مواقف الخليلي.. ريادة ومسؤولية

بواسطة | ديسمبر 10, 2023

بواسطة | ديسمبر 10, 2023

مواقف الخليلي.. ريادة ومسؤولية

كان المجلس مزدحماً في منزل الشيخ أحمد الخليلي في مسقط، فالشيخ ليس مفتياً عاماً للسلطنة وحسب، ولكنه أيضاً شريك متجذر في ضمير الشعب، بحكم أن الإسلام ظل يمثل القاعدة التاريخية للحمة وقوة الممانعة الاجتماعية في عُمان، وهذه الممانعة الدينية التي كانت وقود جيوش الأئمة في مقاومة بغي المشروع الغربي المتوحش، الذي حملت لشبونة إرثه التاريخي ذلك العهد، في سلسلة غزواتها للمنطقة، وخاصة ساحل الخليج العربي..لقد مثلت القوة الروحية الإسلامية، وقود الصمود له في خليج العرب، في معارك الأئمة الإباضية وبنو جبر العقيليون المالكيون والقواسم الوهابيون.
ورغم أن البرتغاليين ومَن خلفهم، استطاعوا النفوذ والتمكن السياسي بعد الاستعماري في الخليج العربي، فإن الممانعة القومية التي جسد الإسلام روحها الصلبة، في مواجهة تبعات هذا الغزو ظلت قائمة، على الأقل في معنى استقلال الفكرة الإيمانية الوجودية للأمة عن المشروع الكولونيالي الغربي، ما يطرح السؤال الكبير: أتغيرت المعادلة في علاقة الإسلام بجوهر الروح لشعوب إقليم الخليج العربي؟ أم لا يزال هو في رسالته وبعثه، القوة الوحيدة لبقاء الجوهر؛ وبالتالي فالتواطؤ على الرسالة سوف يزعزع هيكل الدولة في الخليج العربي، ولن يقف فقط عند نزع القوة الإيمانية من شعوبها، واقتلاع الدين من ضمير الأجيال؟.
ولعل هذا البعد العميق هو ما يعطي رمزية الإمام الإسلامي الخليلي، لا الشيخ الفقيه الإصلاحي الإباضي، وهو ما جعل أطياف عُمان تلتف حوله، كما أنه اليوم يفاجئ كثيرين بتضامنه وقوة حضوره -رغم تقدم عمره- في قضايا المسلمين، وبالذات في دعم شعب فلسطين في غزة، بكل قوة بيان في مواجهة العدوان الصهيوني الوحشي، المدعوم من الغرب ومن آلة عربية صهيونية ضخمة.
وهذا لم يفاجئني من عهدي بمجلسه سنة 2015 م حتى اليوم، بل كان حضور الخليلي متواصلاً في عدة قضايا للمستضعفين المسلمين، وفي حرب الإبادة التي جسدها الحزب الإرهابي المتطرف بهاراتيا جاناتا الحاكم في الهند ضد المسلمين، وكان الإمام الخليلي يخرق السقف الذي سيطر على شخصيات وهيئات المسلمين الرسمية، التي تورط بعضها في دعم ضمني للأنظمة الرسمية التي تقوم بهذه المذابح.
 وفي موازاة خطاب الخليلي، جاءت مواقف الإمام أحمد الطيب شيخ الأزهر، وسياسته المتواصلة في حضور بيانه وتصريحاته، وتفعيل روح الأزهر في ضمير الأمة، كأحد أبرز الواجهات التاريخية للمسلمين، وخاصة كونها المؤسسة الكبرى لأهل السنة في حاضر العالم المسلم، التي تقود الانفتاح والتواصل مع مدارس العالم الإسلامي؛ وقد مثَّل ذلك حالة رد اعتبار تاريخية يحتاجها المسلمون اليوم، في ظل الحصار الشرس من قوى العالم الآخر المتطرفة، سواءً في محور واشنطن أو موسكو، أو حتى بكين ودلهي.
فالواقع أننا أمام حقيبة مآسٍ كبرى لا تزالُ تنزف في داخل بلدان المسلمين، وفي تحديات المهجر، بعضها دموية عسكرية وبعضها سياسية وثقافية، وهذه الحالة يقابلها واقع متمزق في حاضر العالم المسلم، بسبب انقسام دوله وسياسات حكوماته، وحسابات كل منها الدقيقة، المتداخلة مع قوى البغي ذاتها، في الدولة (أ) أو الدولة (ب)، وهو ما يفاقم من مآسي المسلمين، خاصة وأن تعدد المحاور، انتقل إلى الواقع الإقليمي للمسلمين في المشرق العربي وفي آسيا؛ فالهند في قلب عالمنا الآسيوي، كما أن إيران الجارة المسلمة، تتوسط بين المشرق العربي المسلم وبين آسيا الهندية، وهي بذاتها تمارس حروباً على مسلمي المنطقة، بعضها عسكري دموي طائفي وبعضها سياسي ثقافي، يهدف لخلق فجوات ديمغرافية في قلب هذه الشعوب، وليس فقط في الصراع مع أنظمتها السياسية، أكانت ظالمة أو معتدلة نسبياً.
وكان السؤال دوماً يتردد عن موقف الإمام الخليلي من مشروع طهران، الذي صرح به ذلك الوقت خلال زيارتي ووفد علماء مدارس أهل السنة في الأحساء، الذي جاء لشكره على دوره التاريخي في الحفاظ على الوحدة الإسلامية، ونبذ الفتنة المذهبية في الخليج العربي، وفي المغرب العربي الكبير بعد أحداث الجزائر المؤسفة، التي لم يكن لها أي أرضية تاريخية مطلقاً، بين السادة الإباضية وبين المدراس السنية المتعددة في الوطن العربي.
لقد كان حديث الشيخ واضحاً وجلياً في إدانة مشروع إيران الطائفي، على الصعيد السياسي وغيره، ومشاعره بل مواقفه ضد أعمالها الإرهابية الخبيثة في سوريا وغيرها، وكان الحديث مشهوداً في مجلسه بحضور وفود عمانية من مناطق السلطنة، لكن هذا السؤال ظل يُطرح ويستخدم عند البعض، في محاولة لإعادة الفتنة السياسية في الإقليم، وهذه المحاولات ليست بريئة، بل هي جزء من حراك أمني مخابراتي خبيث، له خيوطه وجذوره في مشروع تطبيع الصهيونية الذي سبق حرب غزة.
ونحن نقول هنا بوضوح شامل، بأن الدولة في عُمان لها تقديرات بالغة الحساسية في علاقتها مع طهران، وهي علاقة تاريخية ممتدة حتى اليوم، وهي ترى أهمية تجنُّب أي توريط لمسقط في صراع جيوسياسي مع إيران، رغم تاريخ المواجهة العسكرية الكبرى بينهما، ودور الأئمة في وقف غزوها القديم للعراق، إلا أن ظروف عمان لا تقوم على هذه الثقافة، بل على تجنب أي مساحة توتر، ما يراعيه الخليلي كمفتي عام للسلطنة، وهي قاعدة تمتد على مساحة كبيرة من المواقف، لا يمكن أن نُزكّي كل سياسات عمان فيها، ونختلف معها كما كتبت قديماً، لكن مراعاة طهران والسعي للحياد، بل تطوير العلاقة معها أضحى ديدن دول المنطقة جميعاً.
وكان موقفنا القديم من السياسات العدوانية الخبيثة لإيران، التي اقتسمت المصالح مع الغزو الأمريكي والسياسة الصهيونية، بأنه يجب أن تُتجنب معها المواجهة العسكرية أو الوظيفية للغرب، وأن تُتجنب الحرب الطائفية التي ساهمت في خلق أرضية خطيرة، خسرت فيها الوحدة الإسلامية، وخسر العرب والفرس وحتى الأتراك، في ظل أرجوحة الغرب الكبرى، ولكن تتم مواجهتها بدعم الشعوب المظلومة والمحتلة منها، بالعمل السياسي الذكي والعون لهم، وبقاء بوابة المفاوضات معها، دون التورط في أي أعمال عنف، أو خطابات متطرفة تساهم في فتنتها الطائفية.
ولذلك لا معنى هنا لملاومة الخليلي، وحتى إن لم يوفق في الثناء على عمليات الحوثي الخاضعة للعبة الإيرانية، وهو ثناء يُحدد في موضعه من معركة غزة الكبرى، ومن العدوان الوحشي الإرهابي الصهيوني وصمود المقاومة في مواجهته، الذي أطلق الخليلي بيانه وافرد حضوره ومرابطته فيه، لدعم شعب فلسطين وغزة شعباً ومقاومة، فقاد المنصات الدينية الرسمية في حاضر العالم المسلم، بكل شجاعة وتجرد في زمن الخذلان الكبير، فاطووا ألسنة فتنتكم عنه أو سدوا المكان الذي سد!

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من...

قراءة المزيد
Loading...