عن الفرسان الذين لا نعرفهم ولكن الله يعرفهم

بواسطة | نوفمبر 29, 2023

بواسطة | نوفمبر 29, 2023

عن الفرسان الذين لا نعرفهم ولكن الله يعرفهم

في صمت القادة الإسلاميين، نجد نماذج لا تُظهر في الشاشات، ولكنها تُحدث تأثيراً كبيرًا في أروقة العمل الإسلامي. ينبغي على المجتمعات دعم هذه الشخصيات وتسليط الضوء على إرثهم لتحفيز الأجيال الجديدة.

في صمت القادة: نماذج رائدة في العمل الإسلامي تُحدث التأثير بعيداً عن الأضواء

رضي الله عن أمير المؤمنين عمر بن الخطّاب..
“فبينما كانت رحى معركة نهاوند تدور على أرض الفرس بقيادة النعمان بن مقرن، كان عمر بن الخطاب، رضي الله عنه بالمدينة المنورة يدعو الله وينتظر مثل صيحة الحُبلى، حتى كتب إليه حذيفة بن اليمان بالفتح مع رجل من المسلمين، فلما قدم عليه قال: أبشر يا أمير المؤمنين بفتح أعزّ الله فيه الإسلام وأهله، وأذلّ فيه الشرك وأهله؛ قال عمر: النعمان بعثك؟! قال: احتسب النعمان يا أمير المؤمنين؛ فبكى عمر واسترجع ثم قال: ومن ويحك؟ فقال: فلان وفلان وفلان.. حتى عد أناسا كثيرين، ثم قال: وآخرين لا تعرفهم يا أمير المؤمنين!. فجعل عمر يبكي ويقول: وما ضرهم ألا يعرفهم عمر؟ ولكن الله يعرفهم، وقد أكرمهم بالشهادة؛ وما يصنعون بمعرفة عمر؟! ويحَ أمِّ عمر!”.
في معركة غزة وغيرها من معارك الأمة يتحرك في ميادين العمل المختلفة، الجهادية والسياسية والإغاثية والإعلامية والميدانية والشعبية، فرسان من نوع مختلف؛ فرسان في ميادين العمل والتفعيل والتحشيد والسعي المادي والمعنوي، تعرف غزّة جيّدًا جهدهم وجهادهم لأجل تخفيف وطأة الحصار عن أهلها، وإيقاف الحرب الهمجية وتخفيف آثار المجازر المروعة، وتعرفهم الضفة وهم يسعون بلا كلل ولا ملل في سبيل رفدها بالدعم المادي والإسناد المعنوي رغم حصار الصهاينة ومن والاهم، وتعرفهم القدس وأقصاها، وتعرف مخيمات اللجوء في منافي الأرض حدبهم على الأرملة والمسكين، وسعيهم على الضعيف والمنكوب، وتعرف القضايا العادلة في الأمّة حرصهم على مشاريعها لتمكين الشباب وتثبيت أهل الحق في مواجهة الطغاة المستبدين.
فرسان يَلقوْنك على الدوام بابتسامتهم التي لا تفارق ثغرهم في أقسى الظروف وأشدها، يحتفون بك في كل مرة بحرارة اللقاء الأول، ويفرضون عليك أن تذوب خجلا من فرط تواضعهم الفطريّ الذي لا تكلّف فيه، ومن عظيم ذوقهم وأدبهم الجمّ الذي لا تصنُّعَ فيه.
فرسان جسّدوا بشكل عمليّ، بعيدا عن دورات التدريب ومحاضرات التثقيف، حقيقة القائد الذي يهيمن على القلوب لا على الرقاب. ولله درّ القائد حين يجمع بين التواضع والعزّة، والدماثة والحزم، والعمل والتخطيط، والجهاد والبصيرة، والحركية والرشد، والرحمة والقوة.
فرسان تلاحقهم الأنظمة التي تقضّ مضجعها ابتسامة اليتيم والربط على جرح مكلوم، ويثير رعبها نصرة المظلومين وحقن دماء الأبرياء، وتصمُ بالإرهاب كل من سعى لإيصال الدعم إلى المظلومين والمشردين؛ فيعانون من صنوف الاعتقال عند أنظمة الاستبداد والقمع، ويذوقون التشريد في منافي الأرض بصمت وصبر واحتساب.
فرسان يرحلون كما النسر شموخا وكما ترحل الأشجار وقوفا؛ لا يعرفهم الكثيرون من أبناء الحركات الإسلامية فضلا عن غيرهم، فهم ليسوا من أهل الشاشات ولا من متصدّري وسائل الإعلام، ولا هم من فرسان التريندات والهاشتاغات على وسائل التّواصل الاجتماعي.
وبعد رحيل هؤلاء القادة الأفذاذ، تتحمّل الحركات والجماعات والتيارات الإسلامية قبل غيرها مسؤولية كبيرة تجاه هذه النوعية من القادة الذين يمثّلون جانبًا مشرقًا ونادرًا من العمل الإسلامي، غير أنهم يرحلون بصمت بعيدًا عن ضجيج الإعلام.
إن هذا النوع من الشخصيّات القيادية ما هو إلّا نموذج لما يتطلّع شباب الأمّة لرؤيته في العمل الإسلاميّ، لكنهم لا يطّلعون عليه بسبب هيمنة وسطوة وسائل التّواصل الاجتماعي، التي لا تكون هذه الشخصيّات الفذّة عادة من رموزها.
وهنا يمكننا القول: إن صمت هذه الشخصيات حيال حياتها هو ضرب من الإخلاص الفرديّ، وهذا الإخلاص الفرديّ يزيد في المسؤولية الجماعية تجاهها على الأطر التي تنتمي إليها هذه الشخصيات.
إن بعض الواجب تجاه هذه الشخصيات الراحلة بصمت، وهي تمثّل نماذج فذّة وصورًا ناصعة في العمل الإسلاميّ، أن يتمّ تقديمها بوصفها رموزًا تُحتذى ونماذجَ تُقتفى آثارها؛ فتُنشرَ سيرتُها كما تُنشر سيرُ عظماء التاريخ والقادة الأوائل، وتقدَّم للشباب والناشئة بصور متعدّدة، مقروءة ومرئيّة ومسموعةٍ، كي يعرفوا أن في العمل الإسلامي جوانب مشرقة لا تتيح لها الظروف الخروج إلى العلن، وحتى تعرف الأجيال أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ترك من بعده رجالًا في زمنٍ عزَّ فيه الرِّجال.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من...

قراءة المزيد
Loading...