الفارق بين مانديلا.. وحُكّام “منابع الحكمة”!

بواسطة | يناير 23, 2024

بواسطة | يناير 23, 2024

الفارق بين مانديلا.. وحُكّام “منابع الحكمة”!

يتناول هذا المقال الشجاعة والإرث السياسي لنيلسون مانديلا، القائد الجنوب أفريقي الذي أثبت أهمية التحلي بالتسامح والمثابرة في مواجهة الظلم. يسلط الضوء على دوره في جلب الكيان الصهيوني أمام محكمة العدل الدولية وتحفيز الحكومات العربية على التحرك.

نيلسون مانديلا – دروس القائد العظيم في مواجهة الظلم وتحقيق التغيير

لو يدري قادة وساسة جنوب أفريقيا مدى الشعبية الجارفة التي اكتسبوها في عالمنا العربي، بعد خطوتهم الشجاعة بجرّ الكيان الصهيوني إلى ساحة محكمة العدل الدولية، لأدركوا أكثر وأكثر معنى وقيمة ما يفعلون.. معنى أن ينتظر منهم أكثر من 340 مليون عربي يسكنون مساحة 14 مليون كيلومتر مربع، تحقيق نصر – ولو معنوي- على كيان يُعربد في منطقتهم منذ نحو 75 عاماً، دون تصرُّف أو رد فعل ملموس من مسؤولي المنطقة أنفسهم على اختلاف مشاربهم.

مواقف حاسمة في وجه المأساة في غزة

مع مرور أكثر من 100 يوم من حرب الإبادة، التي يشنها مجرمو العصر على المدنيين العُزل في قطاع غزة، لم ير العرب من أصحاب القرار سوى مصمصة الشفاه تعبيراً عن الأسى والأسف، مشفوعة ببيان إدانة من هنا، أو لقاء دبلوماسي هناك، كلها لم تفلح في وقف مسلسل المذابح.. الخطوة الجدية الوحيدة كانت من “أبناء نيلسون مانديلا” في أقصى الجنوب الأفريقي، فلاحقوا قتلة الأطفال بتهمة الإبادة الجماعية أمام جهة دولية؛ إذ يبدو أن قيم وثوابت مانديلا راسخة في  بلاده بالتعاطف مع الشعوب المقهورة، ودعم حركات التحرر الوطني في العالم، بينما الغالب في عالمنا العربي أن يسير أي حاكم جديد على نهج سلفه بـ “أستيكة”، حتى لو كان نهج هذا السلف لا يستدعي التغيير أو التعديل.

ورفع حركات التحرر مثل “حماس” السلاحَ في وجه العدو ليس إرهاباً، ولا ننسى أن مانديلا رفض – وهو داخل السجن- دعوات الغرب له أن يدعو أنصاره إلى التخلي عن الكفاح المسلح في مواجهة نظام الفصل العنصري، مقابل التدخل الغربي لحل المشكلة سلميّاً؛ لذا كان النصر حليفه بعيداً عن “ميوعة” التفاوض واستجداء الحرية، التي أيقن وشعبَه أنها ليست هبة من السماء، بل تُنتزع انتزاعاً.

عظمة مانديلا ودروس السلام

عظمة مانديلا ليست فقط في إصراره على رفض إلقاء السلاح حتى القضاء على نظام الفصل العنصري، وليست أيضاً في نشر روح التسامح بين أبناء بلاده “السود والبيض”، وهي كذلك ليست فقط في ترسيخ دعم قضايا التحرر الوطني – وفي مقدمتها القضية الفلسطينية- كنهج ثابت في بلاده خلال حياته ومن بعده.

لكن..

 من يقرأ مذكرات الرجل التي تحمل عنوان “حوار مع نفسي” سيكتشف فيها عظمة مانديلا السياسي والإنسان على حقيقتها، إذ يظهر فيها بلا مساحيق تجميل، على عكس أمتنا التي تكاد تصل بالحاكم إلى درجة “نصف إله”.

بعظمة الكبار وكبر العظماء، يقول مانديلا عن نفسه: “لم أكن يوماً قديساً، حتى بالمفهوم الدنيوي للقديس، باعتباري إنساناً خطـّاء لكنه يستمر في المحاولة لتحسين ذاته”، مضيفا في كلام لا يمكن أن يصدر عن قامات تساوي عُشر قامة هذا الزعيم الكبير، الذي تحول إلى رمز عالمي للمصالحة في القرن العشرين: “في شبابي، كنت أجمع بين كل مَواطن الضعف والأخطاء وأعمال الطيش، التي يمكن أن يرتكبها فتى ريفي، كانت نظرته للأمور وتجربته متأثرة بشكل خاص بالأحداث التي كانت تجري في المنطقة التي ترعرع فيها، والمؤسسات التعليمية التي ارتادها؛ وكنت أعتمد على العجرفة لإخفاء مواطن ضعفي”.

هذه الكلمات دفعت الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما، الذي كتب مقدمة الكتاب إلى القول: “بتقديمه لنا هذه الصورة الكاملة يُذكّرنا نيلسون مانديلا بأنه لم يكن رجلاً مثالياً، بل كانت له أخطاؤه مثلنا جميعاً، لكن تلك العيوب تحديداً هي التي يجب أن تلهم كل واحد منا”.

هنا مربط الفرس في ضرورة تقديم الشخصيات التاريخية على حقيقتها، حتى يستطيع الجيل الجديد أن يتعلم من سلبياتها، ويعمل مثل هؤلاء الزعماء فيحوّلها إلى مصدر “إلهام” ودافع للأمام بعد أن يتعلم منها.

مانديلا بإرثه الذي كان وراء سحب الكيان الصهيوني إلى محكمة العدل الدولية، سبَّب إحراجاً كبيراً لمسؤولين عرب كُثر أمام العالم؛ وإنه يواصل إحراجهم في نظرته للسلطة، إذ لم يكتفِ الراحل العظيم بالاعتراف بأخطائه، بل أعطى أيضاً درساً جديداً للحكام اللابدين على كراسي الجاه والصولجان، والذين لم يتوقفوا للتمعن في حكمة تركه الحكم وهو فى عز مجده بعدما أنهى نظام الفصل العنصرى، وفي دعوته أبناء جلدته السُمر – في سمو إنسانى راقٍ وبحنكة سياسي داهية- إلى طيِّ صفحة “العنصرية البيضاء”، والتسامح مع أبناء البشرة الأخرى في البلاد، ليقـيَ جنوب أفريقيا شر حرب عرقية مدمرة، وليبقى أصحاب رؤوس الأموال البيض في البلاد، فلا يهربوا بها إلى لخارج ويخرب اقتصاد الدولة.

لقد ترك مانديلا السلطة وهم استمروا، سواء  بشخوصهم أو عبر من هم على شاكلتهم.. لكنه لم يتركهم في حالهم، وكشف في مذكراته عن أنه لم يكن يريد أن يصبح رئيساً، وكان يفضل أن يصبح شخصاً أكثر شبابا كأول حاكم أسود للبلاد، مؤكدا أن تنصيبه حاكماً فُرض عليه دون رغبته.

بوضوح يرى هذا الزعيم أن الحاكم الشاب يستطيع العطاء أكثر.

إن السلطة بالنسبة لرجال مثل مانديلا، ونظرا لجسامة مسؤولياتها، هي أشبه بامرأة مشاكسة نكدية يحاولون الهرب منها، لكنها تتحول عند حكام عالمنا الثالث الزاهر إلى فتاة فاتنة، يسقطون أمام أول رمش منها.

الحكام من الصنف الذي أعنيه حوّلوا بلدانهم إلى “شركات خاصة”! الواحد منهم يُصدق نفاق المستفيدين وأصحاب المصلحة في بقائه، ويقتنع أنه “منبع الحكمة”، وأن الوطن وُلد يوم مولده، وعندما تناشده الأصوات العاقلة أن يفعل مثل مانديلا، فيترك السلطة بإرادته ويُصدر مذكرات صادقة على غرار “حوار مع نفسي”.. وقتها سيجيب بدهشة: يعني إيه “حوار”؟!

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على حساباتنا

مقالات أخرى

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

حرب إسرائيل على أطفال فلسطين

"رأيت أطفالًا محروقين أكثر مما رأيت في حياتي كلها، رأيت أشلاء أطفال ممزقة".. هذه كلمات الدكتور مارك بيرلماتر، طبيب يهودي أمريكي، في شهادته حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مقابلة له على قناة CBS، قدم الدكتور بيرلماتر وصفًا صادمًا لمعاناة أطفال غزة.. الدكتور...

قراءة المزيد
جريمة اسمها التعليم!

جريمة اسمها التعليم!

قالوا قديمًا: "عندما نبني مدرسة، فإننا بذلك نغلق سجنًا".. وذلك لأن المدرسة في رأيهم تنير الفكر، وتغذي العقل، وتقوِّم السلوك؛ وذهب بعضهم إلى قياس تحضر الدول والشعوب بعدد مدارسها وجامعاتها. ومع إيماني الخالص بقيمة العلم وفريضة التعلم، فإنني أقف موقفًا معاديًا تجاه مسألة...

قراءة المزيد
أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

أيُضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً؟

لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً، طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية، وما يترتب عليها من...

قراءة المزيد
Loading...