السورية، وأنت تعلم ما خلّفته الحرب من آثار مأساوية على أبناء شعبنا في لبنان، فلا يوجد بيت لم يُصَب بأذى ما.. ومنذ أن عُدتُ وطابور أصحاب الحاجة يمتد نصف كيلومتر أمام باب المنزل.. ومنزلي يا سيادة الرئيس بات أكثر من مكتب، أصبح ديوانية مفتوحة.. وأم هادر ما عادت تحتمل».
وهذا التمهيد والشرح من شفيق الحوت عن ضيق بيته بمن يأتي إليه، كان يقصد به الوصول إلى موافقة الأسد على إعادة فتح مقر منظمة التحرير في لبنان، لكن الأسد ردَّ بأن هذا الموضوع مؤجَّل حاليًّا.
النكتة في تقرير للاستخبارات
كانت علاقة الحوت وثيقة بعديد من الشخصيات السورية، وفي إحدى الزيارات كانوا مجتمعين في إحدى قاعات فندق شيراتون، وكلهم طبعا من رجال الاستخبارات، ومع تكرار الزيارات صار بينهم تآلف وتفاهم.. واحد منهم راح يروي بعض النِّكات السياسية عن بعض المسؤولين السوريين، باستثناء الأسد، ولاحظ الضابط أن الحوت حريص على اتخاذ موقف حيادي، كَمَن وضع قناعا على وجهه، ولما استفسر منه عن سبب عدم ضحكه قال له الحوت: مهما حاولت، لن أسمح لك بأن تكتب في آخر الليل بأني ضحكت من نكتة عن هذا أو ذاك.. وكان ردي في حد ذاته أحلى نكتة، إذ قهقه الجميع.
ذبح سيبويه على يد عرفات
يشدد الحوت على ضرورة تشكيل وتحرير خطابات عرفات تفاديًا للمصائب اللغوية، ففي أحد المؤتمرات طلب الحوت من عرفات أن يشكِّل له كلمات الخطاب تفاديًا لذبْح سيبويه، فضحك عرفات وناوله الخطاب، والحقيقة كما يقول لنا الحوت أن عرفات لم يكن كثير المبالاة بتشكيل الخطاب، لأنه ثبت بالتجربة استحالة إفادة أبو عمار منه، لكن ما شغل بال الحوت هو الرغبة في مراجعة محتوى الخطاب، وتعديل الفقرات قبل الإلقاء، وهنا يأتي دور المستشار ومن يساعدك في ظهور خطابك بأفضل شكل، ولنتذكرْ أن مَن كتب خطاب عرفات في الأمم المتحدة هو الشاعر محمود درويش، فجاء آية في البيان اللغوي والسياسي، وأن إدوارد سعيد ترجم الخطاب ورفضه أبو عمار لعدم تقيده بحرفية النص، على الرغم من رفعة لغته.
تحتوي مذكرات شفيق الحوت ملفات مهمة في تاريخ القضية الفلسطينية، منها شهادته المهمة عن تجربة أحمد الشقيري ومنظمة التحرير وياسر عرفات واجتياح بيروت عام 1982م، والفساد في أحشاء المنظمة في فترة تونس، وموقف الحوت الرافض لأوسلو؛ وعندما اشتكى شفيق الحوت إلى صديقه الشاعر محمود درويش هذا الأمر، قال له درويش: «يا أخي أبا الهادر، هذه ثورة فصّلها أبو عمار على قياسه، فإمّا أن تقبل وإما أن ترحل»، إجابة قاسية بقدر ما فيها من الحقيقة، لذا فقد قرر شفيق الحوت الرحيل عن منظمة التحرير الفلسطينية.
أما عن أغلى الهدايا التي تلقاها، فيحكي شفيق الحوت: «إهداء إدوارد سعيد كتابه (سياسات الاقتلاع) إليه وإلى زوجته بيان الحوت، وشهادة إدوارد سعيد بأن الحوت رجل يستحيل إفساده».

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من...

قراءة المزيد
Loading...